مجلة الرسالة/العدد 751/من ذكرياتي في بلاد النوبة
→ الفن القصصي في القرآن | مجلة الرسالة - العدد 751 من ذكرياتي في بلاد النوبة [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 24 - 11 - 1947 |
سد أسوان
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
لا يعنيني الحديث عن سد أسوان، إلا بقدر اتصاله من قريب، ببلاد النوبة. وإذا كان هذا السد العظيم، قد لعب دوراً هاماً في حياة القطر الزراعية، فزاد القدر المنزرع إلى أضعاف أضعافه، وإنعاش الحياة التجارية، والاقتصادية، وزيادة الثروات المصرية إلى حد التضخم في كثير من النواحي، حتى أصبح هذا السد بحق مفخرة من مفاخر بلادنا المصرية، له شهرة عالمية طائرة، وصيت دولي ذائع - إذا كان قد لعب دوراً آخر في حياة بلاد النوبة، إحدى مناطق قطرنا العزيز، ولكنه مع الأسف دور عكسي على طول الخط، وامتداد الطريق.!!
وبيان ذلك، أن منطقة النوبة لم تكن تعرف قبل سنة ثمان وتسعين وثمانمائة وألف شيئاً عن هذا السد، وإن كانت بعض الأفكار قد اتجهت إلى الانتفاع بهذا الشلال الطبيعي قرب أسوان، وبخاصة وأن مياه الفيضان تتدفق في موعدها من صيف كل عام، حاملة الغرين، والطمي الذي يكسب الأرض خصباً، والزرع نماء ونضرة، ويفيض بالخير والبركات في أنحاء البلاد المصرية. . .
ونما هذا الشعور، وكبر ذلك الإحساس، فرئى أن ضياع مياه النيل في البحر البيض المتوسط عبث لا طائل تحته، ولا غاية ترجى منه، وأن في الإمكان لإفادة من هذه المياه طوال أيام السنة وبخاصة وقد أصبحت البلاد تزرع القطن من أيام محمد علي باشا، وغيره من المحصولات التي تتطلب رياً دائماً. . .
وولدت الفكرة، فكرة إقامة خزان قرب أسوان، على الشلال الأول، وبدأ العاملون يبحثونها سنة أربع وتسعين وثمانمائة وألف، وكللت بالنجاح، وتم بناء السد سنة ثنتين وتسعمائة وألف، بطول قدره خمسون وتسعمائة وألف متر، وبه ثمانون ومائة فتحة.
وقد لحق الأهليين بعض الأضرار بسبب إقامة السد لأن منطقة النوبة، ارتفعت في المياه فأتلفت الأراضي المنخفضة، وأغرقت المنازل التي على الشاطئ مباشرة، فعوضتهم الحكومة عن هذا كله، وبلغت تكاليف إقامة السد، بما في ذلك التعويضات التي أع الأهليين مليونين وأربعمائة وأربعين ألف جنيه كما أثبت ذلك أحمد خيري بك في مقال له بمجلة الصناعة. . .
وبعد مضي زمن قصير، تآكلت بعض الأجزاء خلف الخزان، بفعل المياه، فأنشئ له فرش خلفي سنة خمس وتسعمائة وألف ثم سنة ست وتسعمائة وألف كذلك، وبلغت تكاليف ذلك مائتين وثلاثة وثمانين ألف جنيه. .!!
وبهذا أصبح السد قوي الدعائم، وطيد الأركان، وظل يؤدي رسالته في البلاد نماء، وخصباً، ويبعث فيها الحياة والنضرة والنعيم، ويفيض عليها الخير والبركة، إذ استفادت البلاد من كمية البلاد المخزونة عظيم الفائدة، وانتفعت بها جليل النفع.
وبعد بضعة أعوام من إنشاء السد، رئى تعليته خمسة أمتار، لأن تصرف النيل الطبيعي مدة الصيف، مضافاً إليه كمية المياه المخزونة، لا تكفي حاجة القطر الزراعية، وبحث الموضوع من جميع نواحيه، إذ خيف أن تضر هذه التعلية ببناء الخزان نفسه، وفي ذلك ضرر ماحق وخطر عظيم. . . وانتهى البحث إلى إمكان ذلك. دون حدوث أي ضرر أو خطر، وتمت التعلية فعلاً، وسميت بالتعلية الأولى. . .
