مجلة الرسالة/العدد 751/من وراء المنظار
→ من ذكرياتي في بلاد النوبة | مجلة الرسالة - العدد 751 من وراء المنظار [[مؤلف:|]] |
في محنة الوباء ← |
بتاريخ: 24 - 11 - 1947 |
في زوايا الطريق
دقت إحدى الساعات الكبرى على مقربة من دقات ثمان والليل بارد الأنفاس وأنا أنقل الخطى في زحمة الناس على طور الشارع. وئيدة ثقيلة لا من كلال ولا من ضنى ولكن مما كان يثقل قلبي من صور وقع بي عليها هذا المنظار اللعين. . .
وأريد أيها القارئ أن تقاسمني بعض ما أثقل قلبي فما يزيده لعمرك ثقلاً أن أحمله وحدي، وكثيراً ما سقمت إليك ما أضحكك فإن أنا صببت عليك اليوم بعض همي فلا تكن من الغاضبين. . .
هؤلاء غلمان وبنات من أبناء الشارع وبناته قد أقعوا على باب أحد المطاعم يطعمون بأعينهم مع الطاعمين بأسنانهم وقد حرمهم التقمم رفع القمامة من الشوارع حذر الكوليرا، وهو منظر قد زال عنه معناه لكثرة ما ألفناه، ولكن هاهم أولاء جماعة ممن يأكلون بأسنانهم جماعة ليسوا من أهل هذا البلد الذي آواهم فأشبعهم يأبون إلا أن يبرزوا المعنى الذي غاب فهم يلقون ببعض اللقم والقشور ويلهون ضاحكين بمرأى هؤلاء الغلمان كيف يقعون عليها كما تقع الكلاب والقطط وكيف يتزاحمون ويختصمون.
ومضيت ثقيل الخطى ثقيل القلب فلم أذهب غير بعيد حتى انعطفت عند زاوية فإذا رجل خشبية تمتد إلى جوار رجل من عظام ولحم وإذا صاحب الرجلين قد أسند ظهره إلى الحائط واستراح من بعض همه بغفوة وأمامه علب الكبريت لعله لم يبع منها بما يتبلغ به فنام، وابنه الهزيل النحيل يدفعه بيده دفعاً رقيقاً ليوقظه لأنه جائع؛ وألقيت إلى الصبي قرشاً فما وثق منه في كفة حتى اندفع يوقظ أباه في شدة وسرعة ليزف إليه البشرى. . .
ومشيت ثقيل القلب وئيد الخطى فما هي إلا خطوات حتى وقفت حيال منظركم تمنيت لو رآه كل رجال الفن فهاهو ذا ضرير قد اضطجع حتى أوشك أن يتمدد على سلم دكان مغلق وأسند ظهره إلى دركة ورفع وجهه صوب السماء فانعكس عليه نور مصباح قريب، ومد يده يستجدي في صمت لا ينطق ولا يتحرك أية حركة فكان منه في هذا الوضع تمثال بالغر الروعة لو وقع عليه فنان لما ساوى ذلك عنده وقوعه على كنز فما يصور البؤس شيء أحسن مما تصوره هاتان العينان الغائرتان وهذا الوجه الضارع وهذه اليد المعروقة المرتجفة، ونور المصباح القوي في وجهه يجعل من ذلك كله صورة ترى ولا ينهص لوصفها كلام؛ وجاء غلام فانقض على التمثال كالفرخ الجائع وأخرج في مثل خطرة الطرف ما في جيبه من مليمات وقروش وولي لا يلوي على شيء وانتفض، التمثال انتفاضة حسبت أن قد تحرك لها رخام السلم، وأقبل بعض من شهدوا هذا السطو فألقوا إليه من قروشهم ما أذهب روعه. .
ومشيت موجع القلب ثقيل الخطى فلم أكد أنعطف عند زاوية أخرى حتى إذا بي تلقاء رجل يزحف على إسته ويديه وقد ثنى إحدى رجليه أما الرجل الأخرى فلم يبقى منها إلا جزء من الفخذ قد كشف عنه لأنه موضع (الإعلان) وبرهان العجز عن العمل، ومر الناس به لا يتألم أحد فيما أرى لأنهم ألفوا أن يردوا مثل هذا كما ألفت أنا ولكني تألمت وتألمت وأرجو منك أيها القارئ أن تصدقني أنني تألمت كما أتشفع عندك بكل عزيز لديك أن تتألم مثلي. . .
