الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 754/القصص

مجلة الرسالة/العدد 754/القصص

Il viandante e le statue بتاريخ: 15 - 12 - 1947


السائح والتمثال

بقلم ألدوبالاتسزكي

للأستاذ محمد لطفي جمعة

(يعد ألدو بالايسزكي من أكبر كتاب بولونيا فهو إيطالي

الأصل وكانت له جولة وصولة في أدب بلاده وقد رأس

تحرير جريدة (مارزوكو) وهي أشهر جريدة للنقد الأدبي في

إيطاليا وكانت تصدر في فيرنزه المعروفة عنها غير الطليان

باسم فلورنس وهي مهد الفنون والآداب وموطن دانتي البحري

وسافورنارولا وماكافيلي وبوكاشيو وبيكال انجلو وغيرهم.

وقد نحا الأستاذ ألدو بالاتسزكي القصصي نحواً جديداً وهو معالجة الحقيقة الإنسانية عن طريق الخفاء والغموض. وله كلمات مأثورة في مقدمة قصصه القصيرة وهي (أن الغموض يجلو كثيراً) وسيرى القارئ العربي صحة هذا الرأي).

- 1 -

. . . وكان عائداً من بلدة في الصين حيث يعبدون إلهاً بادناً، راقداً في المعبد ويده تحت ذقنه، ناظراً إلى بطنه وكأنها وعاء من اللحم الذي ملئ علماً! معبود شبعان ريان متزن وأن لم يتذوق ثمر الخشخاش ولم ينشق أزهاره لا يعبأ بجاره الذي حطمه ذووه وجرحوا جبينه بأشواك شجرة سقاها بعرقه ودمه وتعهدها، فلما كبرت وأفرعت وأيعنت صنعوا له من أخشابها ما صنعوا، علموها الجمود فكفرت بنعمة الذي زرعها وسقاها. ولكن الجريح كان مشغولاً عن دمه الهراق بالتفكير في العفو عنهم. ولا يسمع صوت سلفة الصالح الذي ساق جماعة بالعصى وشق بطون العصاة منهم بالمدى: العصاة والسكين وألواج الحجر الناطقة، كان يزمجر ويهرق ويرعد ويدعو على الذين آذوا حفيده الأقصى، ويدهش لمألته وليونته واستسلامه وينعى عليه تسامحه، أما الزمن فقد تغير وسار على عجل. والعصى التي كانت تسوق الجماعة، أمست في أيديهم يسوقون بها الفتى الغريب ولا يبالون!! أليس يلقاهم بالكلام في السهل والجبل ويحاورهم بالكلام في الحقل والدار، وعندما يحمي وطيس المعركة يجرد عليهم سيفه ويصوب نحوهم سهامه ويشرع في وجوههم رمحه، ويخفي وجهه الهادئ وراء درعه، ولكن السيف والسهام والرمح والمجن كلها. . . كلام. . . كلام. . . كلام عذب ومر وحار وحار. ولكنه كلام لا عهد لهم به. ولكنه كلام سيوف وخناجر ومدافع وقنابل ودبابات ونسافات (ماشين شلز) من نوع متمايز

كان السائح عائداً من بلدة في الصين، ولكنها لم تكن وطنه بل كان وطنه وراء بحار الغرب والشمال. فهو هارب من الحضارة باحث عن الوحدة والعزلة الدائمة عن أهل الغرب والشمال. وقد ظن أن ما يسعى إليه قد يكون في الشرق وراء الجبال الشاهقة والبحار العميقة والصحاري المترامية الأطراف.

طوحت به الأيام إلى هيكل نيبوس إله النور في مدينة طاس كند، وراء جبال هيدار، وهي الشامخة المعتمة بالجليد، طوال العام، وأن جليدها لا يذوب ولا يجري ماء على سفوحها.

ولكنه يبقى أبداً مكتلاً، ملتفاً، ناصع البياض كأنه شعر جسم على رأس شيخ هم، اشتعل شيباً، وزاد على ممر الأعوام وضوحاً وشمماً. ولم يعلم الكهنة كيف وصل هذا الغريب الأشعث إلى باب الهيكل فقد وجدوه مرتمياً على العتبات متشبثاً بالأحجار، لم يسمعوا له صوتاً وما شهدوا له حركة، فلما دنوا منه تبينوه، فوجدوه خائر القوى، منقطع الأنفاس، مغمض العينين، شاحب الوجه مكشوف البدن، وفي معظم أجزائه، ولمح أحد الكهنة أن قدميه تقطران دماً. وكانت له لحية سوداء بلون البقية من شعره فهو بلا ريب شاب لم يتخط الثلاثين من عمره، وأن كان النصيب والهم والأمل الخائب قد خطت على جبينه سطوراً عميقة كأنها محفورة بقلم من فولاذ في صفحة من المرمر الأصفر. وكانت عيناه حادتين، لم تتغلب الآلام على ما يشع منهما من دلائل الحيوية النابضة. وقد تمتد نظراته إلى ما وراء الأفق، كأنه يرى شيئا ًبعيداً انفرد هو وحده بشهوده فهو يراه يقيناً ولا يريد أن يشرك أحداً في رؤيته، ولعله يخشى أن لا يصدقه أحد أو يشك في صدقه هل هي رؤية أم رؤيا هل هي حلم أم حقيقة، سراب أم ماء؟.

