مجلة الرسالة/العدد 760/كلمة أخرى
→ بلاغة الرسول | مجلة الرسالة - العدد 760 كلمة أخرى [[مؤلف:|]] |
في مستشفى الكلب ← |
بتاريخ: 26 - 01 - 1948 |
للأستاذ محمود محمد شاكر
قرأت كلمة الأستاذ محمد العربي العلمي في عدد الرسالة (759) يردَ على ما كتبته في قضية الاستقلال الذي تطالب به بلاد المغرب، ومن حق الأستاذ أن يردَ، ومن حقه أن يعلمني ما أجهل، ومن حقه أن يرشدني إلى وجه الصواب فيما زعمت أو رأيت، كلّ هذا من حقه، ولكن ليس من حقه أن يخرج الكلام عن جادّته، أو أن يستنبط منه أشياء ليست فيه كقوله إني عرضت للوطنيين من أهل المغرب (فاتهمت زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم)، فهذا شئ مردُّه إلى ما كتبتُ لا إلى ما يقول به الأستاذ العلمي. والسفه والغفلة وما يشبه ذلك من أنواع التهم!! كلمات كبيرة لا يحل للأستاذ أن يدّعى أنى أردتها بغير برهان من نص كلامي الذي كتبته.
ثم كرر الأستاذ العلمي أن الذي جاء في كلمتي إنما هي أشياء ألقيت إلى فحكيتها بلا تحقيق ولا روية، أو ألقيت إلى فاعتقدتها كل الحقّ وأغفلت ما وراءها. وأظن أيضاً أن هذا شئ غير لائق به أن يقوله، فضلا عن أن يكتبه. ولم أكن أظن أن الأستاذ العلمي يجترئ على أن يصفني بأني أُذُن تصرفه عن الحق صداقة صديق أو عداوة عدو، ولكنه فعل، فلا أقل من أن أجزيه بالصفح عنه إكراماً لصديقي الأستاذ محمد بن الحسن الوزّانى، فهو رسوله وسفيره والنائب عنه.
ثم رأيت الأستاذ أكرمه الله يزعم أنى بما كتبت إنما كنت أحاول أن أحدث في الائتلاف الوطني المغربي (ثلمة) وأن ألقى حوله (بذرة من بذور الشقاق)، وهذا شئ كثير، ولكنى أعود فأصفح عن الأستاذ، لا لشيء إلا لأني أترك الحكم في هذا الأمر لمن يقرأ فيفهم، وما أظن أحداّ ممن يطلع على ما كتبت يستطيع أن يقول أني (حاولت) هذا الذي زعمه الأستاذ.
ثم رأيت الأستاذ يقول: (ولعلى لا أكون فضولياّ إن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم)، وأنا لم أنسب إليهم شيئاً قالوه إلا قولهم (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال)، وليس يهمنى أن يكون الأستاذ العلمي فضولياً أو غير فضولي، ولكن الذي يهمني ويهمّ قراء الرسالة وسائر العرب والمسلمين هو أن الذي حكيت عن زعماء تونس والجزائر صحيح قد اتفقوا عليه وقيدوه بالكتابة كما جاء في بيان سمو الأمير الجليل محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي نشره في صحيفة الأهرام. وقد جاء فيه أن الأمير أعزّه الله خابر جميع (رؤساء الأحزاب المغربية ومندوبيها) فاتفق رأيهم على تكوين (لجنة تحرير المغرب العربي) من كافة الأحزاب الاستقلالية في كل من تونس والجزائر ومراكش على أساس مبادئ الميثاق التالي: ثم جاء في نص هذا الميثاق (د - لا غاية يسمى لها قبل الاستقلال - هـ - لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر - و - لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال) وقد وقع هذا الميثاق جميع من ذكرتهم في كلمتي ومن لم أذكرهم من رجال الأحزاب المغربية في تونس والجزائر ومراكش، ومن بينهم الأستاذ محمد العربي العلمي، والأستاذ الناصر الكتاني نيابة عن حزب الشورى والاستقلال.
