مجلة الرسالة/العدد 760/الكتب
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 760 الكتب [[مؤلف:|]] |
البَريدُ الأدَبيَ ← |
بتاريخ: 26 - 01 - 1948 |
جنة العبيط أو أدب المقالة
تأليف الدكتور زكي نجيب محمود
تمنيت لو لم يكن هذا الكتاب لصديق، إذن لاستطعت أن أوفيه ما هو كفاء له من ثناء في غير حرج، ولكن فيم الحرج، وأنا أنظر إليه بعين النقد وبعين الحب معاً فأتحدث حديث الخبير الواثق؟
لم يعد زكي نجيب في حاجة إلى أن يقدم إلى القراء فقد صارت له في نفوسهم مكانة حميدة بمؤلفاته المجيدة في الفلسفة والأدب، وإنما أقدم كتابه هذا إلى القارئ مغتبطاً أشد الاغتباط، فإن له لشأناً عما قريب في أدبنا واتجاهه وفي جانب المقالة منه بوجه خاص. . .
رأى الدكتور زكي أن المقالة الأدبية في مصر تسير على غير نهج معلوم، فهي تصلح أن تكون خطبة أو موعظة أو جدلاً أو بحثاً علمياً أو تاريخياً أو ما شئت غيرها، ولكنها ليست بسبب من المقالة التي اصطلح عليها نقدة الأدب الإنكليزي في قليل أو كثير، وهو لم يكتب كتابه هذا ليصحح به هذا الوضع، ولكنه كتب مقالاته على غرار ما فهم بعد درس، وأشهد لقد بلغ فيها جميعاً من التجويد مالا ينزل به قط عن مستوى فحول المقالة في الأدب الإنكليزي، ولقد جاء بعضها في نسق لا أتردد أن أقول إني قلما وقعت على نظائره، خذ لذلك مثلاً البرتقالة الرخيصة، والكبش الجريح، وحكمة البوم، وجنة العبيط، وشعر مصبوغ، وبيضة الفيل.
واجتمعت له طائفة من هذه المقالات فأشرت عليه وألحفت أن يطبعها وهو يتردد ويتعلل، ولكني ما زلت به حتى أجابني إلى ما أردت. . . اختار المؤلف اسم أحد مقالاته عنواناً لكتابه فكان جد موفق وهذا الاسم هو جنة العبيط (أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنان الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه فإذا بغاث الطير تفرى جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته)، ولكم نعمتُ أنا في هذه الجنة وتفيأت ظلالها حتى ما أطيق أن أخرج منها، ولكم عدت إليها، أجل كم عدت إلى هاتيك المقالات أكثر من مرة فما زدت إلا استمتاعاً بها وبأدب صاحبها ولكم أعجبت بهدوء نقمته وصدق نظرته وعمق فكرته وحلو فكاهته ورقيق سمره، كل أولئك دون أن أحس أنه قصد إلى شيء من هذا، وهذا هو فن الكتاب، وهذا هو أدب المقالة كما بينه المؤلف في مقدمة كتابه، ثم هذا هو سر الجمال في هذا الكتاب البديع. ولقد خاطب المؤلف الفاضل قارئه في صدر كتابه بقوله (أنشدتك الله لا تحكم على قيمة هذا الكتاب بقيمة كاتبه، إن كاتبه ليرجو أن يكبر في عينيك بهذا الكتاب. . . أنشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بمعيار قادة الأدب في بلادنا؛ إنما نشرت هذا الكتاب لأناهض به أولئك القادة فكأنما بهذا الكتاب أقول: من هنا الطريق يا سادة لا من هناك)،
زكي يا صديقي. . . هات، هات من أحلام جنتك فإنا إلى مثل هذا الأدب عطاش.