فلم يملك الكهنة أن يغلقوا الباب ويتركوا هذا الميت الحي وراءهم نهباً للذئب والدب وليس في وسعهم أن يدخلوه بدون تطهير من أدران الدنيا فهو غريب منبوذ ولا يجوز لأحدهم أن يمسه ولا بجولة أن يمس أحداً. فهنا تفريق بين الطهر والدنس والنقاء والرجس. وهنا نظافة الجسم تحتمها طهارة النفس. لقد هلك كثيرة من القاصدين إليهم قبل أن يصلوا، وضل سالكون عدة دون أن تدنوا أقدامهم من العتبات. . . ولكن كل من يلمس العتبة لا يرد، ولا يطرد لأنه وصل. فإن كان على قيد الحياة فلا بد من الإذن بقبوله. فما ذنب هذا حتى يحرم؟ ألم يقرءوا في وصية نيبوس (بلوغ الباب قرين الدخول) ولكنهم أغلقوا الباب ليعودوا إليه بعد لحظة بإذن الدخول. فينقلوه فلما فتحوا الباب والتمسوه لم يجدوه في حدود الجدران فأخفقوا في العثور به حتى الصباح

- 2 -

وقال الأول: أن أثوابه به أطمار بالية فهو أكثر رضاً للافتراس

والثاني: لقد نحل خداه وتجعدت يداه فمن يكون هذا المسكين الذي قادته قدماه إلينا أهارب لاجئ أم طالب حكمة أم طالب قوت؟. . . وقال ثالث: ليس طالب قوت ولا لاجئ. ولكنه ينشد الهدوء واطمئنان النفس، أنه بالشك فار من دمامة الحياة التي قضى نضارة عمره في أحضانها. لقد تكشفت له عن حقيقتها ففر بالبقية الباقية من نفسه. ولكنهم كانوا يبحثون عنه قبل البحث عن سبب قدومه إليهم لأن نجاته من الهلاك أفضل من الكشف عن سر قدومه.

وقال أكبر سناً: صدقوني يا أخوتي أنكم تجيبون عن سؤالات يعجز صاحب الشأن نفسه عن الجواب عليها. فإن لمثل هذا الرجل ناحية غير موجهة إلى تحقيق أغراض بعينها.

وأن كانت له أغراض فقد نسيها أثناء الجهود التي بذلها حين كان يحاول بلوغها. ولا بد له من هذا النسيان وسر ذلك راجع إلى أن القوى التي ينفقها هي من فيض ما أعده له الإله لتحقيق أغراضه فيه - وهو الهدف الأعلى.

فهمهم أحد الكهنة وكان قصير القامة نحيل البدن أصفر الوجه وقال: الهدف الأعلى! ما فتئت أذكر الهدف الأعلى وأسمع عنه. .

فنظر إليه الذي كان يتكلم وقال: الهدف الأعلى الذي يرمي إليه الإله هو نفس الغرض الذي كانت ترمي إليه الآلهة في كل العصور - رفع النفس إلى مستواها الأعلى وتوسيع آفاق مسراتها - ولكننا نضيع وقتاً نفيساً في الجدل وربما يكون أحد الضواري قد أنشب أظفاره في ضيفكم ولعل وحشاً يقضاً كان يتبع خطواته، ويخشى أن يهاجمه وهو يوشك أن يلجأ إلى الهيكل، فلما أن فتح الباب توارى الوحش وقد ضاع أمله في الانقضاض على فريسته، ولكن لم يرض من الغنيمة بالإياب السريع. فلما أغلق الباب بعد فتحه ظن الوحش أنه قد خلا له الجو وآن أوان الافتراس. ولكن الكهنة لم يلبثوا في حيرتهم حتى سمعوا صوتاً داخل المحراب يستغيث بلسان غير لسانهم، ويبتهل ويتضرع بقلب مقروح وكبد حري. فإذا هو الغريب نفسه. وقد عرى من ثيابه فقد أشفق عليه الإله فأمر بحمله إلى حرمه بلا واسطة ثم غمره في حوض طهارته وألقى بثيابه الممزقة وراء جدار الهيكل ليغمرها الجليد فتخفى إلى الأبد عن الأعين. كان الغريب يصلي ويستغيث بعنف، بصوت متهدج وكلام متقطع، وكانت لحيته الكثة السوداء تضطرب، وأسنانه تصطك وقد تبدي ذاهلاً عمن حوله من الكهنة، الذين تجمعوا ليحدجوه بعيونهم بعد أن رأوا الإله يخرق له العادة ويقبله في المحراب.

