مجلة الرسالة/العدد 755/الأديب والإصلاح الاجتماعي
→ طرائق من العصر المملوكي: | مجلة الرسالة - العدد 755 الأديب والإصلاح الاجتماعي [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 22 - 12 - 1947 |
للأستاذ أحمد محمد العظمة
لا مشاحة أن للأديب تأثيراً قوياً على النفوس والأفكار والعواطف والأخيلة، وان له أثراً جلياً في حياة الأفراد والجماعات، وان النهضة الأدبية كثيراً ما تمهده للنهضة السياسية والاجتماعية والدينية، وفي تاريخ الثورة الإسلامية والثورة الفرنسية مثلا مصداق ما نقول. ولا بدع فالأديب إذا بكا بقلبه مثلا بكا يراعه، وإذا ثارات نفسه ثار أسلوبه، فكأنما هو يكتب بمداد من الدماء يكفي أن يبصره الناس حتى يهيج دماءهم ويخف بها إلى ما يريد منها، وكأنما هو يخطب بأصوات من روحه لا من لسانه حسب الناس أن يسمعوها حتى تتصل بأرواحهم فتعمل فيها عمل العاصفة حيناً ثم تقذف بها حيث تريد (كجلمود صخر حطه السيل منى عل). وهذا من أسرار تلك الكهربائية الأدبية التي تعمل عملها في جوها الروحاني فلا يبلغ مبلغها إلا هي. فليس الأديب إذن أديب الألفاظ الأصلية ولا الأفكار الوزينة ولكن أديب الفن، والفن رعشة روحاني تصطفى ما تشاء ثم توحي به نغما أو رسما أو كلما تفكيراً أو عاطفة أو خيالا.
إذا كان للأديب هذا الأثر فتعالوا نتساءل عن مبلغ اهتمام معظم أدبائنا بنا وتأثيرهم الاجتماعي التقدمي فينا.
في ظني أن الجواب يحمل دون ما ينتظر من أكثرهم، فقد جروا مع الزمان كما أراد كأنهم ليس لهم في الإصلاح من مراد، انهم يهتمون بأنفسهم اكثر من اهتمامهم بأوطانهم فلم يكونوا فاعلين بالهام الواجب، بل كانوا ظاهريين انفعاليين بعامل البيئة، ينظرون إلى ألوان الأشياء والحوادث وأشكالها ولا يتأملون في حقائقها ومآلها، كأنهم يهدفون إلى الجمال الظاهري الأبي وحده ويجرون في ذلك وراء غيرهم جنوداً ولا يجرون في الطليعة قواداً، رأوا الناس استساغوا منهلا فنهلوا منه وعلوا، فبضاعتهم من الرأي تقليدية مخادعة لا ذاتية تأملية، وقد تكون هذه البضاعة من البهرج الدخيل في الأمة لا الجوهر الأصيل فيها، وقد يكمن فيها استعمار فكري أو انهيار خلقي أو إنذار سياسي، وقد تعقبها الواقعة فلا تجد الأمة لوقعتها دافعة.
غفال الناس عن ذلك كله فغفل الأدباء مثلهم أو تغافلوا فلم يكرثهم أمرهم ليروه حقيقياً بالاعتداد به والاحتفال له، وقد يكون من أسباب ذلك ظنهم أن الأدب الهيئة الحياة فلم يجعلوها جهيراً للخير وبوقا لليقظة وقد يتذمرون منه أن رواه كذلك في عيش يبتغونه رقيق الحواشي لا يعرف إلا هزلا.
