الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 763/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)

مجلة الرسالة/العدد 763/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)

مجلة الرسالة - العدد 763
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 02 - 1948


الحرية

للأستاذ كمال دسوقي

5 - حرية التصرف:

وعلى أساس هذه الحرية العقلية التي قررها (مل) بوضوح وجلاء حتى الآن، تترتب الحرية العملية في التصرف، فللإنسان مطلق الحرية في إبراز آرائه من حيز الفكر إلى حيز العمل، ومن نطاق العزم إلى نطاق التنفيذ، مادام أن عواقب هذه الأمور قاصرة على صاحبها، ومادام تنفيذها ليس من شأنه أن يضر بالغير، فحرية الفعل والعمل هي الشق المتمم لحرية الفكر والقول. على أن استخفاف الناس بهذه الحرية الشخصية في ناحيتيها، وقلة إيمانهم بها، وعدم حرصهم عليها ومراعاتهم لها، وإغفالها كذلك في برامج الفلاسفة والمصلحين، هو العقبة دون تحقيقها، ولو قد حرص أولئك وهؤلاء فيما يرى (مل) - على امتلاك هذه الحرية والإبقاء عليها وحسن استخدامها؛ لما كان للمجتمع في أي أمر من أمورهم أدنى تدخل، ولو كان ذلك بإرادتهم أنفسهم.

وإنما تأتي ضرورة هذه الحرية الشخصية في الفكر والعمل جميعاً، من أنها لابد لازمة لنمو الملكات، وظهور المواهب، ولا يتأتى ذلك للأفراد إلا بأن يلموا أولاً بتجاريب السلف وخبراتهم، وأن يستفيدوا بها بادئ الأمر، حتى يتهيأ لهم تأويلها وتحويرها بما يوافق ظروفهم ومواقفهم، وحتى لا يصدرون في أفعالهم وآرائهم عن تقليد وجمود وانسياق، بل اختيار ومفاضلة ومران عقلي وشجاعة أدبية، تتحقق معها نفوسهم بما هي نفوس إنسانية، وتنتظر ملكات هذه النفوس من ملاحظة وتأمل، وحكم وتدبر، وعزم وإرادة. فلم توهب هذه الملكات لنعطلها ونقضي عليها بحجة التسليم للمشيئة - وفي هذا ما يكفي للرد على أنصار المذهب الكلفاني - ولن يكون إنكار الذات بالنسبة للشخص أكثر شرفاً وفائدة من تقرير الذات بالنسبة للمجتمع، فإن في ارتقاء شخصية الفرد علواً بنفسه ومجموعه وخصباً لحياتهم خصوصاً وأن آفة مجتمعنا الحديث لم تعد طغيان شخصية الأفراد وبطشها وجماحها بقدر ما في خضوعها للمجتمع واستكانتها لرغباته، وانقيادها لإرادته في العادات وأخص الخصائص كالذوق والحب والكره، مما يترتب عليه تضاؤل شخصية الفرد بجانب شخصية المجموع، حتى لقد وجب على المجتمع أن يتدخل لتربية الذوق وتهذيب الحس وإذكاء الضمير في كل فرد. رعاية لمصالح المجموع، حتى يوجه عواطف الأفراد وميولهم هذه الوجهة. وفي هذا رد كذلك على الذين يقولون بضرورة حد العواطف والنزعات مع حرية العقل والفكر.

