مجلة الرسالة/العدد 762/هذا زماننا
→ رحلة إلى الهند | مجلة الرسالة - العدد 762 هذا زماننا [[مؤلف:|]] |
لقد مات غاندي! ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1948 |
للأستاذ محمود شاكر
أراد جماعة من الذين كتب الله عليهم أن يرتزقوا باصطناع السياسة، أن يعقدوا معاهدة بينهم وبين بريطانيا يقضون بها في أمر العراق على ما خيلت لهم أنفسهم وأنفس البريطانيين، ووقف بيفن يتعجبُ ممن زعم أنه يضع توقيعه الكريم على معاهدة فيها بخسٌ لحقوق العراق! وليس هذا بعجيب من ساسة بريطانيا، فقوام السياسة البريطانية هو الخداعُ، والإصرار على الخداع، وتسويغ الخداع، حتى يبلغُ الأمر مبلغ الصَّفاقة المهذَّبة في عرف الساسة البريطانيين. ولسنا نلوم بريطانيا ولا ساستها على هذا المذهب القبيح، فهم إنما يترفقون إلى غاياتهم بما وسعهم من الدهاء والمكر، ولكنّا نلوم أولئك المتبجحين ممن راموا أن يكونوا أهل سياسة في هذا الشرق العربي أو الإسلامي، إذ يخادعون أنفسهم ويخادعون أهليهم عن فساد بين في أمر هذه المعاهدات، وهم بذلك إنما يدَّمرون شعوبهم بما في أنفسهم من العجز واللجاجة وقلة المعرفة بسياسة الشعوب التي انبعثت من رقدتها مطالبة بالحياة الُحرة الكريمة. ومصداق هذا ما وقع في العراق، فلم يكد يظهر طرفٌ من سر تلك المعاهدة الخبيثة التي أرادت بريطانيا أن تكبل بها العراق، حتى هبَّ الشعب الأبي هبة واحدة فقوض أركان تلك المعاهدة على رؤوس (بناة الإمبراطورية)، وعلى رؤوس أذنابهم من الساسة المرتزقة، فدل ذلك دلالة بينةً على عجزهم ولجاجتهم وقلة معرفتهم بسياسة الشعوب الناهضة المريدة للحياة والحرية.
وما الذي كانت تريده بريطانيا من تلك المعاهدة الباغية؟ كانت تريد أن تجعلها مثالاً يحتذي في معاهدات تعقد بينها وبين مصر والسودان، ولبنان وسورية وجزيرة العرب واليمن وسائر بلاد هذا الشرق، فجاءت ثورةُ العراق فزلزلت قواعد هذا الوهم المنتشر الذي سوَّلت لبريطانيا نفسُها أنه بناء جديد تقوم على أساسه سياسة الإمبراطورية البريطانية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية. جاءت هذه الثورة فكانت سُنّةً جديدةً في توجيه سياسة العرب توجيهاً غفل عنه المرتزقة من السياسيين القدماء في هذا الشرق، وجاءت فكانت برهاناً جديداً على أن الشرق العربي والإسلامي لن ينام مرة أُخرى على خُدَع البريطانيين وخيانة المرتزقة من السياسيين، وعلى أن الحياة التي دَّبت في العرب لن تتسكع مرَّة أخرى في أوصال هذا الكيان القوي العميق المتراحب، بل سوف تتدفّق في نواحيه كلها إلى أن يستوي عوده على الهيئة التي تجعله كياناً صحيحاً في هذا الكون الذي يغلي من حوله بالثورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
ليس هذا فحسب، بل علينا منذ اليوم أن ننظر ماذا كانت تريد بريطانيا بعقد هذه المعاهدات؟ كانت تريد أن تجمع دول العرب على معاهدات يكون لها فيها الغنم وعلينا الغرم، أي أن بريطانيا كانت تريد أن تستعبد العرب جملةً واحدة وتسيرهم في أغراضها على نظام متفق لا تشذ عن دولة عربية واحدة، سواء أكانت مستقلة استقلالاً صحيحاً أم كانت مستقلة استقلالاً مشوباً بالعبودية للإمبراطورية البريطانية، ومعنى ذلك أيضاً أنها تعلم أن العرب سوف ينتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا أمة واحدة، فهي تريد أن تسبق الزمن وتجمع هذه الكتلة الواحدة في قبضة يديها حتى لا ينتشر عليها الأمر. وهذا غرض بين جداًّ، ودوافعه أشد وضوحاً واستبانه. فهل آن لنا أن نتنبه إلى الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه مطالب العرب فيما هم بسبيله من إحراز حقوقهم كلها جملة واحدة؟
لقد كتبت منذ سبعة أشهر كلمة في هذه المجلة بعنوان (شعب واحد، وقضية واحدة)، وذلك في العدد 730 بتاريخ 30 يونيه سنة 1947 قلت فيها: (إن قضية العرب قضية واحدة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جنديٌّ واحدٌ، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة) ثم قلت في آخرها: (وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضي بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلاعب بها هذا ويلهو بها ذاك. إنها واحدة، يرفعها شعب واحد، وطالباً بحق واحد، هو أننا أحرار في بلادنا).
