مجلة الرسالة/العدد 758/على الأثير
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 758 على الأثير [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 12 - 01 - 1948 |
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
(كان يقال: كلام ذاهب في الهواء ليقال أنه كلام لا يبلغ الآذان وأنه من باب أولى لا يسلك سبيله إلى الهواء في زماننا هذا أكثر وايسر من كل كلام يتلقاه الناس على صفحة القرطاس). . .
عباس محمود العقاد
على الأثير
أحاديث مختلفة نضدها العقاد في كتاب واحد وهي تختلف في الألوان ولكنها تتحد في عمق الفكرة وصدق المنطق وفي أنها كلمات ألقيت عبر الأثير لتنساب إلى الآذان وتبلغ الناس رسالة فكرية تحل مشكلاتهم في أيسر سبيل.
تقلب صفحات الكتاب فتلمس علاجا لمشاكل الثقافة والاجتماع والتاريخ والوجود والنفس، وتلمح بعض المناسبات التي يتحدث فيها المسلمون بعضهم إلى بعض حديثا تدعو إليه صلات الرحم وهذا الود الكريم الذي يؤلف بين القلوب ويوجد بين النفوس ويجعل الحياة إخاء ومودة ورحمة.
ارأيت إلى حديثه عن قادة ثلاثة من قادة الشرق واعني بهم الحكيم جمال الدين الأفغاني والشيخ الإمام محمد عبده والزعيم الخالد سعد زغلول؟ ولو قدر لك الاستماع إلى هذا الحديث أو قراءته خلال صفحات الكتاب لوجد أن النقاد تسال عن مكانة الأستاذ الإمام بين زميليه العظيمين اللذين يذكران معه كلما ذكر. والرأي عند العقاد أن القيمة الحقيقية لكل منهم تختلف في التحديد فقد كان محمد عبده مصلحاً دينياً وجمال الدين داعيا عظيما، وسعد زغلول زعيماً خالداً، فهم أذن يتفقون في بعض خصال وبعض مشارب، ويختلفون في أساس الاستعداد.
وأنت ملاق في كتابه نوعا جديدا من فلسفة الوجود، صيغت قي مقال صائغ مشرق الديباجة رصين الأسلوب وهذا في مقال له دعاه (طفولة الإنسانية) يقول فيه: (ما دام الإنسان يريد الخير فهو ينشده ويبذل فيه ثمنه وإن غلا؛ وهو أذن رجل الروح والأخلاق. وما دام الإنسان يراد على الخير فهو لا ينشده إلا إذا عرف الجزاء عليه وهو أذن طفل الروح والأخلاق وإن جاوز السبعين والثمانين).
ولا شك أن هذه فكرة بنى عليها الوجود. وحل سائغ لهذا البناء.
ولننتقل الآن إلى النفس، وهل هناك أقدر من العقاد على الكتابة عن النفس.
أنه يقول عن الأزمات النفيسة التي تعصف بنفوس الأفراد، وتطيح بهناء المجموع، وتزلزل كيان الدول: (الأزمات النفسية سببها الحيرة وصعوبة الاتجاه في طريق دون طريق وعلاجها هو اليقين والإيمان). . .
وهو جد حريص يحتاط لما قد يقال، بل يسرف في الإحاطة فيزعم نفسه ناقدا ويتخيل ما قد يلقى من أسئلة وما قد يثار من نقد. فهو يقول أن هذا الحل ليس من اليسر بمكان بل أن فيه صعوبة شديدة، فلن تستطيع أمة أن تعتنق الإيمان وتثير في نفسها الطمأنينة وتمضي إلى حيث الأمن والدعة بل أن هذا يحتاج إلى أجيال متعاقبة توحي إلى نفسها الثقة والاستقرار. . ولكني أقترح على أستاذنا الجليل أن يقدم كتابا تدبجه براعته يبحث في هذه المشكلة، وإن كتابا كهذا، لا يحتاج إليه الشرقي وحده، بل العالم بأسره.
ولننتقل الآن إلى غصن رطيب أخر مما تحفل له الدوحة ذات الأرج العطر والعبير الفواح. .
أنه لحديث عن اجتماع، أو الإصلاح الاجتماعي بالتحديد؟ والإصلاح الاجتماعي في هذا البلد كلمات ذات جرس موسيقي ولكنها كلمات فقط، لا تذهب عن هذا في كثير أو قليل.
وما دمنا بصدد الكلمات، فلنلمس رأي العقاد فيما يقول، فنجد خلاصة حديثه ينتهي بنا إلى نتيجتين لا تضيع في تحصيلهما الدقائق المعدودات، أولى النتيجتين أن الناس يستسهلون الإصلاح بالمنع والتحريم ولا يفكرون كثيرا في الإصلاح بالعمل والإنشاء، أما النتيجة الثانية فهي أدعى إلى التسلية والراحة لأنها تخفف عنا شيئا من أعباء الحياة، وينتهي من هذا أن مذاهب الإصلاح كورقة اليانصيب الخيري، أن أصابت فهي ثروة وإن أخطأت فهي إحسان.
وكلامه هذا يعيد إلينا صورة من حياتنا النيابية، ومن تلك المشاريع الضخام التي تروح في سبات عميق بين الملفات والقرارات. ومن تلك الخطب المسماة خطاب العرش التي تقول وتقول وتقول. . . حتى إذا قذف السهم بالوزارة وأطاح بالكرسي المقدس ورحنا نلتمس مخلفات العهد فلا نجد إلا الأقوال والأقوال والأقوال. . .
وهذا غصن أخر، فيه فكرة وفيه منطق وفيه نفاثات من هذا العقل الكبير.
تراه يحدثك عن معنى الثقافة، فيبدو اللفظ رأسك ويتخذ له مئات من المدلولات وعشرات من الإشعاعات والظلال والأضواء.
وهل كانت للثقافة معان توضحها. . . وهل كانت للثقافة ثقافة أخرى تشرحها.
أن العقاد يبتسم. . وأظنه يعرف أن النقاد سيقولون هذا القول ويأخذون عليه هذا المأخذ. . وانه لقائل في معنى الثقافة أنها تنقسم إلى ثلاثة عناوين. مطالب الحس ومطالب الحركة ومطالب التفكير.
وينتهي من حدثه بخلاصة توضحها كما تعودنا أن نجد في هذه الأحاديث. فنجده يقول:
(وصفوة القول أن الثقافة هي استحياء عناصر الحياة جميعها ولكننا نستحييها بالمجهود الذي يلائمها فلا نزيد في بذله عن القصد النافع والقدر الصالح ولا تنسى الفوارق بين الملكات في تقدير هذا المجهود. .).
هذه صورة سريعة من هذا السفر الحافل، قد تعطيك فكرة عن الكتاب ولكنها لا تعطيك كل ما تريد أن تعرفه فما في مقال كهذا يمكنني أن أعطيك ما تشاء من فكرة وصورة وآراء.
صبحي شفيق