حرية التصرف إذن حق ثابت لجميع أفراد المجتمع خاصهم وعامهم، لا الحرية المطلقةالكاملة التي لا تعرف حدوداً، بل القدر الذي لا يتعارض مع حرية الغير، أو يترتب عليه اعتداء القوي على الضعيف، ولا ضير على الحرية الشخصية من هذا القيد مادامت تعوض عن تقييد الأناني منها بإنماء الشطر الإجتماعي والخلقي: أما إن حرية التصرف لازمة للخاصة أو العباقرة - على قلتهم - فذلك لأن المجتمع في حاجة أبداً إلى من يفتح عينيه على أخطائه، ويسن له عاداته وتشريعه وتقاليده في تطور تاريخه ويبتكر له ما يرقى حياة أهله في الفكر والعمل، ويلفت فيه روح الحياة والتقدم، ولا يتأتى ذلك إلا بتنشئة الأفراد جميعاً في جوّ صالح يعين على إظهار مواهبهم، والاستفادة بهم، فهذه الأقلية الممتازة هي القادة، وإلى هذه الأرستقراطية الفكرية يجب أن يوكل زمام الحكم، فإن حكومة الطبقة المتوسطة هي كذلك متوسطة، وكل شذوذ في المجتمع دليل على وعيه وعبقرية أفراده وابتكارهم. فهم سيقودون وطنهم وإن لم يحكموا، وأما ضرورة الحرية الشخصية للعاديين من الناس فحجتها أن تنوع الأفراد في المجتمع، وتنوع ظروف الفرد الواحد منهم، يستتبع منتهى الحرية في تنويع أساليب الحياة والتصرف التي يأخذ بها الفرد في كل ظرف يواجهه، حتى يتكيف في بيئته، ويوائم بين نفسه ومجتمعه، على نحو يجعله غمير عاجز عن النهوض بنفسه.

و (مل) يشير في غير موضع من هذا الفصل إلى الدور الخطير الذي يقوم به المجتمع في محاربة العباقرة وتحبيذ حكومة الطبقة المتوسطة، وإلى تعصب الرأي العام فيه على أي مظهر من مظاهر التفوق والامتياز، وإلى تحكم العادة واعتراضها سبيل ل تجديد وإصلاح، وإلى أن الخلاف وتنوع المذاهب وعدم المماثلة - أي في كلمة فون همبولت - الحرية وتنوع المواقف هي ضمان عدم انزلاق الدول الغربية في مصير الصين، ويرى ضرورة الإصلاح آنئذ قبل أن يتم وقوع هذا الخطر.

6 - مدى سلطان المجتمع على الفرد:

ثمت إذن حقوق فردية تهم الفرد بنوع خاص، وهو أبصر الناس بها لأنه أعلمهم بمأتها ووسائلها - وثمت - في مقابل ذلك حقوق مشتركة تهم المجتمع بوجه خاص، وله من يدافع عنها ضد من يمسها أو يعتدي عليها، بوسائله الخاصة وحقوق كل من الطرفين تعد واجباً على الآخر. فحق المجتمع على الفرد - مادام يتمتع بالأمن في كنف رعايته - أن يسلك سبيلاً يبعد به عن الإضرار بمصالح الغير وحقوقه، وأن يتحمل نصيبه من التبعات التي يفرضها عيه مجرد كونه عضواً في المجتمع. وحق الفرد على المجتمع أن ينظم له القواعد التي تبصره بما عليه من واجبات في معاملته للغير وما له عليه من حقوق، وأن يدعه في شئونه الخاصة به يتصرف تصرفاً خالياً من كل قيد، وأن يكيف جريمة الفرد قبل إنزال العقوبة، فإن كان قد انتهك القواعد التي سنت لحماية المجموع، فترتب على ذلك إضرار بغيره؛ تدخل المجتمع للضرب على يده حماية لإخوانه، وأما إن كان تصرفه ناشئاً عن عيوب ذاتية أو اجتماعية فيه، يترتب عليها الإخلال بالتزاماته الاجتماعية نحو أسرته أو دائنيه أو واجباته بوجه عام، فللمجتمع أن يوقع عليه المسئولية الأدبية أو القانونية حسبما يراه لا بسبب هذه العيوب الذاتية أو الاجتماعية فحسب الفرد بلاءً وجودها فيه - ولكن لما ترتب عليها من إخلال - إذ الأمر هنا يخرج عن نطاق الحرية إلى الآداب والمعاملة، وأما ما عدا هذا من الأضرار العرضية التي لا ضرر فيها - فعلى المجتمع أن يتحملها عن طيب خاطر، فإن كفة الخير الذي يصيبه من إطلاق الحرية أرجح من كفة هذا الضرر مهما بلغ، خصوصاً وأن المجتمع يجب أن يعد نفسه المسئول الأول عن عدم توجيه الأفراد وجهة قويمة - مع ما كان له من سلطة. وأن التعرض للحرية كثيراً ما يؤدي إلى عكس المراد منه، مادام الجمهور - أكثرية الأفراد - يحكم في ذلك على الأقلية المخالفة المستنيرة - بحكم هواه وصالحه - لا بمنطق سليم يرى في الشيء ضرورة ذاتية تسوغ الأخذ به، ولا ضرر من القدوة السيئة، فإنها - وإن كانت تعرض نماذج سيئة من السلوك، فهي تعرض كذلك عاقبة أصحابها الوخيمة. وعلى الأفراد - على أي حال - أن يتعاونوا ويتناصحوا ويتواصوا فيما بينهم في أدب ومجاملة بما يحقق خيرهم.