فإن لم يكن آلمك هذا فدونك شيء آخر وقعت عليه عند زاوية أخرى، دونك شيء ولا أقول رجلاً، فليس ثمة إلا الجذع فقط لا يدان ولا رجلان، ومع ذلك فهذا الشيء يزحف ويقطع الطوار كله زاحفاً. . . يا إله العالمين إني استغيثك! إن لم تكن الملاجئ لمثل هذا فلمن تكون؟ وفي أي شرع يكون على هذا أن يعمل - أستغفر الله - بل أن يزحف ليكسب قوته وحوله السيارات الفخمة تنهب الأرض باللاعبين بالذهب!
ومشيت باكي القلب بطيء الخطى حتى كنت أمام (جروبي) فإذا بنتان من بنات الشارع تتشاجران في عنف على أعين الناس، وقد ألقتا ما معهما من ورق اليانصيب، وأنشبت كل منهما أظفارها في عنق الأخرى، وذلك لأن إحداهما قطعت الطريق على صاحبتها فباعت دونها ورقة!
ونظرت فإذا معركة أخرى أشد عنفاً تدور غير بعيد بين فتاتين ناهدتين من خدم المنازل، وقد شدت كل منهما شعر الأخرى وأهوت عليها بحذائها، وذلك لأن إحداهما، كما علمت، غلبت الأخرى على عيشها فأخرجتها من عملها واستمتعت بالأجرة دونها؛ وتقاطر السابلة يشهدون هذه المعركة الكبر، وقال أجنبي من المارة لصاحبه وهو يضحك: أنظر. . . فهذا نذير الحرب العالمية الثالثة. . .
والتفت على حرب أهلية ثالثة بين حوذي أوقف جواديه الهزيلين، ووثب من عربته التي شهدت فيها أحسب القاهرة في عهد إسماعيل، وراح يصخب في لهجة الحوذية ونغمتهم، ويطلب إلى الراكب بقية حقه، وإلا فمن أين يأكل، ومن أين تأكل الخيل، وهو يستغيث الله والمسلمين، ويخوف هذا الذي لا يريد أن يدفع عاقبة الظالمين، وقد دارت حولهما حلقة من المتفرجين، والحوذي يتدفق بلاغة، إذ يصف الغلاء وما صنع بالناس، وكأن في فمه (ميكروفون). .
ومشيت ضائق الصدر، حيران الخطى، ملء نفسي الألم مما أشهد من مخازي مجتمعنا العظيم، فإذا أنا تلقاء عتل يستوقفني قل أن رأيت مثله ضخامة وطولاً، له عنق هو وحده أضخم من ذلك الجذع الذي كان يزحف على الأرض، أما بدنه فيضل البصر في ضواحيه، ومد إلي ذلك المارد يداً تتسع قبضتها لتتلقى حملاً أو غلاماً، وقال فيغير تلعثم أو تردد: (يابيه. . . أنا جوعان. . . عاوز حق لقمة)! وحرت والله بين أن أضحك فأسري عن نفسي بعض ما بها، أو أن أصرخ في وجهه علي أنفس عني بعض همي وغلبتني الثانية فقلت: اغرب عني، فلن يشبعك كل ما في جيبي، إنك تبني عمارة وحدك، فهل يصح أن تطلب لقمة!
وبعد، فيا حكومة. . . يا وزارة الشؤون الاجتماعية. . . يا جماعات البر والإحسان. . . يا دعاة الإصلاح. . . يا من تغارون على كرامة وطنكم وسمعة عاصمتكم. . . الغوث. . . الغوث. . . أن جميع ما رأيته في زوايا الطريق في ليلة واحدة، وعلى أبعاد متقاربة في أهم بقاع القاهرة العظيمة مما بينته وكثيراً مثله مما لم أبين يصرخ صراخاً عالياً لمن كان له سمع أن هذا عيب. . . اجعلوها من باب الترف، فأزيلوا من الطرقات هذا الأذى، فما أطمع أن تجعلوها من الإنسانية!
الخفيف