مجلة الرسالة/العدد 762/لقد مات غاندي!
→ هذا زماننا | مجلة الرسالة - العدد 762 لقد مات غاندي! [[مؤلف:|]] |
محمد إسعاف النشاشيبي ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1948 |
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
نعم لقد مات غاندي مقتولا، واغتيل غدراً بيد هنوكية آثمة، ظنت أن في موت غاندي استقلال الهند واتحادها، وفي حياته تعطيلا لهذا الاستقلال وعرقلة لذلك الاتحاد، فصوبت رصاص مسدسها إلى جسد غاندي الهزيل لتستقل الهند وتتحد.
من العجيب أن يموت ذلك الإنسان الإلهي الذي قضى حياته يمرن الهنود على مقابلة العنف والعدوان والكراهية بالحب والعفو، ويعودهم اتخاذ السبل السلمية وسائل لنيل جميع أغراضهم السياسية. وعجيب أن يقتل ذلك الزعيم الروحي عنفاً وعدواناً بيد أحد من علمهم اللا عنف والحب والطرق السلمية. وعجيب أن نسمع نحن المصريين عن شعب خاف أن يقضي الصوم على حياة بطله المقدس، ويخضع لشروطه السلمية لإيقاف الاضطرابات الدينية في الهند، ويقبل بعد مدة وجيزة أن يقتله شر قتلة.
إن الأمر يتطلب توضيحاً. ويقوم هذا التوضيح في أن في الهند منذ الحرب العالمية الأولى اتجاهين سياسيين: أحدهما اتجاه غاندي وهو ينادي بأنه لا يجب أن نتخذ من السبل لتحقيق أمانينا غير سبيل الحب واللا عنف والمقاومة السلبية لسلمية، أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه منافس غاندي الزعيم الهندي الكبير لقمانيابل قندار طيلاق، وهو عالم رياضي واسع الاطلاع، ضحى بمستقبله العلمي واعتزل الرياضة وخاض ميدان السياسة ليعمل لتحقيق استقلال الهند. وهو كغاندي لم يكن له مطمع شخصي بل كل ما كان يتمناه أن تفوز الهند باستقلالها حتى يعود إلى أبحاثه العلمية. وكان اتجاه طيلاق السياسي اتجاهاً عملياً بحتاً، ويرى أن السياسة ليست من أعمال الزهاد والأتقياء ورجال الدين، ويعتقد أنه لا يجوز تطبيق المبادئ الدينية على الطرق السياسية ويميز بين السياسة والدين، ولا يتورع - بخلاف غاندي - على أن يسلك أي سبيل مهما تعارض مع التعاليم الدينية ما دام يؤدي إلى استقلال وطنه. فعنده حرية الوطن أجل من الدين؛ بينما غاندي يؤمن بأن مبادئ الدين أسمى من حبه للهند. فاختلف غاندي وطيلاق في أسلوب محاربة المستعمرين: فحارب غاندي الإنجليز بقوى الروح وسلاح الحب وبالعصيان المدني السلمي وكان طيلاق يود أن يحاربهم بالعنف وبالثورة، ولكن الزمن لم يعط له فرصة لينافس غاندي طويلا فاختطفه الموت سنة 1920؛ إذ لو بقى طيلاق حياً لما كان لغاندي غير الزعامة الروحية وكان لطيلاق الزعامة السياسية، وبموته أصبح غاندي الزعيم الروحي والسياسي جميعاً ردحاً من الزمن.
ولئن مات طيلاق فإن روحه لم تمت. بل حاولت مبادئه السياسية أن تظهر في مناسبات كثيرة، لولا يقظة غاندي الروحية وقوة تأثيره على الشعب ومقاومته لكل هياج همجي، وتسليحه الهنود بأسلحة سلمية مثل مقاطعة الإنجليز سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولما لم تفلح هذه المقاطعة في إخراج الإنجليز من الهند كما لم تهدأ من سخط المنادين بضرورة استخدام الثورة في طرد الإنجليز من بلادهم، اضطر غاندي إلى أن يلجأ إلى العصيان المدني السلمي، وظل يشجع قومه على محاربة الإنجليز سلمياً، إلى أن أجيرت الحكومة البريطانية على أن ترد للهند حريتها.
بذلك فازت طرق غاندي السلمية على طرق منافسيه العنيفة وحصلت الهند على حريتها بدون ثورة ولا حرب، ولكن غاندي إن نجح في إقناع مواطنيه باتخاذ الطرق السلمية وسيلة لنيل الاستقلال، فإن قتله يدل على أنه لم ينجح في إقناع هؤلاء المواطنين باتخاذ الطرق السلمية في سبيل اتحاد الهند، ونبذ الحزازات الدينية.