ولتأييد ما يقول (مل) من أن قوانين المجتمع ليست في حقيقتها إلا هوى الجمهور. وما يرى معه من خطر مبدأ التعرض لو أخذنا به؛ يضرب أمثلة كثيرة من التاريخ الواقع، منها عبادة الله على غير المذهب الروماني الكاثوليكي في نظر الأسبان، وموقف أهل أوربا الجنوبية من زواج القسس، ومصادرة البيوريتانيين أيام نفوذهم في نيوانجلند لكل أنواع الملاهي والتسلية، والنزعة الديمقراطية التي ترمي أن تجعل للجمهور أن يتدخل في تحديد طريقة إنفاق دخل الأفراد، ومطالبة العمال غير المهرة بألا تزيد أقليتهم الماهرة عن بقيتهم في الأجر، واختلافهم حول ضرورة التشريع الخاص بالعطلة الأسبوعية وتبرير الجمهور فعله هذا بالدين، وأن من حقه حمل الخارجين على إطاعة الدين، مما ترتب عليه أبشع صنوف الاضطهاد الديني، كما حدث في مذهب (مورمن) الذيوإن كان قد دعا إلى شئ رجعي مستنكر عندهم هو تعدد الزوجات؛ فلم يكن ينبغي أن يقابل بمثل هذه الوحشية فليس لجماعة أن تحمل غيرها على الرقي والحضارة عفواً؛ بقدر ما تستطيع التبشير ومحاربة العقائد الفاسدة في عقر دارها بوسائل التنوير والإقناع، ولكنه المجتمع يشرع دائماً وفق هواه، ثم يستبد بحجة الرأي العام.

تطبيقات:

وإذا تقررت لدى (مل) حرية الفرد في الفكر والعقل، في الرأي والتصرف، وثبت ضرورتهما لصلاح حال المعيشة وشخصية الأفراد، شرع يطبق هذه المبادئ على كثير من مشكلات عصره وبلاده - مبيناً في كل منها متى يحل للحكومة أن تتدخل في حرية الأفراد - منحازاً - كعادته دائماً - إلى جانب الحرية الشخصية وإطلاقها في أوسع مدى ممكن، متخذاً لهذا التطبيق مقياساً تتحد به مسؤولية الفرد أمام المجتمع ينحصر في قاعدتين:

1 - لا يسأل الفرد أمام المجتمع عن شئ من تصرفاته مادامت لا تمس غير شخصه، وهنا فلا سبيل للمجتمع إلا أن يظهر بغضه وكراهته، وأن يقدم نصحه وإرشاده، وأن يقضي على ما لا يرضى عنه بمجرد مقاطعته ونبذه.

2 - أما إذا أتى الفرد تصرفات تعترض مصالح الغير. فللمجتمع في هذه الحالة أن يوقع الجزاء القانوني أو الأدبي الذي يراه كافياً للزجر ودرء الأعداء.