وأنا لا أنقل هذا أعرض على الناس شيئاً مما كنت توقعت، بل لأقول إن السياسة البريطانية قد علمت علم هذا كله، فهي تريد أن تسبق الزمن لتضعنا في الإصر الشديد الذي يسمى بالمعاهدات، ولتستعبدنا في أغراضها، ولتنتقم منا ومن تاريخنا، ومن قديمنا وحديثنا. وأقول إن ساسة الشرق وساسة العرب لا يزالون يعيشون في غفلة الخيانات القديمة التي تولى كبرها رجال ظنوا أنهم زعماء هذه الشعوب، أي أنهم قد ملكوا رقابتها فهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، وذهبوا يفاوضون بريطانيا فيأخذون منها شيئاً وينزلون لها عن أشياء كثيرة، فقد جروا الشرق كله إلى مضلة لا يهتدي فيها سارٍ إلى علم.
ولكن الشعوب العربية كانت أشد منهم قوة، وأهدى إلى مواطن الحق، فما كادت تشب الثورة في العراق حتى نادى أهل العراق بالجلاء الناجز (عن جميع البلاد العربية)، وهذه الكلمة الشاردة هي كلمة الحق التي سوف ينتهي أمرنا إليها، أبى السياسيون القدماء أم رضوا. فالبلاد العربية من العراق إلى الجزيرة إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى مصر والسودان، إلى تونس والجزائر ومراكش، أمة واحدة، والاستعمار فيها واحد، ومطالبها واحدة. فينبغي إذن أن تصاغ قضية العرب على هيئة واحدة، لا في السياسة الخارجية وحسب، بل في موقفنا جملة واحدة في وجه الطغيان الاستعماري كله، سواء جاء بهذا الاستعمار بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا أو روسيا أو هولندة أو أية دولة على ظهر الأرض. وينبغي أن تعدل سياسة الدول العربية جملة واحدة، فتطالب بمطلب واحد لا تقبل فيه هوادة ولا تخضيعاً ولا مساومة، هو جلاء الاستعمار عن بلاد العرب كلها. ولقد سبق الشعب العراقي حكومته إلى هذا الرأي، فنحن نرجو أن يحمل الشعب العراقي حكومته على أن تصرح بهذا المطالب تصريحاً رسمياً في بيان تصدره بطلب الجلاء الناجز عن جميع البلاد العربية، وتتعهد بأن لا تقبل مفاوضة ولا محادثة ولا مخابرة ولا مهادنة في هذا المطلب أبداً. فإذا فعلت العراق ذلك، فعلى سائر الحكومات العربية أن تصدر مثل هذا البيان الشامل الذي لا يفرق شيئاً بين الوطن العربي كله ولا بين المستعمرين أيا كانوا.
إني ادعوا الجامعة العربية ورجال السياسة الأحرار أن لا يفرقوا في الدعوة إلى الحرية، أدعوهم أن لا يفرقوا قضية العرب أجزاء كل جزء منها يخضع لسياسة تضعف أو تقوى في يد من يتولاها. فقد فهمت بريطانيا هذا، فأرادت أن تنشئ مثالا يحتذى في المعاهدات التي تعقد بينها وبين العرب، وأرادت أن تحمل فرنسا وأسبانيا على الاتفاق على أسلوب جديد يصطلحان عليه في الاتفاق مع بلاد المغرب العربي، يسير على أساس السياسة التي تريدها بريطانيا في اعتبار العالم العربي جملة واحدة تسخَّر في ركاب الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني. فواجب الجامعة العربية وواجب الحكومات العربية أن تسبق هذه السياسة اللئيمة سبقاً يكفل للشعوب العربية أن تعرف الوجه الذي تسير فيه. فلا مناص إذن من أن تتفق كلمة الدول العربية على أن لا تعقد إحداها معاهدة قط مع إحدى الدول المستعمرة، وعلى أن لا تقبل تقسيم القضية العربية إلى أجزاء، وعلى أن تكون دعوتها ودعوة شعوبها صرخة واحدة مجتمعة في وجه الاستعمار على اختلاف ألوانه وأسبابه والقائمين به، وهى الجلاء الناجز عن بلاد العرب جميعاً، ثم عن بلاد الإسلام كلها في نواحي الأرض. فإذا توانت حكومات العرب، وإذا تلجلجت الجامعة العربية؛ فمغبة ذلك أن تفوت على هذه الشعوب زمناً يطول أو يقصر، كانت خليقة أن تبلغ فيه ما تريد من نيل الحرية الكاملة، والاستقلال الناجز التام.
