الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 760/بلاغة الرسول

مجلة الرسالة/العدد 760/بلاغة الرسول

مجلة الرسالة - العدد 760
بلاغة الرسول
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 01 - 1948


كلفتني الإذاعة في احتفالها بذكرى مولد الرسول الكريم أن أكتب كلمة في بلاغته تذاع في عشر دقائق، وهذا تكليف بالمحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فإن عشر دقائق لا تتسع للحديث الموجز عن بلاغة كاتب وسط، فكيف تتسع للحديث عن بلاغة رسول اصطفاه الله لرسالته، واصطنعه لوحيه، وعلمه من علمه؟

إن بلاغة الرسول من صنع الله، وما كان من صنع الله تضيق موازين الإنسان عن وزنه، وتقصر مقاييسه عن قياسه؛ فنحن لا ندرك كنهه وإنما ندرك أثره، ونحن لا نعلم إنشاءه وإنما نعلم خبره. هل يدرك المرء من آثار الشمس غير الضوء والحرارة؟ وهل يعلم من أسرار الروض غير العطر والنضارة؟ وهل يجد في نفسه من أغوار البحر غير الشعور بالجلالة والروعة؟ إن البلاغة النبوية هي المثل الأعلى للبلاغة العربية. وإذا كان كلام الله كتابَ البيان المعجز، فإن كلام الرسول سُنة هذا البيان. وإذا كان البلاغ صفة كل رسول، فإن البلاغة صفة محمد وحده. تجمعت فيه ﷺ خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة، فقد ولد في بني هاشم، ونشأ في قريش، واسترضع في بني سعد، وتزوج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو وهم الأوس والخزرج، وهذه القبائل التي تقلب فيها الرسول هي بالإجماع أخلص القبائل لساناً وأفصحها بياناً وأعذبها لهجة. والوسيلة الطبيعية لاكتساب اللغة والمنطق إنما هي المخالطة والمحاكاة. ثم تولى الله عز وجل تأديبه، فكمله برجاحة العقل وسجاحة الخلق وصفاء الحس وقوة الطبع وثقوب الذهن وتمكن اللسان ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته ومظهراً لنوره. ثم أخذ يتصرف في التجارة على عادة قومه، فضرب في الآفاق وتنقل في الأسواق، فرأى المناظر الجديدة، وسمع المناطق المختلفة، وحصَّل المعارف العامة. والأسفار والأخطار والهجرة بعد توفيق الله تفتق الذهن وترفد العقل وتزيد المعرفة. ثم كان بخلي ذرعه من صوارف الدنيا الليالي الطوال فيعتكف في حار حراء يتعبد ويتأمل ويتجه بروحه الصافي اللطيف إلى الملأ الأعلى. ثم كان من طبعه أن يديم التفكير ويطيل السكوت، فإذا تكلم اختصر من اللفظ، واقتصر على الحاجة، وألقى الكلام بيناً فصْلاً يحفظه من جلس إليه، ولوعده العادَّ لأحصاه، كما قالت السيدة عائشة. كل أولئك قد مكن للرسول من ناصية البلاغة، فأسلس له الألفاظ، وأسمح له المعاني، فلم يندْ في لسانه لفظ، ولم يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعرب عن علمه لغة، ولم ينْب عن خاطره فكرة؛ حتى كان كلامه كما قال الجاحظ (هو الكلامَ الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة وتنزه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، وتنزه عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة وشُد بالتأييد ويُسر بالتوفيق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً ولا أعدل معنى، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح من معناه، ولا أبين من فحواه، من كلامه ﷺ) لذلك قال وقوله الحق: (أنا أفصح العرب، بيْد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر. وقد قال له صاحبه أبو بكر: لقد طفت في بلاد العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي)، ومن أولى بذلك كله ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟

إن أخص ما يميز الأسلوب النبوي الأصالة والإيجاز. فالأصالة وهي خصوصية اللفظ وطرافة العبارة تتجلى فيما كان ينهجه الرسول من المذاهب البيانية، ويرتجله من الأوضاع التركيبية، ويضعه من الألفاظ الاصطلاحية، كقوله عليه الصلاة والسلام: مات حتف أنفه، والآن حمى الوطيس، وهدنة على دخَنْ؛ وقوله لحادي النساء: رويدك! رفقاً بالقوارير. وقوله في يوم بدر: هذا يوم له ما بعده. ولتمكن الأصالة فيه كان يقتضب ويتجوز ويشتق ويبتدع، فيصبح ما أمضاه من ذلك حسنة من حسنات البيان، وسراً من أسرار اللسان، يزيد في ميراث اللغة، ويرفع من قدر الأدب.

والإيجاز وهو تأدية المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة غالب على أسلوب الرسول، لأن الإيجاز قوة في التعبير، وامتلاء في اللفظ، وشدة في التماسك؛ وهذه صفات تلازم قوة العقل وقوة الروح وقوة الشعور وقوة الذهن، وهذه القوى كلها على أكمل ما تكون في الرسول، ومن هنا شاعت جوامع الكلم في خطبه وأحاديثه حتى عُدَّت من خصائصه.

على أن الرسول عليه السلام كان يطيل إذا اقتضت الحال ذلك. فقد روى أبو سعيد الخُدري أنه خطب بعد العصر فقال: (ألا إن الدنيا خضرة حلوة! ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون. اتقوا الدنيا، واتقوا النساء. ألا لا يمنعن رجلا مخافةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه. . . قال أبو سعيد ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف، فقال: (أنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى)،

والمأثور من كلام الرسول ﷺ خطب وكتب وأحاديث، وكلها تتسم بالإلهام والإبداع والعبقرية، وتمتاز بالجزالة والجلالة والسبك. وهو في بعضها يستعمل الغريب ويلتزم السجع تبعاً لما جرى على ألسنة الوافدين عليه من مختلف القبائل. من ذلك حديثه مع طهفة بن أبي زهير النهدي، ومع لقيط بن عامر بن المنتفق، وذلك من حسن أدبه وسمو بلاغته وقوة تأثيره.

وللرسول قدرة عجيبة على التشبيه والتمثيل وإرسال الحكمة وإجادة الحوار. وتلك ميزة الرسل من قبل، لأن المرسلين في مقام المعلمين، وأنجح ما يكون التعليم إذا كان على طريقة التمثيل والمحاورة، كقوله عليه السلام: (إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. المؤمن هين لَيَّن كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ. أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. إياكم وخضراء الدمن: المرأة الحسناء في المنبت السوء. المرأة كالضلع إن رُمت قوامها كسرتها. الناس كلهم سواسية كأسنان المشط. جنة الرجل داره. ومن روائع تشبيهاته عليه السلام قوله: إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع. فنقر رجل منهم موضعه بفأس؛ فقالوا له ما تصنع؟ قال هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا.

والسفينة التي ضربها الرسول مثلا هي اليوم دنيا الإسلام والعروبة، تقسمها الإخوان والبنون في عهود الضعف والانحلال فصار لكل منهم وطن ودولة، ولكن هذه الأوطان المتعددة تجمعها دنيا واحدة، كما تجمع السفينة مواضع الركاب؛ فكل وطن وإن استقل بنفسه مرتبط في قوام حياته بغيره؛ فهو حري ألا يوبق بحريته الوطن الجمع حري ألا يُغرق في عبابه الوطن المفرد. وكأن الرسول ﷺ بما آتاه الله من ألمعية الذهن وإشراق الروح كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فضرب هذا المثل لجامعة الدول العربية لعلها تتذكر فتتدبر. وهذه هي بلاغة الإلهام والفيض، تكشف الحجب بنور الله، وتخترق الغيوب بنفاذ البصيرة، وترسل الكلمة من فيض الخاطر وعفو البديهة فتكون حكمة الحاضر ونبوءة المستقبل!

صلى الله عليك يا رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وإمام السياسة والتشريع، وأمير الفصاحة والبلاغة، وداعية السلام والوئام والمحبة!

احمد حسن الزيات