والعجيب الذي لا يقضى منه عجب هو أمر الأستاذ العلمي، فقد كتبت كلمتي للرسالة بعد أن قرأت في الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) تحت عنوان (محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب) وقد جاء في هذا النبأ ما نصه. (ويقول الحزب في مذكرته إنه يعتزم تحقيق المطالب الوطنية وهى استقلال البلاد - في نطاق وحدته الجغرافية والسياسية، وفى دائرة ملكية دستورية - من طريق المفاوضات، ولاتجاه بالمغرب في مرحلة انتقال تسمح له بأن ينظم شئونه تنظيماً حراً وبأسرع الطرق إلى تحقيق سيادته التامة واستقلاله المضمونين بمعاهدة تحالف وصداقة تبرم في ظل الحرية والمساواة بين المتحالفين. ويمكن تهيئة الجو السياسي الملائم لتحقيق ما تقدم، بأن يعلن رسمياً باسم فرنسا حق الشعب المغربي في تدبير شئونه في وقت قريب، وبأن تعتبر مصالح المغاربة ذات أسبقية في بلادهم، مع الصيانة التامة لسيادة البلاد واستقلالها الوطني)،
هذا ما جاء في المذكرة التي قدمها حزب الشورى والاستقلال إلى الجنرال جوان المقيم الفرنسي، وهو صريح في النص على تحقيق (استقلال البلاد من طريق المفاوضات)، وهذا الذي دفعني إلى كتابة ما كتبت عن حزب الشورى والاستقلال، وهو الذي دفعني إلى أن أتوسل إلى الصديق محمد بن الحسن الوزاني (أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرّ الناظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهداّ رافعاً باسم بلاده وحريتها وكرامتها واستقلالها)، كما جاء في آخر كلامي. وقد تحدث الأستاذ العلمي إلى مندوب الأهرام بما يطابق هذا المبدأ، بيد أنى رأيته في اليوم الثاني يوقع على ميثاق لجنة التحرير الذي ينص نصاً صريحاً على أنه لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال. فهذا تناقض بين لا ينقضي منه العجب، كما ينقضي عجب القارئ حين يقرأ كلمته في الرد علىَّ فيراه يقول إني أزعم (أن زعماء تونس والجزائر في القاهرة يرون رأى علال الفاسي في القعود وعدم المفاوضة)، ثم قوله إنه يؤكد لي (أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لا أجد داعياً لاشتغال قراء الرسالة بها)، ومعنى ذلك أنه يرى أن عدم المفاوضة قعود عن الجهاد، وأن كلمة (لا مفاوضة) كلمة مستحدثة لا عهد لحزب الاستقلال ولا لحزب الشورى والاستقلال بها، ثم يختم مقاله بأن يؤكد لي بأنه (لن يدخل في أية مفاوضات إلا بعد إعلان الاستقلال)!! فهذا تناقض مُرٌّ شديد المرارة.
وأنا لا أكتب هذا لأرد على الأستاذ العلمي، فإن هذا التناقض العجيب المر الشديد المرارة، جعلني أرى أن لا فائدة من الرد، ولكنى آثرت أن أعرض على القراء سيئاً كنت أخشى أن يفوتهم الاطلاع عليه، وهم في حاجة إلى الاطلاع على مثله.
وأما ما جاء في كلامه من ذكر فلان وفلان من رجال المغرب، فلست أنبري، ولا يحق لي أن أنبري، للدفاع عنه، لأني كما قال الأستاذ: (غير متفطن إلى أنى أتحدث عن بلاد لم أرها، وليس لي من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل)،
بقى شئ واحد يشق على مثلى أن يرضى عنه، وهو إقحام الأستاذ لأسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي في معرض هذا التناقض المر الشديد المرارة. فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبي الذي لا يقبل ضيماً ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، فقد هبّ أسد الريف وانطلق يجاهد بالسيف. وأنى أن يسلم للفرنسيس والأسبان شيئاً إلا سيفه بعد أن تقطعت أسباب الجهاد بالسيف. وأعرض عن كل مهادنة بينه وبين الفرنسيس والأسبان. واحتمل بلاء النفي والتعذيب صابراً راضياً مستعيناً بالله على أعدائه. أفلم يكن مما يرضى الفرنسيس والأسبان أن يهادنهم هذا الأسد ويفاوضهم ولا شك. ولكنه لم يفعل. فمعنى ذلك كما فهمناه وكما فهمه الناس هو أن أسد الريف يرى رأياً واحداً هو أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، ولذلك احتمل، وصبر صبر المؤمنين الذين لا يفتهم عن الحق عذاب ولا نفى ولا تشريد. وإذا لم يكن الأستاذ العلمي قد فهم هذا من بطولة أسد الريف، فليحدثنا إذن ما فهم؟ وفيم كان صبر أسد الريف وبطل العرب على البلاء الغليظ عمراً طويلا تحيا فيه رجال وتموت رجال؟ وفيهم كان جهاده وقتاله واحتماله رؤية أبنائه وهم يسقطون في ميدان الوغى بين يديه؟ أفعل كل ذلك ليفاوض، فيأخذ شيئاً ويغضي عن أشياء؟ حاشا لله.