ولا جرم أن هذه التعلية أضرت إلى حد كبير ببلاد النوبة. إذ ارتفع منسوب مياه الخزان فأغرق كثيراً من المنازل، وجرف الأراضي المنخفضة نسبياً وأتلف ما بها من زروع، فقامت الحكومة للمرة الثانية بتعويض الأهليين عن هذا كله. . . وبلغت تكاليف التعلية، بما في ذلك التعويضات، مليون وخمسمائة ألف جنيه. . .
وكثر عدد السكان، وبلغ أضعافاً مضاعفة بالنسبة لما كان عليه قبل إنشاء السد، فالرخاء يمن وبركة، ودعامة من دعائم العمران، وزيادة النسل. . . وقفزت الأرقام من سبعة ملايين، وتسعة ملايين. . . إلى خمسة عشر مليوناً بعد إقامة السد بحوالي سبع وعشرين سنة!!
ولهذا اشتدت حالة البلاد إلى هذه الكميات المائية التي تذهب سدى، وتضيع هباء، فنبتت فكرة التعلية الثانية. . . بيد أن هذه الفكرة لم تلق تحبيذاً على طول الخط. بل عورضت معارضة شديدة. ونقدت نقداً لاذعاً، مما دعا الحكومة للاهتمام بأقوال الناقدين، والمحبذين على السواء. والتروي في الأمر والاستعداد له فليس الموضوع من السهولة بحيث يمر مر الكرام. . . فأنشأت مكتباً خاصاً بذلك سنة سبع وعشرين وتسعمائة وألف كان أهم ما قام به، إعداد المشروع، وبحثه من جميع نواحيه، والنظر في موضوع التعويضات التي ستعطي للنوبيين بعين الرعاية والعطف لما سيلحقهم من أضرار في منازلهم ونخيلهم وأراضيهم الزراعية وجميع مرافقها، بسبب هذه التعلية.
وأخيراً عرض المشروع على لجنة دولية مكونة من ثلاثة مهندسين عالميين: أمريكي، وإنجليزي، وسويسري، وقد وافقت هذه اللجنة على المشروع، وأقرت تعلية السد تسعة أمتار، دون إحداث ضرر ولا خلل به!.
ووقع هذا الخبر بين أبناء البلاد موقعاً حسناً جميلاًن وأنعش كثيراً من الآمال البراقة، والأماني الحلوة اللامعة، فعن قريب ستحيا كثير من الأراضي البور، أسباب هذه المياه التي سيحجزها السد ويمنع تسريحها وضياعها، وعن قريب تبيع الحكومة كثيراً من الأراضي التي تحتاج إلى إصلاح، وبعد أن تقيم لها المشروعات اللازمة، من ري وصرف وغير ذلك.
بيد أن هذا الخبر نفسه، وقع مع النوبيين موقعاً قاسياً. . . وقوع الصاعقة، التي تهدم قصور الأماني، وتقوض صروح الآمال في قسوة وعنف وجبروت. . . فهم يعلمون معنى التعلية، ويفهمونه على وجهه الصحيح. ويدركون تمام الإدراك هذه الأمتار التسعة، التي سترفع منسوب المياه أمام الخزان، وتجعل من بلادهم للخزن، يخرب ديارهم، ويجلوهم عن مساكنهم ويلقي بهم في مهب الريح، تعصف بهم عواصف الأقدار، وتشتت شملهم دوافع الفرقة. وأهوال الفقر والحاجة والاضطراب. . .!
وشرعت الحكومة في تنفيذ التعلية، وابتدأ العمل في نوفمبر سنة تسع وعشرين وتسعمائة وألف، على قدم وساق، وعناية بالغة، حتى انتهى بصفة عامة في ديسمبر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف، بالغة تكاليف المباني، مليونين وستمائة وسبع وعشرين ألف جنيه. . .!
بيد أن هذه التعلية أضرت بمناطق النوبة بالغ الضرر، بقدر ما أفادت باقي البلاد المصرية، عظيم الفائدة. ونفعتها جليل النفع إذا احتاجت مياه الخزن منازل الأهليين كلها، وجرفت بيوتهم، وأتلفت مزارعهم، فعوضتهم الحكومة عن هذا كله، حسب تقدير قامت به، وقد بلغت التعويضات بسبب التعلية الثانية الأخيرة مليون وستمائة وخمسين ألف جنيه.