ولما فرغ من صلاته جلس وتكلم لهم بلغي البلاد التي جاب آفاقها وقد ألتقفها جميعاً من أفواه المتكلمين وهو في سياحته، فقدموا إليه طعاماً من الشعير والزيت والفاكهة فبم يتذوق منها إلا قليلاً وكان يدير عينيه في قلبه فيبدو عليه السرور أو الألم كما يبدو على وجه من يشاهد أنه في الماضي القريب السحيق. ولم يكن في الجمع بين هاتين الصفتين تناقض فإن ماضيه كان حافلاً بالكفاح والجري وراء الحقيقة: فهو غني بالحوادث ولذا رآه قريباً وكذلك كان ماضيه محفوظاً بعذاب النفس وألمها فقد اكتوى بنار الحب بقدر ما تعلق بأهداب المثل الأعلى. وتلك التي عذبته لم تكن جديرة بحبه فهجرها وهو يعطف عليها وتخلى عنها وهو مشوق إليها. هذا طرف من الحوادث الواقعة التي كان يتكلم عنها فيصغون إليه، وهو يسح ويهضب بذكرياته، كان غنياً وكان شاعراً في بابلوس عاصمة الدنيا المتحضرة، وكان الناس متلهفين على آثاره والنساء متتبعات له متراميات على جسده يحاولن أن ينهشنه بأفواههن المحمرة، أو ينشبن فيه أظفارهن المحلاة بالخضاب المتعدد الألوان. وكان يرفه بشعره وحكمته عن الناس وينعش قلوبهم، ويغذي نفوسهم بإبداع فكره، ويفيض على حياتهم البشر والنور.

ولكنه لم يتزوج ولم يجن على أحد فقد وهبته العناية بصيرة بعيدة المرمى فأنف أن تتصل حياته بنسل، ولمح النفاق والجحود والنميمة ونكران الجميل والسخرية من خلال البسمات والضحكات والبشاشة الكاذبة والكلمات المعسولة والتبذل في ذكر الحب والإخلاص والوفاء، فتزعزعت عقيدته في دينه لأنه أمسى قوة تواطأت مع السلطان المطلق ومن حوله من السادات وامتنع عليها أن تسلخ الأيمان عن هذه المظالم.

فأنكرها وأنكر الأيمان ثم تزعزع اعتقاده في الإنسانية والمجتمع بعنف لم يعهده وأحس في نفسه بنصل قاطع لا شفاء لجرحه وهو الاحتقار لكل ما يحيط به. لقد أحس الهارب بالاحتقار نحو المال والحب والمرأة التي أحبها حيناً وأحبته طويلاً ونحو القاهرة التي خنقت العدل وأحيت الظلم والمنافقين والأوغاد والضعفاء. وقد حاولت تلك التي أحبته (أينوبيا) أن تستل منه شعور الاحتقار نحو الدنيا والحكم عليها بالصغار، فلم تستطع، لأن أقوالها وأفعالها كانت تزيد إيمانه في صحة حكمه عليها وعليهم. وبعد أن كان يؤمن بنفسه أمسى لا يؤمن بشيء فأخذ يبكي أحلامه وأمانيه العاثرة وهو يرى بعيني رأسه رجال المادة والقوة والملذات الجشعة متربصين على ركام الإنسانية ولا هم أذلها الحرص رجال على أفواهها الجوع ورعي قلوبها الاحتياج والشقاء وتكشفت له الحياة عن بعض حقيقتها فها هو الإنسان يستمتع بحواسه ولديه من الذهب والورق ما يستمد منه العظمة الكاذبة بقدر ما يملك منها، حتى صار ميزان أقدار الرجال بما يملكون من النضار، وبلغ بالفقراء يأس آخذ بالكليتين فآمنوا بالعذاب والأوهام قال الشريد للكهنة (فأقصرت يائساً وصرفت نفسي آسفاً وعولت على الفرار بالبقية الباقية من حشاشتي ووجداني واستكبرت أن أصبر على معاشرة الناس بعد الذي تحققته وبعد أن صرت أبغض المجالس والنوادي ولا أرتاح إلى أحاديثهم، ولا أغتبط بالأصدقاء وصرت أجزع من الذين ادعوا محبتي ولا أرى لنفسي قدرة على احتمالهم) فقطع أحد الكهنة حديثه في رفق وقال له (وتركت وراءك مالك ومكانتك في بابلوس عاصمة البلد المتحضر وقضيت عشر سنين في السياحة باحثاً عن الحقيقة. وخرجت من وطنك لتقلب الدنيا وتجعلها كما يجب أن تكون؟. . أليست هذه غايتك وأمنيتك وحكمك! فسكت السائح المجهول كأنه في سكرة طويلة ونشوة مستمرة وقال كاهن آخر: لقد كان وصولك إلينا في هيكل نيبوس إله النور إرهاصاً فإن الذين يضلون الطريق دون بلوغ كعبة الآلة كثيرون. ووصولك إلى المحراب بدون وسيط علامة إكرام. فحملق السائح في وجوههم الهادئة لأنه لم يعلم أنه جرد من الهلاهيل التي كانت حول بدنه ودخل في حمى الإله بدون وسيط، وأطال النظر في الوجوه المستنيرة المطمئنة وأخذ ذهنه يكر إلى الوراء فجأة بغير إنذار وتنبه إلى عرائه فأطرق وأخذ يبكي حتى بلل لحيته.

(البقية في العدد القادم)

محمد لطفي جمعة