أما الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني، فأنا لم أرده بإساءة كما أراد الأستاذ العلمي أن يقول، بل كان كل كلامي منصباً على المبدأ الذي جاء في المذكرة المرفوعة إلى القيم الفرنسي الجنرال جوان، وهو مبدأ المفاوضة في الاستقلال، وهو مبدأ فاسد لن يسكت قلمي عن هدمه وتقويضه، ولو قال به أعز الناس علي وأكرمهم في قلبى، وهو عندي مذهب أقلية، ولو قالت به أمة بأسرها. وسأبقى ما حييت أدعو الأمم التي ابتليت بالاستعمار إلى مبدأ واحد هو أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، فهو عندي مذهب أكثرية، ولو لم يقل به إلا فرد واحد طريد شريد لا يجد في الأرض مكاناً يؤويه، أو عشيرة تنصره، أو أذناً تسمعه. وكل حزب يدعو إلى المفاوضة، فهو عندي حزب بغير شعب ولو تبعته الجماهير المضللة، وكل زعيم يدعو إليها فهو زعيم بغير شعب، وأن استطاع أن يجمع الألوف تصرخ من ورائه مؤيدة وناصرة. وقد كتبت هذا مرات في قضية مصر والسودان، وفي قضية العراق، وفي قضية الهند. فكل ما جاء في كلامي عن حزب الشورى والاستقلال، فهو مبني على هذا الأصل، وأظن أن الأستاذ الوزاني يعرف هذا مما قرأه من كلامي منذ قديم، وأظن أنه فهم من كلامي عنه غير الذي فهم الأستاذ العلمي، وأظن أنه لم بغضب حين قرأ ما كتبت مثل الغضب الذي احتمل الأستاذ العلمي حتى كتب ما كتب، ما كان ينبغي أن ينزه عنه قلمه البليغ الجريء.
وأنا أختم هذه الكلمة بأن أدعو صديقي محمد بن الحسن الوزاني إلى صراط الحق، إلى أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، وأتوسل إليه مرة أخرى أن ينسي نفسه، وأن يملأ قلبه إيماناً بالحق الأعظم، وهو حق شعبه وبلاده في الاستقلال والحرية والكرامة، ذلك الحق الذي لا يتجزأ ولا يقبل مفاوضة ولا مهادنة، وأدعوه إلى الجهاد الشديد في سبيل هذا الحق الذي لا تستطيع فرنسا ولا إسبانيا ولا بريطانيا ولا الدنيا كلها مجتمعة أن تمحو منه شيئاً أو تغير منه قليلاً أو كثيراً.
أيها الزعماء كونوا يداً واحدة، ولتكن دعوتكم واحدة، واصبروا في جهادكم، ولا تفاوضوا عدوكم في حق شعوبكم، ولا تخاذلوا ولا تدبروا ولا تقاطعوا فتذهب ريحكم، واعلموا أن المفاوضة ليست سوى ملل من طول الجهاد ومشقته، وأن الملل من كاذب الأخلاق، وأن الزعيم لا يكون زعيماً إلا بأخلاقه، وقوام أخلاقه الصدق في كل شيء - في العداوة والصداقة، وفي الحب والبغض، وفي الرضى والغضب. سدد الله خطاكم، ومهد لكم سبيل الهدى، وطهر قلوبكم من كل كذب لا خير فيه.
محمود محمد شاكر
-