ورأت الحكومةأنها مضطرة لإقامة مشاريع اقتضاها ارتفاع المياه في أيام الحزن، وإنشاء مرافق جديدة لهذه البلاد، ودرست كل مصلحة من المصالح واجبها في هذا الصدد، وقامت به على وجه، وإن لم يكن من التمام والكمال، فقد أرضى إلى حد بعيد أكثر المخلصين في هذه البلاد، الذين يعلمون حقيقة موقف الحكومة، وما تكبدته من نفقات طائلة في سبيل إنشاء السد، إذ بلغت التكاليف لإنشاء محطات الري ومبان للحكومة مائتين وثلاثة وسبعين ألف جنيه، فإذا ضممت هذا المبلغ إلى المبالغ السابقة يوم أنشئ السد كان المجموع ثمانية ملايين وسبعمائة وثلاثة وسبعين جنيهاً، وهو مبلغ ضخم دون ريب. . .!!
وأهم المشروعات التي قامت بها مصلحة الري، إقامة جسور واقية في مناطق أبي سمبل لوقاية تسعمائة وخمسة أفدنة تقريباً، وأدندان لوقاية مائتي فدان تقريباً، وفي فرسي، بالسودان لوقاية منطقة حوضية، مع عمل بربخ ري وصرف. . . وإقامة مضخة لري سبعمائة فدان بمنطقة العلاقى لزرعها زراعة شتوية. . . ومضخة لكل من توماس، وعنيبة بحري وعنيبة قبلي، وتوشكي شرق وتوشكي غرب، ومضخة احتياطية لهذه المنطقة، وذلك لزراعة خمسمائة فدان بكل منطقة لزراعتها زراعة نيلية فقط، وهذه المضخات مقامة على عوامات ترسو على شاطئ النيل أمام كل منطقة. . . وإقامة مضختين بالدكة على عوامة لري خمسمائة فدان رياً مستديماً. وإقامة مضخات على ثلاث عوامات ببلانة لري ألف وخمسمائة فدان رياً مستديماً، وإقامة مضختين ثابتتين ببلانة كذلك لري سبعمائة فدان رياً مستديماً. . .
وقامت مصلحة المباني بإنشاء مكاتب ومساكن بعنيبة بدلاً من مبني الحكومة التي كانت بالدر مقراً للمركز ومصالح الحكومة المختلفة، كالمدرسة الابتدائية ودور الحكومة الشرعية والتلغراف والتليفون والبريد. . . الخ وأنشأت عدة مدارس أولية كتاتيب، ومساجد، ونقط بوليس. . . ونقلت خطوط التلغراف إلى مكانها الحالي. . . وأقامت دار الحجر الصحي للمواشي بالشلال (كورنتينا) بدلا من الذي غمرته مياه التخزين. . .
وهكذا تمت لهذه البلاد مرافقها الأساسية، التي بعثت الحركة والنشاط في جميع أنحائها، وجعلت النوبيين يهدؤون نفساً، ويرتاحون بالاً، ويعتقدون أن الحكومة مهتمة بأمرهم، معنية بشأنهم، عاملة على تحسي حالهم. . .
هذه هي الأدوار التي مر بها سد أسوان، والأثر الذي أحدثه في هذه البلاد، إذ قلب نظام الحياة فيها رأساً على عقب. وبدلها بحياتها الأولى، حياة الهدوء والسكون، والاطمئنان والاستقرار، حياة أخرى كلها الكد والجد والسعي والعناء. . . وهذه الأدوار تعطيك فكرة واضحة عن قيمة هذا السد العظيم، الذي أحال تراب القطر المصري إلى تبر وذهب براق، ورفع مستوى المعيشة في البلاد، وأنعش حياة المصريين أيما إنعاش، وسيكون في المستقبل القريب منبع رفاهيتها ورقيها، عندما يتم مشروع توليد الكهربائية، وفق الله القائمين بالأمر إلى ما فيه الخير والصلاح.
عبد الحفيظ أبو السعود