الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 754/مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)

مجلة الرسالة/العدد 754/مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)

مجلة الرسالة - العدد 754
مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 12 - 1947


للأستاذ مناور عويس

(تتمة)

ما قرأت نعيمه - شاعراً أو ناثراً - إلا أحسست بدبيب الروح يسري في عروقي، وما أصغيت إليه - خطيباً ومذيعاً - وأحسنت الإصغاء والاستجابة إلا خيل إلي أنني أسمع أنغاماً شجية علوية تنبعث من عالم سحري مجهول، ومن رآه يلقي خطابه سلام الله وسلام الناس، في قاعة جمعية الشبان المسيحية في القدس خاله نبياً من أنبياء العهد القديم واقفاً على أحد تلال أورشليم يعلم ويعظ ويتوعد!.

وما شعرت بأفضليتي على غيري إلا توارد على خاطري بيتاه اللذان يخاطب بهما الدودة:

ولولا ضباب الشك يا دودة الثري ... لكنت ألاقي في دبيبك إيماني

لعمرك (يا أختاه!) ما في حياتنا ... مراتب قدر أو تفاوت أثمان!

سوف يأتي ذلك الزمن الذي يدرك فيه الناس قيمة نعيمه الأديب الشاعر الإنسان، نعيمه الذي أدمى قدميه سري الليل وقطع المهامة المخوفة ليصل إلى محراب الحياة، ومن أقل الذين وصلوا إلى ما وصل إليه نعيمه!. . .

نعيمة الذي أذاب قلبه وسماه (همس الجفون) و (زاد المعاد) و (المراحل) و (البيادر) وما هي إلا روحه صاغها ألحاناً وسكبها كلمات ومقاطع ناشراً في تضاعيفها الحب والخير والسلام والجمال بين الناس وساعياً إلى إيجاد عالم فاضل يليق بصورة الله ومثاله!. . .

قال صديق الأديب عندما قرأت له ما تقدم من الكلام: (أنك تغدق على نعيمه من الثناء كما لو كان نبياً! فأجبته:) لو كان نعيمه شاعراً وكاتباً ومفكراً فحسب لما خلعت عليه هذا الوشاح من الإجلال ولما رأيت فيه الإنسان الشامل للأديب الكامل، فالشعراء والكتاب والمفكرون كثيرون بحمد الله ولكن نعيمة إلى فنه الرائع وتفكيره العميق رسول من رسل الروح وثورة على المادية التي أرهقت الإنسان حتى كادت تصرعه. هو صاحب رسالة إنسانية شاملة يؤديها عن طريق الأدب، إنه ثورة على جمود القلب وتحجر الروح في هذا الزمن الرقيع!. . .

هو ناشر تعاليم الشرق الدينية والفلسفية وملبسها ثوبها القشيب، هو باعث (غوتامابوذا، ولاوتسو) من مرقديهما ومعيد بردة الشباب إليهما في القرن العشرين، هو غضبة من غضبات (يتيم قريش) في زمن كثر فيه اليتامى والتعساء!

وأخيراً هو صرخة من صرخات (الناصري) في عصر كثر فيه الصراخ وارتفع العويل حتى كاد صوت الحديد يطغي على صوت الله!!. . .

إن من يقرأ (همس الجفون) يجد أن نعيمه قد مرت عليه مراحل كان فيها عرضة للتجارب التي لا بد منها (للعارفين) ففي قصيدته (أنشودة) يقول:

ألقيت دلوي بين الدلاء ... وقلت علي احظي بماء

فعاد دلوي مع الدلاء ... وليس فيه إلا رجائي

علقت عودي على الغصون ... وقلت علي أسلو شجوني

فلم تردد على الغصون ... أوتارُ عودي إلا جنوني!

علوت يوماً متن جوادي ... ورشتُ سهمي على الأعادي

فخر ميتاً تحتي جوادي ... وعاد سهمي إلى فؤادي!

أدرت وجهي نحو السحاب ... وصحتُ: رب: خفف عذابي

فجاء صوت من التراب ... يصيح: رب: خفف عذابي!

في هذه الأنشودة نسمع صراخ روح نعيمه التي قابلت الشر بالخير والبغض بالحب فعاد خيرها عليها شراً وحبها بغضاً، غير أنه اهتدى في المقطع الأخير من أنشودته إلى حقيقة استراح إليها وهي: أن الحياة حقل يستثمره الإنسان وبقدر البذار والعمل ونوعيهما تكون الغلة.

والعيش حقل تستثمرينه ... يعطيك مما تستودعينه!

وقد توسع نعيمه في هذا المعنى في فصله الرائع (موزع البريد) أو القدر في كتابه الفريد المشهور (البيادر).

