مجلة الرسالة/العدد 764/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (726)
→ معروف الأرناؤوط | مجلة الرسالة - العدد 764 مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (726) [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 23 - 02 - 1948 |
6 - في الوجود وعلله
للأستاذ كمال الدسوقي
ابن سينا والإشارات:
تجدون الترجمة الكاملة لحياة ابن سينا وكتاباته، وأسفاره وتجاربه وأشعاره؛ كما دنها ورواها تلميذه أبو عبيد الجوزجاني؛ في تاريخ الحكماء لابن أبي أصيبعة (جزء2 ص1 - 16) الذي يوجد في مكتبات مدارسكم وأقاليمكم، وفي مقدمة كتاب منطق المشرقيين - الذي قالوا إنه القسم المنطقي من كتاب (الشفاء) لابن سينا، والذي نشر في مصر غير مرة: تجدون ذلك كله في هذين المرجعين وفي غيرهما بما لا تحتاجون معه إلى مزيد من الإيضاح.
ومنه يتبين لكم أن ابن سينا (373 - 427هـ) لم يبلغ السادسة عشرة حتى كان قد ألم بالكتب الأولية في الحكمة رياضية وطبيعية ومنطقية، وأما ما بعد الطبيعة، فقد هداه إلى فهم ما استغلق من تعاليم أرسطو فيها كتاب أبي نصر الفارابي، كما فقهه إسماعيل الزاهد) من قبل في مسائل الفقه والخلاف، وأبو عبد الله الناتلي المتفلسف في الحساب والهندسة وعلم الهيئة (الفلك) ورياضيات إقليدس؛ وأنه منذ ذلك الحين قد دأب على المطالعة والدرس حتى أتيح له في هذه السن أن يلحق بخدمة الأمير نوح بن منصور الساماني فيمن لحق من الأطباء المعالجين؛ وأنه انفرد من بينهم في الوقوف على مكتبة الأمير والإحاطة بما فيها، حتى اتهم بحرقها ليتفرد بعلم ما حوت؛ وأنه قد حصل حينئذ كل ما صار له من علم ومعرفة، فلم يزد على علمه فيما بعد ذلك شئ - كما قال هو؛ وأنه لم يكن بعدئذ يقرأ كتاباً على الولاء، بل يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكلة ليتبين ما قاله صاحب الكتاب فيها - على نحو ما حدثنا الجوزجاني المذكور.
وأتم الشيخ الرئيس مرحلة الدرس وهو ابن ثماني عشرة سنة، وبدأ يكتب ويصنف، وكانت تصانيفه في ذلك الحين على الطريقة الأرسطية، تأخذ معظم مادتها من هذه الفلسفة اليونانية بادئة أولاً بالمنطق الآلة التي تعصم الذهن من الخطأ في التصور والتصديق والاعتقاد الصحيح، ومثنية بعد بالطبيعيات وما يتعلق بها من رياضيات وحساب وهيئة وموسيقى، ومختتمة في النهاية بما بعد الطبيعة أو العلم الإلهي كما سماه الإسلاميون ملحقين به الحديث عن النبوة والمعاد والخلاص من الدنيا، تجد هذه الفلسفة الأرسطية في معظمها في أهم كتب ابن سينا الأولى (كالمجموع) (الشفاء) ومختصره (النجاة) وفي رسالته في النفس التي كتبها إلى الأمير نوح بن منصور والتي تشبه أن تكون تعريباً لكتاب أرسطو (في التنفس).
أما الكتاب الذي بين أيديكم فهو من نوع مخالف لنوع هذه الكتب: وهو يمثل الفلسفة المشرقية في تمام نضجها عند ابن سينا وغيره، تلك الفلسفة التي لا تأخذ عن أرسطو إلا بمقدار ما تأخذ عن أفلاطون وأفلوطين والمتكلمين والصوفية من الإسلاميين والفرس، مكونة من هذه في جملتها مذهباً خاصاً، وروحاً جديدة، فيها طرافة وفيها عمق وإمتاع هي بعض ما يتميز به كتاب (الإشارات والتنبيهات) لأبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا.
