مجلة الرسالة/العدد 759/عقدة منحلة!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 759 عقدة منحلة! [[مؤلف:|]] |
في السياسة المغربية ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1948 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
في رأي الأستاذ نقولا الحداد أن فيثاغورس لم يكن إلا مخرفا سخيفا حين قال أن الكون عدد ونغم!
وقد كان فيثاغورس يقول ذلك يوم كانت المادة عند الأقدمين جسما محسوسا أو كتلة كثيفة، لم يكن معروفا من تقسيم العناصر وقوانين الحركة شئ مما يعرفه العلماء الآن.
ثم عرفت العناصر، وعرف إنها كلها تركيبات من الكهارب وإنها تختلف بينها باختلاف أعداد الكهارب حول نواة كل عنصر، وأن الكهارب نفسها إذا ردت إلى الإشعاع فهي عدد من الذبذبات، كلما ميزتها بغير العدد جسما أو قوة أو طاقة عدت إلى العدد، والتناسب بينه، من جديد. . لأن أخر الأمر في القوة إنها حركة وأخر المر في الحركة إنها عدد من الذبذبات.
لا جرم نرى أناسا من اكبر أقطاب العلوم الطبيعية في هذا العصر، أن لم يكونوا أكبرهم جميعاً - أمثال مليكان وادنجتون وجينز أن الطبيعة حساب وياضة، ويتحدث جمينو خاصة عن (الله الرياضي) لأن قوانين الطبيعة مسائل ومعادلات.
فإذا كان الأستاذ نقولا الحداد لا يسخو على المسكين فيثاغورس بأكثر من صفحة التخريف والسخافة فليس معنى ذلك أن فيثاغورس المسكين مخرف سخيف فيما قال عن العدد والنغم، وإنما معناه إن الأستاذ نقولا الحداد لم يرزق بداهة فلسفية كبداهته، ولم يرزق نظرة علمية إلى ما وراء الظواهر كالنظرة التي نؤثرها أمثال جينز وادنجتون ومليكان.
ولو أن الأستاذ نقولا الحداد رزق تلك البداهة لا نحني إجلالا لتلك العبقرية التي نفذت من وراء الكثافة المادية، ومن وراء العصور المتطاولة، إلى حقيقة مجردة يسمعها الأستاذ ولا يفقهها وهو يعيش في عصر (العدد) الذي يصحب الوجود من أمواج الكهرباء والمغناطيس، إلى أجزاء العناصر ونسب الكهارب وجملة ما في الوجود بين الأرض والسماء.
والفرق بين تحية الإجلال الواجبة، وبين تهمة السخافة الجائرة، هو الفرق بين التقدير الصحيح والتقدير الخاطئ في أمثال هذه الأمور.
على أن هذا التقدير الخاطئ قد تجلى في هالة المع من هذه الهالة حين تصدى الأستاذ لموضوع كتابنا عن (الله) وتناول مشكلة العقل فقال عنها في فصل من عدد المقتطف الأخير:
(إذ صرفنا النظر عن ذاتية العقل وحسبنا العقل عملا من أعمال خلايا الدماغ - الصنوبرية أو غير الصنوبرية - أو هو أهموظيفة لهذه الخلايا بل هو وظيفتها الرئيسة في الأقنوم الإنساني، انحلت العقدة حالا).
وهذه هي العقدة التي حلها الأستاذ حالا. . . . وبمثل هذه السرعة يستطيع ولا شك أن يحل كل عقدة من العقد بغير كثير أو قليل من العناء.
فأما أن يكون في هذا الوجود شئ عجيب أو ليس فيه شئ عجيب على الإطلاق، لأن وجوده فيه ينفي عنه العجب ويغنيه عن التعليل.
فإن لم يكن فيه شئ عجيب فقد انتهينا وانحلت العقدة حالا، بل لم توجد العقدة حتى تحتاج إلى حلول.
وإن كان فيه شئ عجيب فأي شئ هو هذا الذي يمكن أن يوصف بالعجب من ظهور الحياة في المادة، فضلا عن ظهور العقل وهو اعجب من الحياة!
كيف كسبت الخلية الحية خصائص الحياة؟ كيف انقسمت لتحفظ نوعها! كيف تطور هذا الانقسام إلى ذكورة بسيطة وأنوثة بسيطة؟ كيف تجمعت هذه الخلايا في أجساد تختلف فيما بينها اختلاف الأنواع والأجناس؟ كيف نمت هذه الأجساد وارتقت فارتفعت طباقا فوق طباق؟ كيف أصبحت كل خلية توافق كل خلية غيرها في البنية على العمل المشترك بين جميع الاعضاء؟ كيف بلغت مبلغ الإنسان وظهر فيها عقل الإنسان كيف اتفق هذا التطور في اتجاه واحد إلى هذا الاستعداد لظهور الحياة واستمرار أجيال الأحياء ثم ظهور التفكير في أرقى الأحياء؟.