إن الهند بعد أن نالت استقلالها واجهت مشكلة تقسيمها إلى دولتين: إحداهما إسلامية، والأخرى هندوكية؛ وسبب ذلك التقسيم يرجع إلى ما بين المسلمين والهندوس من عداء قديم، نشأ من يوم أن غزا محمود الفزتوي الهند، وكون إمبراطورية إسلامية فيها وظلت هذه الإمبراطورية من بعده إلى أن أتى الإنجليز واستعمروا الهند. وفي هذه القرون الطويلة عامل المسلمون من ترك وتتار وفرس الهندوس كما يعامل عبدة الأصنام فقتلوا فيهم وهدموا كثيراً من معابدهم، وحطموا تماثيلهم وأنزلوا بهم مختلف أنواع القسوة لعبادتهم الأوثان وتأليههم الحيوان، فولدت هذه القسوة الحقد والبغضاء، وظل الهندوس يكرهون المسلمين من عهد الفزنوي إلى الآن.
ولما تحقق استقلال الهند، وكان الهندوس أغلبية السكان، خاف المسلمين من انتقام الهندوس، ووطدوا العزم على أن يكون لهم دولة مستقلة تضم جميع المسلمين وتسمى بالباكستان. ولكن الهندوس يرغبون في أن تكون الهند دولة واحدة متحدة ولا يرغبون في أن تكون منقسمة. فما كادوا يعلنون تقسيم الهند إلى باكستان وهندستان حتى أخذت الاضطرابات تنتشر في بعض المقاطعات الهندية، وأخذ المسلمون يقتلون الهندوس في الولايات الإسلامية، وأخذ الهندوس يذبحون المسلمين في الولايات الهندوسية مما أضطر غاندي إلى أن يستعين بالصوم على منع تلك المذابح البشرية، فنذر صوماً طويلا يدوم بدوام هذا الصراع الدموي الذي بين المسلمين والهندوس. ولم يمض على صومه خمسة أيام حتى تعرضت حياته للخطر، فأنذر الأطباء الذي يشرفون على علاجه، بأنه إن لم يقلع غاندي عن الصوم، فإنه يقضي على حياته. فلم يكد زعماء الهنود من مسلمين وهندوس وسيخ يسمعون هذا الإنذار حتى وعدوا غاندي بأنهم سيتعاونون في الحال على إنهاء الاضطرابات الدينية حتى يسود الود والسلام والحب بين جميع سكان الهند على اختلاف أديانهم. ولكن يبدو أن بعض الهنود الذين يميلون إلى العنف وإلى الثورة وإلى الحرب، لم يرتاحوا إلى صوم غاندي الذي خلص الهند من المجازر البربرية مع بقائها منقسمة إلى باكستان وهندستان وفضلوا أن يستمر النضال بين المسلمين والهندوس إلى أن تقبل الباكستان أن تنضم إلى الهندستان وتصبح الهند متحدة، وشعروا في الوقت نفسه أن غاندي بنفوذه الروحي استطاع أن يخمد حرباً أهلية همجية ويحيط حركة ثورية كانوا يعولون عليها كل التعويل، فسخطوا على نفوذ غاندي الروحي على الشعب، وكرهوا ان تحسن معاملة الهندوس للمسلمين، وترد إليهم مساجدهم التي حولت إلى معابد هندوسية من الاضطرابات الأخيرة، واحتفوا على أن يكون للمسلمين أي سلطة في الهند، فأقدموا على قتل بطل روحي ضحى بشبابه وكهولته في سبيل الهند، وفي سبيل إصلاح الهند، وفي سبيل تحرير الهند، ورأى أن التعاون بين المسلمين والهندوس أمر ضروري لاتحاد الهند، وبدون تبادل الحب بين أهل الهند لن تكون هناك هند متحدة، فمات غاندي شهيد مبادئه الروحية. بينما كان منافسوه السياسيون يرون أن القضاء على المسلمين وإبادتهم من الهند أسلم من التعاون معهم، وأفضل من مبادلتهم الحب فأقدموا على قتل غاندي بقلوب حاقدة لا تقدر عواقب فقده، ولا تدرك عظم الخسارة التي لا تعوض، فإن الهند بفقدها غاندي قد فقدت زعيما روحياً، يفهم تمام الفهم الروح الهندية، ويملك قوة روحية يعرف كيف يسيطر بها على الهنود ويوجههم الوجهة التي تتفق مع تعاليم الدين الهندوسي والمبادئ الإنسانية، وتجنب الهند ويلات الثورات وأشرارها. أما الآن فمن يضمن للهند بأن هناك من يحل محله. إن أمثال غاندي لا يظهر إلا مرة واحدة كل عدة قرون فكيف عجل قومه بإبعاده عن الدنيا؟ أحسب أن موت غاندي ترك فراغاً كبيراً في الهند في وقت هي في أشد الحاجة إليه. إن اغتياله سيورث الهند مشاكل خطيرة ويثير زوابع نفسية متعارضة يخاف منها على مستقبل الهند، ويقلب آراء بعض الهيئات الهندوسية المتطرفة التي نرى أن الحرب أسرع في توحيد الهند من أي طريق آخر، فتعود الهند إلى ما كانت عليه من فوضى، وتكتسح الاضطرابات الدينية جميع أنحاء الهند بعد أن كانت قاصرة على بعض الولايات، وتنتصر طرق العنف وأساليب القوة على القيم السلمية التي وضعها غاندي كدستور إنساني شريف للهند.
(الإسكندرية)
عبد العزيز محمد الزكي
ليسانسيه فلسفة