ولعل الظروف التي أحاطت بتأليف هذا الكتاب قد هيأت له أن يكون على هذه الصورة من العمق والجلال: فهو لم يكتبه استجابة لطلب أصحابه أو أميره كما ترى في سائر كتبه إنما كتبه وهو سجين بقلعة (فردجان) حين اتهم بأنه يكاتب سراً علاء الدولة أمير أصفهان. ويصف هو محنة السجن هذه التي كتب أثناءها هذا الكتاب بقوله في آخر صفحة من إشاراته: رقمت معظمها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال، بل في أزمة يكون كل منها ظرفاً لغصة وعذاب أليم. . . ما مضى وقت ليس عيني فيه مقطراً. ولا بالي مكدراً. . . الخ ص145 حـ2) كما إن سجنه عند الإسماعيلية (الباطنية) هؤلاء قد جعله يذهب مذهبهم في التستر والإخفاء، والضن بكتابه ذاك على من لم يؤت الفطنة أو الدربة، أو كان من الجاهلين المبتذلين، والملاحدة المكابرين؛ وفي التوصية بالحرص على تخير من يهدي إليهم في هذا الكتاب واختبارهم، صوناً لهذا العلم من الضياع - كما نبه على ذلك في آخر الكتاب (ص143 - 144 حـ2) وكرر ذلك التنبيه في أوله (ص2 حـ1) بشروط واختبارات خاصة، نرجو أن تتوافر كلها لطلاب المسابقة حتى يتهيأ لهم أن يقفوا على حقيقة هذا الكتاب.
وكما يتضح من أول كلمة للشيخ أبي علي في كتابه: الإشارات إنما تشعر إلى الأصول - والتنبيهات تنبه على الجمل، هذه تتعلق بالمبادئ العامة، وتلك بالقضايا الخاصة، والذي تشير له هذه أو تنبه عليه تلك؛ مسائل من العلم الطبيعي والإلهي مختلطة، يتدرك فيها ابن سينا من المحسوس إلى المعقول، ومن المادة إلى الصورة، ولذا نجده قد قسم أبواب هذا الكتاب إلى أنماط - على عكس المنطق الذي تنقسم أبوابه عنده إلى أنهاج - لأن النمط ضرب من البسط والتمهيد يقصد لذاته - بينما النهج ممهد لكل سالك إلى غاية معينة مما يحقق الغرض من المنطق كعلم لمناهج العقل - وكم في النمط الواحد من (إشارة) إلى أصل من الأصول، و (تنبيه) على جملة من الجمل، أو (وهم) من الأوهام، و (تذنيب) أو خاتمة ونتيجة لكل ذلك.
والكتاب الأول من الإشارات في خمسة أنماط. يهمنا منها الرابع (في الوجود وعلله) (ص189 - 214) والوجود المطلق الذي لا علة له على الإطلاق، أي الوجود في ذاته من حيث هو وجود؛ والوجود الآخر الذي هو محمول على أشياء مختلفة - هي معلولة له، والوجود عارض فيها وليس من ماهيتها، ومباحث هذا النمط - كما لخصها الرازي - ثمانية: (1) الرد على من لا يؤمن بوجود إلا المحسوس، (2) العلل بوجه عام (3) إثبات واجب الوجود (4) ووحدته (5) وتجرده عن الكثرة والنوع والجنس والعقل والحس، (6) ومن الضد والشبيه، (7) هو عاقل ومعقول (8) تلك خير الطرق لإثباته.
والنشرة المتداولة لهذا الكتاب، هي تلك المطبوعة في المطبعة الخيرية بمصر سنة 1325هـ، المشتملة على شرحي العلامة فخر الدين الرازي (في الهامش الخارجي) والخاجه نصير الدين الطوسي (هكذا تنطق في الفارسية بمعنى الأستاذ) - وكلاهما عالم محقق قام على شرح الإشارات مع فارق بينهما غير كبير - لا يعنيكم أمره - وحسبكم أن تتخيروا لأنفسكم أي الشرحين على هذا النص (المذكور في كليهما بين أقواس) - فإذا تعذر عليكم تفهم الواحد فليكمل بشرح الآخر.
