مجلة الرسالة/العدد 754/حس مرهف
→ مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون) | مجلة الرسالة - العدد 754 حس مرهف [[مؤلف:|]] |
الذكرى الأولى: ← |
بتاريخ: 15 - 12 - 1947 |
للأستاذ ثروت أباظة
قالوا إنه فلان بك! ألم تسمع به؟ فلم أكد أجيب بالنفي حتى ضج القوم بالعجب وقالوا: إنه فلان بك! فقلت: تشرفنا. فقالوا: كيف لا تعرفه؟ فاعتذرت من جهلي الفاضح وصوبت في الرجل طرفي وصعدته فإذا متراكب اللحم متراكم الشحم منبعج البطن صغير العينين أفطس الأنف، له فم يوائم ضخامته يعلوه شاربا ينتهي سبالاهما عند أنفه؛ وهكذا يرسم لك الشاربان والأنف بيضة كبيرة مكتملة؛ فإذا نفث من فمه دخان شيشته كان من زمجرتها وركام دخانها أشبه بقطار خرب.
وتكلم. . . فوالله ما وجدت أتفه من قوله، فمن حديث عن غناه، إلى نبذة عن هواه، فإن سما فأخلاط غثة في السياسة. . وهكذا. . وهكذا جرى الحديث أو وقف على شر ما يجري حديث أو يقف، والرجل ماض في الثرثرة وأنا على موعد في هذا المكان فلا معدي لي عن السماع. إنه يدخل بال مناسبة في حديث عن إحساسه وشعوره. . إنه مرهف يعيش على أعصابه. . لا حول ولا قوة إلا بالله! هو مريض. . لا بأعصابه، ولكن بحب المرض بأعصابه.
وبعض الناس ينتابهم هذا المرض، وهو داء خلقه الله ولم يخلق له دواء؛ فإنك أن قلت للمريض به إنه غير مريض غضب واعترته هزة مصطنعة، وراح يرعش يده، ويبرق بعينيه، ويهدر بألفاظه. . إن هذا المرض في نظر أصحابه نوع من الرفاهية.
عرفت شاعراً مجيداً قرأت له قبل أن أعرفه، وما كدت ألقاه حتى أنطلق يذكر مصائبه فعرفت أنه موسر، وأن زوجته حبيبته وملهمة وحيه، وعرفت أن الحياة تمد له من أسباب السعادة وتطالعها بأبهى حللها. . عرفت هذا كله من مصائبه. . فهو يحول كل جميل إلى قبيح بمنظار داكن. . إنه مريض. . ولما حاولت أن آخذ بيده إلى الطريق جذب يده بعنف، وآلمه أني لا أحس بآلامه. ولولا أنها المقابلة الأولى لرماني بجمود العاطفة وبلادة الحس. . فصرت كلما قابلته أرثي لحاله مهما كان مسروراً حتى أصبح يستطيع لقائي ويستروح عزائي!
انتبهت من هذه الخواطر على صوت موحيها الشهير ما يزال يروي لي - وهو يظن أني أسمعه - كيف بلغت أعصابه من الحدة مبلغاً لا يمكن للإنسان أن يصل إليه، ولكن لم يطل فقد وافته برقية قرأها فاستجمع في ذهنه مظاهر الحزن التي يقرأ عنها ثم ألصقها على وجهه فبدا وكأنه حزين. فم مطبق، وجبين مقطب، ورعشة يد غير منتظمة! ولكني أشهد الله لم يكن ثمة خلجة من حزن على وجهة. . ماذا؟. . قريب له قد مات. . البقاء لله. . هكذا قلنا. . ورجاه الجالسون - وأنا معهم - أن يتصبر فصبر، ثم أطلقت نكته فضحك. . لم يبك الرجل، ولم يقم ذو الشعور الرهيف إلى مصابه، بل أقام في مجلسه يكمل الحديث عن حس رقيق في خلاله وشعور رقيق اختصه به الله. . .
لم أطلق صبراً فقلت له: يا سيدي. . إنك تتكلم عن أعصابك تصفها بالرفاهية والرقة حتى كدنا نعتقد أنك نسيج من أعصاب غير مغلف؛ وها أنت ذا تقدم أعصابك في امتحان؛ وها هي ذي تنجح نجاحاً لا تجوزه أقوى الأعصاب نسجاً وأشدها متانة. ألم يمت لك قريب.؟ ألم تضحك؟. . لا. . لا تقل إنك تعزي نفسك، إن العزاء يكون بعد النعي بيوم؛ هذا لمتين الأعصاب، أما لمرهفها فعشرة على الأقل. . يا سيدي مل بنا عن هذا الحديث أظنني كنت ثائراً. . ولا شك أنني فضولي ولكنني على أي حال (صاحب أعصاب أيضاً)
قام الرجل من جلسته ونظر إلي في احتقار شديد وقال: أنت أهنتني، وليس من دأبي أن أرد الإهانة بمثلها، فإلى اللقاء.
- متانة أعصاب أيضاً!
سمعها الرجل بظهره فلم يشأ أن يطيل الحديث فانصرف
- من هو؟
- غني يشتري أذناً صاغية لكلامه، وحزناً لمزعوم آلامه، بأن يدفع ثمن القهوة
- قسمة ضيزى! لقد غبنكم الرجل
- نعم أحسسنا بهذا منذ أيام، فشكراً لك على إنقاذنا منه
- العفو!
ثروت أباظة