وقد يلتمس بعضهم العذر لبعض وهو يراه على خطأ الرأي وصدق في العاطفة الجامحة بأنه أديب والأديب مرآة يتراءى فيها كل ما يتجلى لها فليس في تبديل ما يعرض له يدان، وما ذلك بعذر لو كانوا ينصفون: فالأديب مرآة ولكنها عاقلة، يصحب تشبيهها وتلهها إيمانها وتفكيرها وثقافتها وإرادتها وغايتها، فليست مكرهة على أن تسف وتسخف، بل ينبغي أن تصطفى مما يعرض لها، وان توجه الحوادث توجيهاً وتؤلف منها مظهراً جميلا لقصد رفيع ترينه، كما يؤلف الكيمائي من مختلف العناصر جسما لم يكن وهو يريده، وبذلك يثبت الأديب انفعاله بتأثير بيئته وعوامله الذاتية إثباتاً دفاعيا لا أتخذ آليا، كما ترى ذلك مثلا في العبرات للمنفلوطي ووحي القلم للرافعي:
أنا لست غافلا عما يؤلف في الإصلاح الاجتماعي، ولكني لست اعني الآن العلماء الباحثين والكتاب الصحفيين، إنما اعني الأدباء أولى الرعشات الروحانية الذين مهدت بالحديث عنهم، فما أقلهم وإن كثرت الكتب والصحف، وما أقل منهم حملة المصابيح في دياجير الحياة الذين يصدر أدبهم حيوياً تغذوه عقيدة راسخة وثقافة جامعة ناضجة فلا يستعبدهم هواهم ولا يستبد بهم ولا يسخرهم تقليدهم ولا يسخر بهم. فأين أين ذاك الماء الزلال الذي يفيض عن معينه الثر الذي لا يعتكر، ويصدر معينه عن السماء تمده بطلها وان كان هو في الأرض؟
أن الأدب العربي لا يتعذر الإصلاح عليه فهو يستطيع أن يحيط خبراً بما بين الناس وان يجتذب ما يحتاجون إليه مما يقوم حياتهم ويدرا عنهم ما يتهددهم من الآفات الاجتماعية التي انسلت إليهم من سواهم ثم تفشت فيهم وجعلتهم يتداعكون وهم بين أعداء لها يحذرونها وأنصار يفخرون بها ويحضون عليها، حتى لكان أبا العتاهية يصدق فينا قوله:
أنا في زمن ملآن من فتن ... فلا يساب به ملآن من فرق.
يستبين من هذا كله أن على الأديب العربي اليوم أن يجعل حظه عظيما من بحوث الأخلاق والاجتماع وما ايها، حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل والشراب الأجل بالسراب العاجل، فيأخذ نفسه بما صح عنده من أحكام، وما كرم من أخلاق وما سما من مقاصد، ويدعوا لذلك غير متريث ولا مهيب، وقد يدعو هذا إلى شيء من المطاولة والتروي والمواصلة، فلا ضير، بل يجب أن يكون كذلك حتى يكون الأدب أو بعض الأدب عميقا معه برهانه فلا يهلهل عند النظر ولا يضمحل إزاء الحجة، ولا يتمهل أمام الواجب.
إن المعركة الخلقية الاجتماعية اليوم من الخطورة بمكان، فهي عند مفترق الطرق، وهي معركة مبادئ تتضاءل ليذهب زبدها جفاء، ويمكث حقها في الأرض بعد ثبات أهله وصبرهم وجلدهم وحكمة قيادتهم.
أنها لمعركة مبادئ تبقى بعد الأمة العربية عربية تهتز بتاريخها المجيد، أو تغدو غريبة تعتز بتاريخ من ليس لهم للحق تاريخ إلا من صفحات العدوان على حق خنقوه ودم سفكوه ومجتمع أضلوه. وان وراء الحق صادقة، وخلقا كريماً، وعزة، وضياء، وان وراء الباطل تحللا، وسفهاً، وذله وعماء، وما يبدي الباطل وما يعيد.
فمن غير الأديب العربي الحمى الأنف يطارحنا بلحنه الأخاذ فيهز القلوب والمشاعر والأفكار، بل يهز الأرواح هزاً منهاً إلى السبيل السوي الذي يجد أهله بعده عزهم وهداهم ونعماهم فلا يضلون في مهامه المذاهب الاجتماعية الكثيرة التي لا يكاد يتبين فيها الساري وضح الطريق، وإنما خشي ما فيها من متفجرات تدك بنيان النهضة من القواعد دكا، ولا تلبث ذويه حتى يعودوا إلى أنفسهم نادمين فينشئوا حياة ويبنوا المجد كبناء الأبوة الأمجاد.
إن الأمر حقيقة وجد وما هو بخيال وهزل، فما أحرى الغير على يوم الأمة وغيرها أن يفكروا في هذا الضرب من الأدب والأدباء، ولعل من الخير أن يدعوا إلى مؤتمر أدبي على عربي يجتمع مؤتمروه في إحدى عواصمنا كل عام، فتعرض فيه مشكلاتنا الأخلاقية وآفاتنا الاجتماعية ويوجه نحوها الضياء، ويوصف لها الدواء، فيقوى الرجاء بان العرب يسيرون قدما إلى الأمام ودائما إلى الأمام بعد أن صدروا عن عكاظهم الجديد عكاظ الخير والأدب والوطن العربي الكبير.
دمشق
أحمد مظهر العظمة