الخفيف
إخوان الصفا
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
الأستاذ بكلية دار العلوم
إخوان الصفا جماعة بارزة بين مفكري الإسلام، يعتز الباحثون بآرائهم، وإن اختلفوا في حقيقة أمرهم، وقد كتبت عنهم رسائل صغار، ومقالات قصار، ولكن الأستاذ عمر الدسوقي قصر كتابه هذا عليهم، وتفرد ببحوث مفصلة عن عوامل ظهورهم، وروافد ثقافتهم وحقيقتهم، وناقش المرحوم أحمد زكي باشا مناقشة عنيفة في نسبته هذه الرسائل إلى مسلمة بن قاسم الأندلسي وفي نفيه أن المجريطي ألف رسائل مثلها، ثم كان له السبق في تجلية آرائهم، وجمع شتاتها، والموازنة بينها وبين آراء من سبقهم أو جاء بعدهم من فلاسفة الشرق والغرب، منتفعاً بدراسته العربية في كلية دار العلوم وبثقافته الغربية في جامعة لندن، ثم تميز ببحث قيم مبتكر عن آرائهم في التربية.
عقد المؤلف الفصل الأول لدراسة الحياة السياسية في القرن الرابع؛ لأنهم ثمرة عوامل عدة منها الحالة السياسية (والكائن المستقل عما قبله وما بعده والذي لا يتأثر بشيء مما حلوه ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به - لا عهد للعالم به حتى اليوم، فالمصادفة محال)،
ثم عقد الفصل الثاني للحياة العقلية، فتكلم عن السريان وأثرهم، وعن نشأة الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وأثر الفلسفة اليونانية في العقل العربي، وخلص من ذلك إلى أنهم تأثروا بالكندي في فلسفته الطبيعية، وبالمترجمين وآرائهم، وبالفارابي في إحصائه للعلوم، حتى وضعوا رسائلهم التي تشبه دوائر المعارف بالنسبة إلى زمانهم.
ثم تتوالى الفصول بعد ذلك عن إخوان الصفا، وزمانهم، ومكانهم، ونظام جماعتهم، ومذهبهم، وفلسفتهم، ورأيهم في النفس الإنسانية وفي التربية، معروضة عرضاً علمياً واضحاً مستخلصاً من رسائلهم.
ويجمل بنا أن نعرض بعض آرائهم التي استخلصها المؤلف من رسائلهم، فهم مثلاً يدينون بخلود النفس بعد أن تفارق الجسد، ويوازن المؤلف بين رأيهم ورأى أفلاطون في (الجمهورية) وفي (جورجياس)، ثم بين الرأيين في خلود كل نفس وبين رأى أرسطو في خلود النوع الإنساني. وهم يذهبون إلى أن البعث إنما يكون بأحوال تطرأ على النفس بعد انسلاخها من الجسد، ويقولون بخلود العالم، ويتساءل المؤلف: كيف يتفق هذا الرأي المخالف للدين الإسلامي مع آيات القرآن الكريم؟ ويورد تفسيرهم لآيات البعث تفسيراً قائماً على التأويل، وُيحكم بأن هذا تعسف وتكلف. ثم هم يذهبون إلى أن المعلم دعامة في صرح الأمة، وعلى الآباء أن يتخيروا بنيهم المعلم الصالح المستنير المتحلي بفضائل عَدُّوها والمبرأ من رذائل أحصوها، والمعلم كالأب له على تلميذه حقوق الأب.
وتكلموا عن التلميذ والمنهج الدراسي الملائم له وطريقة تحصيله للعلم، واهتموا باستخدام الحواس في التحصيل اهتماماً زائداً في مواضع شتى، وسبقوا برأيهم (بستالوتزى) في عنايته بالملاحظة والإدراك الحسى، وسبقوا (هربارت) في نظرية الاستطلاع، وبقولهم إن قوى النفس الإنسانية متحدة مرتبط بعضها.
ثم هم يذهبون في التربية الخلقية إلى أن الخير يجب أن يعمل حباً في الخير، لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، لأن هذا الخير المحض هو السعادة، ويقرر المؤلف أنهم سبقوا بهذا الرأي الفيلسوف الألماني (كانت) الذي بنى فلسفته الأخلاقية على أن الخير يجب أن يعمل لذاته. ثم يعرض المؤلف رأيهم في الفضيلة ويأثرهم بأرسطو في أنها وسط بين رذيلتين.