أهو تدبير أم مصادفة عمياء؟
أن كان تدبيرا فهذا هو العقل الذي ينكروا الأستاذ! وإن كان مصادفة عمياء فان هو العقل الذي يستريح عندما يقال له: لا تعجب ولا تستفسر فإن العقدة منحلة لا تحتاج إلى إيضاح، وهل بعد المصادفة العمياء من حل تتطلع إليه العقول؟.
وهذا العقل نفسه كيف يقال انه عنصر محدود في الكون بعقل الإنسان دون سواه؟.
ما هو الكون ولا سيما الكون فينظر الماديين؟.
إنه ليس بإقليم من الأقاليم أو قطر من الأقطار فيقال أن العقل من حاصلات هذا الإقليم دون ذلك الإقليم، أو مزروعات هذا القطر دون ذلك القطر!
كلا. بل هو كل ما كان وما يكون من غير بداية وإلى نهاية. . فكيف يستريح العقل حين يقال له أن عنصر العقل في الكون كله أن هو إلا فتلة من فلتات المصادفة وجد على سبيل الاتفاق بعد وجود الإنسان؟.
كيف نحل مشكلة العقل المجرد الذي عرف الحقائق الرياضية تامة ولا يزال (العقل التجريبي) يتخبط في علوم الحس والمشاهدة؟.
كيف نحل مشكلة العقل الذي يعظم كما تعظم العبقرية بالاختلال في البنية لا بالاستواء المعهود في التكوين؟
كيف نحل مشكلة العقل الذي ينتقل بغير الوسائل المادية والصور المحسوسة من واعية إلى واعية ومن دماغ إلى دماغ؟.
إنك لا تستطيع أن تقول أن (المكنات) الكهربائية هي التي أوجدت الكهرباء في العالم. فكيف تقول أن الدماغ البشرى هو الذي أوجد الفكر في الكون كله بعد أن لم يكن له وجود؟.
وليس لك أن تزعم انك قد عرفت الكهرباء بعد أن عرفت المكنات، لأنك لا تعرف عن الكهرباء اكثر من فروض وتخمينات.
تزعم حينا إنها أمواج فلماذا تتموج ولا تستقيم؟.
تقول إنها في بحر من الأثير فما هو الأثير إلا انه فرض مزعوم؟.
تقيس سرعة النور فلماذا تجده بهذه السرعة وبماذا تعلل أنه لا ينقص أو يزيد؟.
تتكلم عن اتجاه النور فإلى أين ينتهي بعد هذا الاتجاه؟ أيقف فما الذي يقفه؟ ايسري إلى غير نهاية فأين هي مقاومة الأثير المزعوم؟
تعود إذن إلى الأثير لتطلق عليه أوصافاً لا دليل لها ولا يزال تصديق كل وصف للإله أهون من تصديقها.
هو جسم وليست له صفة واحدة من صفات الأجسام فان لم يكون كذلك فهو عدم تفسر به جميع الموجودات!!.
وهكذا ترى أن المشكلة لم تنحل في شان المكنة التي تقتبس منها الضوء، وتستمع منها إلى أصوات الإذاعة، وتسميها بما شئت من الأسماء، وتعللها بما شئت من أمواج أو غير أمواج، وكهرباء أو غير كهرباء.
فكيف تنحل مشكلة العقل بكلمة واحدة: هي انه موجود ولا وجود له في غير الدماغ؟
ولا في الدماغ إذن يا أستاذ سامحك الله!!.
إن السلوكيين أصحاب القول بالعقل الدماغي لا يحسبون مسالة التفكير بهذه البساطة التي تنحل حالا على هذا المنوال، لأنهم يسلمون إنها (مشكلة) ثم يحاولون أن يفسروها فيخيل إليهم انهم قد فسروها بقولهم أن التفكير مستمد من الكلام.
وفيثاغورس سخيف عندك يا أستاذ.
فأعطنا الحق الذي سمحت به لنفسك لتقول على حق أن هؤلاء السلوكيين سخفاء. . .
فالمعقول أن الإنسان تكلم لأنه فكر، وليس بمعقول انه يفكر لأنه يتكلم إذ كان الحيوان خليقا أن يتكلم ثم يفكر كما فعل الإنسان.
أما أن قيل أن الإنسان قد تكلم بعد أن اصبح جهاز المنطق فيه صالحا للنطق وجهاز التفكير فيه صالحا للتفكير فهذا - هو العجبوليس هذا هو الحل الذي يبطل التعجب.
المصادفة العمياء تتم جهاز النطق، والمصادفة العمياء تتم جهاز التفكير ويمضي هذا في الظلام ويمضي ذلك في الظلام ليتلافيا معا في الظلام!!
وقد انحلت المشكلة حلا بغير إبطاء.
يا أستاذ
إن المشكلة معك هي انك لا تضع السؤال، ولا عقدة حينئذ ولا أشكال.
فإن شئت فضع السؤال أولا ثم فكر في الجواب، وأنت تغرف (حالا) أن الذين لم يسرعوا إلى الجواب مثل إسراعك يعرفون على الأقل ما هو السؤال وإن لم يعرفوا على التحقيق كل ما يستدعيه من جواب.
عباس محمود العقاد