إن ضعف القائمين بالسياسة العربية، لا ينتهي إلا إلى ضياع الوقت وضياع الحقوق. ونحن لا نطالب المستعمرين بشئ، لأنهم لا يملكون شيئاً هم قادرون على أدائه. إنهم مغتصبون، وهم يملكون أسباب القوة المادية ونحن نملك أسباب القوة الروحية، وهم ظلام ونحن لا نرضى بهذا الظلم، وهم يتحكمون بالاستعمار والاستعباد، ونحن نتعالى عن الاستعمار والاستعباد. فهذه القوة التي انطوى عليها حقنا، يقابلها ضعف ينطوي عليه افتياتهم علينا. ومصير ذلك كله إلى الغلبة والنصر إذا أحن رجالنا الاستعداد لهذه الموقعة الفاصلة في تاريخ البشر.
لم يبق شئ في تاريخ البشر يحمل طابع الفساد والبوار والدمار، إلا هذا الجشع الذي يحمل أمم الغرب على إن يضعوا أيديهم على كنوز العالم؛ ليقاتل بعضهم بعضاً في حرب مبيدة مدمرة. وقد عرف هذا الغرب أن الشرق كنوز كله؛ فهو يجاهد أن يستولي عليها بما استطاع من الحيلة ومن اللؤم، ومن إهدار الكرامة الإنسانية، ومن قلة المبالاة إفساد هذا الشرق وإفساد أهله حتى ينال منه منالاً يكفل له حرية التصرف في كنوزه. فعلينا أن نقف حُراساً على كنوزنا لا نبيحها بعد اليوم لأحد. وعلى رجال السياسة منا أن يغيروا مناهجهم السياسية تغييراً تاماً يقوم على أساس واحد، هو أننا لن نعاون هذا الغرب على الفجور في الأرض، وأننا نمنع عنه مادة الفساد التي يريدها لتدمير حضارات العالم، وأننا قد عزمنا أن ننشئ مدينة جديدة وحضارة جديدة لا تقوم على الجشع ولا على الاستبداد. وأننا أحرار في بلادنا كل الحرية وإن اجتمعت دول العالم كله على إنكار هذه الحرية. ولا يصل العرب والمسلمون إلى هذا إلا بشيء واحد هو أن تجتمع الكلمة في الأرض العربية والأرض الإسلامية على هذا الشيء الواحد، وهو أن لا مفاوضة ولا معاهدة ولا مخابرة ولامهادنة، وأن الشرق لن يستقر على تجلو الجنود المستعمرة عن أراضيه كلها، وأن كل عون للاستعمار في هذا الشرق من الأجانب واليهود الصهيونيين قد كتب عليهم أن يخرجوا من بلادنا إلى حيث شاءوا، وأننا لن نقبل دون هذا شيئاً يصرفنا عن الغرض الأعظم، وهو تجديد حضارة العالم على أسس من العدل والحق والمساواة والحرية. هذا هو المطلب الأعظم الذي ينبغي أن توجه إليه سياستنا كلها، لا تخدعنا عنه خطرفة السياسيين المتهالكين الذي يقولون للشرق: أنت عاجز، فمن لك ببلوغ هذا المطلب البعيد المغرق في الخيال!
كلا، ليس الشرق عاجزاً بل هو أهل لما حُمِّل، وإن تراءى للناس على غير الحقيقة المستكنة وراء هذا الطوفان من الفقر والجهل والفساد. فإذا عزم العرب وعزم رجاله وقواده أن يفعلوا، فلن يحول بينهم وبين ما يبتغون شئ جل أو تفاقم. بيد أننا اليوم في حاجة إلى الأخذ بهذا المبدأ الواحد، وإلى إزالة أولئك السياسيين القدماء عن مكان القيادة في بلادنا، وإلى تقدم الفئة الصالحة إلى هذه التبعة الجليلة لتحملها حملا لا يعجزها ولا يصرفها عنه خوف ولا تردد. ولقد سبق العراق، وسوف تتبعه سائر البلاد العربية والإسلامية، ولن نلبث قليلا حتى نرى في هذا الشرق عجائب القوة العظيمة التي انطوت عليها جوانحه، فلا بد من تفسح الحكومات الطريق للعمل القوى الماضي الذي لا يرتد عن غايته، ولا بد من أن تدفع الشعوب عن نفسها طغيان السياسيين المخادعين المنافقين، ولا بد من أن يتولى العرب بأنفسهم حل هذه القضية الواحدة بالصبر والمقاطعة، وبالعزم والجلاد، وبالتضحية الكبرى في سبيل إنقاذ البشر من فتن كقطع الليل المظلم، ومن فساد جارف كالسيل المتدفق، ومن طغيان قذر قد ارتطم فيه هذا العالم القديم الذي قام على أسس فاجرة من الجشع.
أفيقوا أيها الناس، واستيقظي أيتها الحكومات، وتقدمي أيتها الجامعة العربية باسم العرب إلى حمل التبعة العظيمة. والزمن أسرع منكم، فبادروه بالعمل والصرامة، وبالصدق والإخلاص، فإن حياتكم وحياة أممكم معقودة بشيء واحد، هو ثباتكم على المبدأ الأعظم، وأخذكم بالقوة التي استودعها الله في قومكم وغفلتم عنها أجيالا طوالا. هبوا فقد أَنَى زمنكم، وأعدَّكم الله لشيء أنتم بالغون في الناس وفي أنفسكم.
محمود محمد شاكر