وبعد، فهذه لمحات أو قاطفات سراع من هذا البحث الممتع القيم، وكانت آراء إخوان الصفاء زهرات مبعثرات، فجمعها المؤلف في طاقة منسقة كانت هذا الكتاب، ومن ذا الذي لا تهفو نفسه إلى أن يستمتع من هذه الطاقة بنظرات وسبحات؟
أحمد محمد الحوفي
زقاق المدق
(قصة للأستاذ نجيب محفوظ)
هو اللوحة الحية الرائعة التي رفعت عنها ريشة الفنان البارع الأستاذ نجيب محفوظ. وقد يعجب القارئ من ناقد يفتتح مقال نقده بهذا المديح الجارف؛ ولكن مهما يكن الناقد مسرفاً في تزمته، فإنه إزاء نجيب لا يملك غير المديح المتدفق يجرى على قلمه لا يقف في سبيله أي عارض من عوارض التوقر التي تركب النقاد. بل إنه يجد خلف هذا الاندفاع ما يشجعه على المضي في السبيل التي يسلك حتى يريح ضميره الأدبي مما يحسه نحو هذا النابغة الفنان. . . وقد أصبح الهدم في أيامنا هذه بضاعة سهلة، يسومها كل محاول للكتابة. . . يظنون أن الشتيمة جرأة. . . يا هؤلاء! إنكم إذ تشتمون تظهرون بمظهر الجرأة حين لا جرأة لديكم، لأن من تشتمون لا يملك أن يلحق بكم أذى. ولكنكم إن مدحتم استهدفتم لقول القوم: إنهم يتملقون. وما أجرأ من يعرض نفسه لهذه المقالة. . . وهاأنذا أمدح. . . لاعن رغبة في إظهار جرأتي، فلن يظن بي أحد تملقاً. . . لكن رغبة في أن يكون الحق - حتى ولو كان مديحاً - هو الحكم الوحيد الذي نخضع له ضمائرنا. . . إنني أعلن في يقين راسخ أن نجيباً أصبح في القمة الشاهقة التي يعتليها كبار كتاب القصة المصرية.
واضح من العنوان أن القصة قد أخذت مساربها في أحياء وطنية خالصة. . . ولكن الغريب في أمر هذه القصة أن الأستاذ نجيب لم يطارد شابا بذاته من شبان المدق ليجعله بطل قصته، ولم يجر خلف فتاة معينة من فتيات الزقاق ليقيم منها الشخصية الأولى في القصة. لم تكن شخصية البطل آدمية، بل كانت الزقاق أجمعه بما يحويه من مشايخ وكهول وفتيان، وما يحويه أيضاً من عجوز متصابية، وكهلا تريد الزواج، وفتاة تستعرض فتيان الزقاق. . كان بطل القصة هو الزقاق. . كان لكل شخص قصته وصورته. . ولكل معهد من معاهد الزقاق رفاقه يكونون رسمه ويروون روايته. . ثم كان لكل قصة نهايتها. .
إن زقاق المدق هي القصة الأولى من نوعها في اللغة العربية. إذ جرى كتاب القصة على أخذ شخص أو شخصين ينسجون حوله أو حولهما قصتهم نسيجاً لحمته أشخاص آخرون. أما أن يكون كل شئ في القصة بطلا، فهذا نوع جديد في القصة العربية. ونجيب بارع كل البراعة حين يظل ممسكا بقياد القصة بين يديه لا يدع مجالا لها تلفت منه، حتى يصل بكل شخصية خلقها إلى النهاية التي أرادها.