2 - العلل الأربع:
وابن سينا - قبل أن يشرع في تفصيل علل الوجود - ينبه على ما قد يتبادر لأذهان العامة من أن كل موجود فهو محسوس، وأن كل ما لا وضع له في المكان وفي الجهة وفي سائر أحوال الجسم المحسوس فلا نصيب له من الوجود - وهو رأي المشبهة ومن لفّ لفهم - فإننا حين نتأمل هذه المحسوسات الجزئية نجدها تشترك في معنى كلي مجرد - كالإنسان الذي أفراده زيد وعمرو من الناس - الواحد منها محسوس، له وضع ومقدار وأين وكيف، ومن هذا المحسوس يأتي معنى الإنسان المجرد من الكم والكيف والأين والوضع الذي هو الإنسان الحقيقي - والمعنى الكلي للإنسان من حيث هو حيوان ناطق.
فإن قيل إن هذا الإنسان بالمعنى الكلي الثاني موجود في العقل لا في الخارج، ونحن نقصد الوجود الخارجي لا الذهني؛ قلنا إن معنى الإنسانية لا يوجد في الذهن إلا مقترناً بالإنسان الواقعي المحسوس المشترك في التصور العقلي المجرد لكلمة إنسان. وسقط بذلك الاعتراض.
وإن قيل إن للإنسان هنا كفرد تصوراً ذهنياً كلياً من حيث هو يتركب من أعضاء كثيرة مختلفة يشتمل عليها مفهوم كلمة (إنسان) بالمعنى الفردي، قلنا إنه يسهل دفع هذا الاعتراض بتصور نفس الحال في كل عضو من أعضاء الإنسان أي أن يكون لكل منها وجوده في الذهن كلياً مجرداً فضلاً عن وجوده في الواقع والحقيقة.
وحجة أخرى تلزم أولئك الذين لا يعترفون بوجود إلا للحسي من الأشياء، والموهوم من الموجودات، هي أنه عن المحسوسات يأتي الحس، وعن الموهوم ينشأ الوهم، وهي ليست أموراً حسية، فإن أنكروها وجب أن ينكروا ما يتعلق بها والعقل الذي يحكم عليها ويميز بينها، دون أن يكون محسوساً ولا موهوماً هو الآخر. وقل مثل ذلك في طبائع الأمور المدركة بالوهم كالعشق والخجل، والشجاعة والجبن - التي ليست تدرك بالحس، وإن تعلقت بالمحسوس والموهوم من الأشياء. والنتيجة التي يخلص منها الشيخ الرئيس بعد إدحاض هذه الأوهام ودفع ما يعترض به عليها - أن كل موجود فإن له ماهية مجردة عن كل مشخصاته الحسية - هي التي يتحقق بها وجوده، وإن لم تكن محسوسة ولا موهومة.
ذلك أن الشيء إنما يتحقق وجوده بإحدى اثنتين: إما بماهيته وحقيقته كالمثلث من حيث هو سطح وأضلاع تحيط به وتحدده - أي من حيث مادة المثلث والصورة الناشئة له من مجموع هذه المادة أي المثلث بالقوة والمثلث بالفعل وإما بوجود ذاته من حيث موجده أو المؤثر في حدوثه، وما لأجله وجد - أي من حيث فاعله، ومن حيث غاية وجوده، وعلل الوجود الأربعة هي إذن قسمان: علتا الماهية، وعلتا الوجود، الأوليان منها هما: العلة المادية والعلة الصورية وعلتا الوجود هما العلة الفاعلة أو علة الفاعلية والعلة الغانية - الأوليان جزء من الشيء لأنهما الشيء بالقوة (المادة) والشيء بالفعل (الصورة). والأخيرتين ليستا جزءاً منه - بل هما فاعله (أو موضوعه بالقوة)، وغايته (أي تحققه بالفعل)، ولذا كانت العلتان الأولى والثالثة سالبتين والثانية والرابعة موجبتين.
والفرق بين علل الماهية وعلل الوجود يتبين في الفرق بين وجود الشيء في ذاته ووجوده في الأعيان؛ الأولى تلزم الشيء لتحقيق ذاته في الخارج وفي العقل، ومقومات هذه العلل هي الجنس والنوع والفصل. . . مما يدخل في باب المنطق، أما الأخرى فيفتقر إليها الشيء في كونه موجوداً كالفاعل والغاية. وابن سينا يخصص هذا الفصل لدراسة هذه الأخيرة، بعد إذ فرغ من الأولى في المنطق. مما سنتابعه فيه في المقال التالي.
كمال الدسوقي