ولا يعد إضراراً بمصالح الغير التنافس والمسابقة، لما يترتب عليهما من إخفاق البعض نتيجة لنجاح البعض الآخر - طالما أن وسائل هذه المنافسة شريفة - لا يدخل فيها غش أو خيانة أو إكراه، ومادامت الظروف مهيأة للمجتمع على قدم المساواة - ومسألة حرية التجارة - وإن تكن بعيدة عن الحرية الشخصية - ينطبق عليها هذا القول فيجب إطلاق منتهى الحرية للتجار في الدعاية والعرض والإعلان وتجويد الأصناف وتحديد الأسعار، حتى لا يتحكم فيها إلا حرية المشترين وتفضيل صالحهم فيسير العرض والطلب على قاعدة الحرية للمنتج والمستهلك، حقاً إن من واجبات الحكومة اتخاذ الاحتياط لمنع الجرائم قبل وقوعها والأهبة لاكتشافها بعد وقوعها، وعلى هذا فليس لها بإزاء منع استخدام المواد السامة في الجرائم إلا أن تحتاط (بالأدلة السلفية) أي إجراءات التوقيع والشهود وما يساعدها على كشف الجريمة إن وجدت، وإزاء التصرف الشخصي السيئ كالسكر والبطالة إلا المراقبة والمعونة على عدم الإضرار بالغير. أما بإزاء التحريض على إتيان أفعال شخصية يعتبر الجهر بها إخلالاً بالآداب كبيع الخمور وفتح بؤر القمار، في أماكن عامة. ابتغاء المنفعة الشخصية فيجوز تدخل الحكومة لحمل هؤلاء على التحجب والخفاء، وحصر هذه في أقل نطاق ممكن، بفرض ضرائب باهضة على المسكرات تقلل من طلابها وتحرمها على غير القادرين، وتحديد عدد الحانات ومراقبة سلوك أصحابها وموعد عملهم والترخيص لهم، وإزاء العقود والاتفاقات التي يبرمها الأفراد لمصلحتهم فيما بينهم القيام على الوفاء بها في النواحي المالية خصوصاً، وفسخها وعدم الاعتراف بها إذا كانت تحمل بيع حرية الفرد - مع مراعاة التزاماته وواجباته قبل هذا الفسخ - كما في عقود الزواج والطلاق - وفيما عدا هذا فليس ما يمنع على الفرد خيار التقايل والنكول.

وفي مقابل هذه الأمور التي يجوز للحكومة أن تمنعها. هناك أمور يجب عليها أن تمنحها. ومنها تسوية المرأة بالرجل وحمايتها من استبداده وما يزعم لنفسه من سلطان، وأن تهيئ لكل وليد من رعاياها حق التربية وقسطاً من التعليم؛ متحملة هي نفقات الفقراء، وإعانة الآباء؛ تاركة للمختصين بالتعليم أن يقوموا عليه حافزة إياهم على منافسة مدارسها الأميرية والقضاء عليها، وأن تجعل امتحاناتها بعد المرحلة الأولى اختيارية في حقائق العلم الثانية، خصوصاً في العلوم العليا كالفلسفة والعقائد (اللاهوت)، وأن تمنح من يؤدي هذا الامتحان بنجاح شهادة يزاول بها مهنته دون أن يعترضه أحد. وبالجملة تهيئة الفرص التي قد يفوت الآباء إدراكها حين يسترسلون في معارضة الحد من عجزهم عن إسعاده.

و (مل) يناقش أخيراً مدى حق الحكومة في تولي شئون الأفراد، فيرى أنه لا وجه لتدخل الحكومة للعمل لهم - حين يكون لطائفة منهم القدرة على إتقانه أكثر - أو لا يكون ذلك. ولكن من الخير أن يروض الأفراد أنفسهم على القيام به. أو حين يكون في اتساع اختصاص الحكومة ذهاب بالإتقان والتخصص، وهو هنا يميل إلى اللامركزية، وإلى توزيع سلطات الحكومة على المختصين والمهرة، على أن يظلوا خارج الحكم، فإن حشدهم للخدمة الأميرية يميت ملكاتهم، ويجعلهم أكثر استبداداً، والشعب أكثر عجزاً وخضوعاً، وانسياقاً إلى خدمتهم؛ فيموت العمل الحر. بل الواجب أن نجعل كل طائفة بحيث تصلح حكومة بذاتها. وأن نعود الأمة الاعتماد على النفس، ونخلق منها عناصر جديدة أبداً ولا نحتكر الواهب في طبقة منها؛ بل نعمل دائماً على تنشيط هممهم وحفز عزائمهم وإنماء كفايتهم؛ فإنما قيمة الدولة بأفرادها

وبعد: أرأيت كاتباً ينتصر للحرية ويدافع عنها بمثل هذه البراعة والقدرة، والتحمس والإقناع؟. . .

كمال دسوقي