وعجيب أن يستقيم له هذا الأمر مع هذا الحشد الهائل من شخصيات روايته. . . وقد انتفع الأستاذ نجيب بكل الظروف التي أحاطت بعهد القصة. فكان للحرب دور كبير في الرواية. فهي التي مهدت السبيل لابن المقهى أن يكون غنياً يستطيع أن يذهب إلى السينما، وأن يمشى بين رفاقه مزهواً يعيرهم ببقائهم على حالتهم لا يبذلون في سبيل (التريش) مجهوداً. وما زال بعجرفته حتى حدا بالحلاق أن يشد الرحال إلى الإسماعيلية فيعمل (بالأرنس) يجمع أموالا تليق بفتاة أحلامه وفتاة المدق التي خطبها قبل السفر. . والحرب هي التي هيأت للفتاة أن تكون (أرتست) ونرى نجيباً وقد أنشأ مدرسة قائمة بذاتها لتعليم أرتستات الحرب كيف يأخذن المال من (جونى) ونرى معلم المدرسة وقد رسمه نجيب رسماً عجيباً. . . مزيجاً من الشدة واللين،. ولئن كانت ومن اللطف والفظاظة المدرسة حقيقة سمع بها نجيب، فتسجيلها في قصته لفته جميلة. وإن كانت بنت خياله فهو رائع إذ ينشئها.
وكما أفاد نجيب من الحرب، أفاد من نهايتها أيضاً. . فأخرج العامل المتعجرف من عمله. وأطلقه سكيراً، هائماً على وجهه، ثم قاتلا لأخته من الرضاعة التي أصبحت في نظره جريحة العفة.
وأعادت نهاية الحرب الحلاق النازح للغني إلى الزقاق حيث يجد فتاته وقد أصبحت ذات ثراء واسع سكبه عليها لينها، فهو يساعد أخاها في قتلها.
وقد كان للظروف الطبيعية التي يمر بها كل قوم دور في الرواية. فنرى شاعر الربابة يضم قيثارته ويخرج من قهوته الأخيرة بعد أن ابتاعت (راديو) وأصبحت في غنى عن قصصه التي حفظها جميع رواد القهوة.
ويمتاز نجيب برسم شخصياته كما يخلقهم الله. فترى في الشرير خيراً وسراً. ولكنه يغلِّب فيه ناحية الشر على الخير، وترى في الخير شراً وخيراً، ولكن خيره غالب على شره.
ولنأخذ مثلا للشخصيات الخيرة في الرواية الشيخ رضوان الحسيني فترى الخير فيه غالباً. فهو الذي يلجأ إليه سكان الزقاق في الملمات. وهو المثل الذي تشير إليه الأمهات إذا شئن أن ينصحن أبناءهن. . ولكنه مع هذا شرير مع أهل بيته، يفرغ فيهم ما يكظمه من غضب في مخاطبته لأهل الزقاق. أما الشخصيات الشريرة فهي كثيرة؛ ولكن لنأخذ مثلنا المقهى، فهو رجل ذو أمزجة مختلفة كلها شاذ يدعو إلى الاستنكار الشنيع. ولكنه مع هذا لا يطيق أن يبذل وعداً بالصلاح حين يطلب إليه الشيخ أن يبذله. فهو رجل لا يعد دون تنفيذ.
لن أحوال الكلام عن جميع الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب، فهي - كما قلت - كثيرة، وكلها بطل؛ ولكن ثمة شخصية رسمها نجيب حاد في لمحة منها عن طريق كنا ننتظر أن تسلكه، هي شخصية صاحب الوكالة. وهو بك كبير في السن، كان يأمل أن نتزوج من فتاة الزقاق. وكم كان الأستاذ نجيب موفقاً في عرضه لهذا الحب العجيب بين الغسق والضحى. ولكن قبل أن يتم الزواج سقط الرجل مريضاً، ولج به المرض، ثم شاء له الله الشفاء وكنا ننتظر أن يقوم من مرضه مؤمناً بالله، شاكراً له، ولكن الأستاذ نجيب أقامه ساخطاً على الدنيا، برما بها، كافراً بنعمة من شفاه. . . ومن الناس من يصاب بهذا. . . وكل ما ألاحظه أننا كنا ننتظر غير ذلك. . . ولا ضير عليه إذا أخلف ظننا.
وبعد. فلا يسعني إلا أن أقدم للحياة المصرية العصرية كل تهنئتي أن وفقت إلى قصاص كنجيب، يرسمها فيترك منها للأجيال القادمة صورة واضحة المعالم جلية المعارف.
ثروت أباظة