وفي أنشودة نعيمه هذه صور ومشاهد من معترك الحياة اليومي، فهو يصور نفسه فارساً يوقع أنشودته على خبب جواده كما يعرض علينا فصولاً مألوفة من صراع الإنسان على هذا الكوكب، ففي كل مقطع من مقاطع الأنشودة صورة بارزة قد استوفت جميع خطوطها وألوانها؛ وتلك ظاهرة جلية في شعر نعيمة فلكل قصيدة من قصائده ألحانها التي تنسجم مع بحرها ورويها وتتجاوب مع روحها ومغزاها. فإذا اجتمع لنا الفكر الرجيح والخيال المجنح والموسيقى الشجية مع توفر الصدق والإحساس ودقة التعبير كان لنا أدب رائع يستحق أن نفاخر به الأمم والأجيال وكل ذلك متوفر في شعر نعيمه ونثره. . .

والآن انتقل بك أيها القارئ إلى لون آخر من مائدة نعيمه الروحية فأعرض عليك شيئاً من شعره المتشائم الحزين. فقصيدته (قبور تدور) على ما فيها من تشاؤم مر يبعث الألم والحزن في القلوب، حقيقة نعرفها ولكن لا نريد أن نصدقها، وهو في هذه القصيدة يمجد جمال الروح ويزدري جمال الجسد كما يؤمن بأن الفناء بقاء وأن البقاء امتثال لإرادة الله كما أن الرجاء شقاء البقاء والمساء شقيق الصباح.

بعينيك نور تراه العيون ... جميلاً فتضحك منها المنون

لأن المنايا تحدق فيك ... بعين الزمان التي لا تخون

فتبصر في مقلتيك تراباً ... وتبصر دوداً وراء الجفون!

فخلى جمالاً يراه الغرور ... وليست تراه عيون الدهور

وخلى الجهاد وخلى الطموح ... وخلى القصور وحي القبور

ودوري مع الكون جيلاً فجيلاً ... فهل نحن إلا قبور تدور؟!

إن نعيمه لا يريد أن ننخدع بقشور عن لبابها ولا يحب لنا أن تعمينا أعراضها عن جوهرها، لهذا لجأ إلى ذلك الأسلوب العنيف ليحد من شهواتنا ويهذب من غرائزنا التي تتهالك على الجمال الفاني تهالك الذباب على الحلوى، ذلك الجمال الذي لا تكاد نعب منه حتى يزداد عطشنا ونحس بالجوع يمزق أحشاءنا؛ وليس أسلوب نعيمه هذا بدعة في الأساليب، فقبلة الأنبياء والمصلحون الروحيون قد استعانوا بهذا الأسلوب للحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة، والأديان السماوية تقوم على الوعيد أكثر مما تقوم على الوعود، ونعيمه فضلاً عن تأثره العميق - روحاً وتفكيراً وأسلوباً - بالكتب المقدسة والديانات والفلسفات الهندية والصينية نرى للأدب الروسي عامة ولتستوي ودستويفسكي خاصة أثراً ملموساً في بساطة تعبيره ونزعته الروحية والصوفية المشبعة بالحكمة العالية. . وظاهرة أخرى تلفت النظر في شعر نعيمه وهي أن قصائده متقاربة التاريخ فآخر تأريخ لما نظمه بالعربية هو عام 1925، ففي شعره تجد الإيمان إلى جانب الشك والتسليم إلى جانب الثورة مما يدلنا على أنه في فترة شبابه كان عرضة لتقلبات الأجواء الفكرية والنزعات الوجدانية، فبينما نراه في قصيدته (الطمأنينة) مؤمناً بأ سقف بيته من حديد وركنه من حجر، لا يخشى عواصف الرياح ولا هطول المطر، يستخف بالهموم والنحوس والشقاء والضجر ويتحدى خطوب الدهر أن تنزل به الألوف لأن باب قلبه حصين من صنوف الكدر إذ حالف القضاء ورافق القدر، نجده في بعض قصائده الأخرى شاكاً مرتاباً أو حزيناً متشائماً، كما نراه في قصيدته (الهم) يخشى أن يبعث معه الهم يوم القيامة:

أخاف أن ما دفنا ... يقوم يوم القيامة!. . .

ثم أصغ إليه في قصيدة (النهر المتجمد) كيف ينتهي خطابه لذلك النهر.

يا نهر ذا قلبي أراه كما أراك مكبلاً ... والفرق أنك سوف تنشط من عقالك وهو لا!

والذي أريد أن أخلص إليه هو أن نعيمه سجل في شعره - على قلته - نبضات قلبه وخلجات روحه، فشعره صورة صادقة معبرة عن حياته الفكرية والروحية. وأعيد القول بأن نعيمه هو ثورة على (التحجرية الأدبية) و (الانكماشات الانعزالية الإقليمية) ورسالته الإنسانية الشاملة لا تعرف للوطنية حدوداً (كرتونية) ولا للقومية عصبية قبلية دموية، وهو حد قول الشاعر

وطني الدنيا وديني خالقي ... وأخي كل شقي في البشر!

(يافا)

مناور عويس