مجلة الرسالة/العدد 751/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 751 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 24 - 11 - 1947 |
قصة تاريخية:
القائد المفقود
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
(إلى الذين يحسبون أن المفاوضات السياسية والمداولات الدبلوماسية ستنقذ فلسطين من محنتها. . .)
كانت آخر خفقة الذي ظل سبعة قرون يضئ أرجاء الدنيا. . . فقد استطاع الملك فرننادو في غفلة من ملوك العرب بالأندلس أن يتخطف ملكهم الواسع قطعة قطعة، وأن يطوح بهم من عرش الملك واحداً إثر واحد، وكان في الجولة الأخيرة قد استولى على وادي آش والمرية وبازة وغيرها من الأقاليم، ثم أرسل بجيوشه الجرارة للأستيلاء على غرناطة وكانت هي كل ما بقى للعرب من ذلك المجد الباذخ الذي بناه آباؤهم بالشجاعة والسيف، فأضاعوه هم بالجبن والخوف. .
واجتاحت تلك الجيوش الجرارة في يوم وليلة أراضي غرناطة واستولت على مشارفها، ثم وقفت بأبواب المدينة العظيمة فطوقتها من كل جانب وضربت عليها حصاراً خانقاً حتى تسلم أو تموت جوعاًن وكان يتولى الدفاع عن المدينة القائد العربي العظيم موسى ابن أبي الخازن، فلم يهن ولم يجزع أمام تلك القوة الساحقة، بل وقف يحشد كل ما يملك من شجاعة وحكمة وحيلة لذلك الموقف الرهيب، فوزع قوات الدفاع على أسوار المدينة، وجند الشبان الفدائيين للتسلل بين ثغرات الحصار وجلب المؤن للسكان، ووضع نظاماً لتوزيع الطعام حتى يستطيع السكان أن يثبتوا أطول ما يمكن من الزمن. وكانت لا تغتر لهذا القائد المجاهد عزيمة، فكان لا يرى في الليل وفي النهار إلا واقفاً يشد من عزائم جيشه وبني قومه. أو مشتبكاً مع الأعداء في مناشات عنيفة تقعقع فيها السيوف وتجري الدماء. .
طال الأمر بهذه الحال الرهيبة، وظلت غرناطة ترزح تحت الحصار الخانق سبعة أشهر حتى نفد منها الطعام، وأخذ الجوع يتهدد الأهالي بالفناء الساحق والدمار الماحق، ورأى أبو عبد الله الملك أنه لا أمل في النصر، وأنه ليس في طاقة السكان أن يتحملوا أكثر مم احتملوا، فجمع الوزراء والقواد وأهل الشورى وأخذوا يدبرون للخروج من هذه الشدة، فأجمعوا على أن الأمر أصبح لا يطاق، وأن التمادي في الدفاع لا يجدي بعد أن أخذ السكان يتساقطون إعياء وجوعاً، وأن الحكمة تقضي بالتماس طريق آخر للخروج من هذا الكرب، ثم اتفقوا على أن خير الطرق في ذلك هي أن يفاوضوا الملك فرننادو على وضع يحتمل وشروط للصلح يمكن أداؤها. .
فانتفض القائد موسى في مكانه ونهض قائلاً: ما هذا الذي أنتم فيه أيها القوم؟! وما هذا الرأي الذي ترون!! أجل! أن الجوع يعضنا بنابه الزرق، وانه يودي بفلذات أكبادنا، ولكن في شرعة الكرامة لا يزال لدينا الكثير! إننا لم نأكل القطط والكلاب والعشب والحطب بعد، وان الجوع في أسوأ حال أشرف وأكرم من الاستعباد على أي حال، أن الحر يحتمل أن يرى أطفاله وعشيرته يموتون جوعاً، وأن يواريهم التراب بيده ثم لا يذرف عليهم دمعة واحدة، ولكنه لا يحتمل أبداً أن يرى أبناءه وعشيرته أرقاء للغاصبين، وأن يرى زوجاته وبناته نهباً للفاتحين، وأن يرى نفسه غريباً طريداً في مرتع طفولته وصباه وموطن شبابه وشيخوخته، فاللهم لا تدمني حتى أعاني تلك الحال.
فعاد القوم يتشاورون، ولكنهم عادوا فأجمعوا على ما كانوا فيه، وقال قائلهم: إننا إذا دخلنا في مفاوضة مع الملك فرننادو وجرينا معه على طريقة التفاهم والمودة فأنه لا يشق علينا، لأننا أصبحنا بإزئه لا نملك حولا ولا قوة، وإنما حاجته إلى الملك لا إلى ظلم الناس والقسوة عليهم. فلنرسل إليه رسولاً يفاوضه على شروط التسليم ولننظر ما يأتي به الرسول. .
قال موسى: كيف تقولون إننا لا نملك حولا ولا قوة؟! كلا: إننا نملك الموت في سبيل الشرف، وما هذه المفاوضة التي تريدونها إلا إظهار للضعف ودعوة إلى التخاذل وإعلان للتسليم والاستسلام وثقوا إنكم لن تسمعوا في هذه المفاوضة من الملك فرننادو إلا كلمة القوي للضعيف. .
ضاعت كلمات القائد موسى صرخة في واد ونفخة في رماد، وما كان يستطيع أن يحرك النفوس الهامدة وأن ينفخ الحياة في الأموات، فتركه الموت لحماسته، وانصرفوا إلى ما اتفقوا عليه من الرأي، فأرسلوا بالوزير أبي القاسم عبد الملك إلى مفاوضة الملك فرننادو في الصلح والتفاهم معه على الشروط التي يريدها، فما علم الملك بمقدمه لهذه الغابة حتى رحب به أجمل ترحيب وأحاطه بالحفاوة والإكرام، ووكل إلى وزيره أمر المفاوضة مع الوزير العربي وكان أن أملى القوي شروطه على الضعيف. ثم عاد أبو القاسم يحمل إلى قومه معاهدة كثيرة البنود طويلة الشروح والتفاصيل، تنص في أول بنودها على تسليم غرناطة وإطلاق الأسرى الأسبان المتعلقين فيها، وأن يقسم الملك أبو عبد الله ورجال دولته يمين الطاعة والإخلاص للملك فرننادو، وأن يقطع له بعض الأراضي ليقضي فيها بقية حياته، وأن يأمن المسلمون على أموالهم وعباداتهم وعاداتهم، وألا يؤخذ منهم من الأموال والضرائب إلا ما كانوا يدفعونه لملوكهم، وإمهال الملك أبي عبد الله للتفكير في قبول هذه الشروط ستين يوماً تبتدئ من تأريخ تحرير هذه المعاهدة في الخامس من نوفمبر سنة 1491م الموافق الثاني والعشرين من المحرم سنة 897هـ.
رجع الوزير أبو القاسم يحمل هذه المعاهدة إلى قومه، فدعا الملك أبو عبد الله الوزراء والرؤساء والفقهاء وأهل الرأي ليشاورهم فيها، فلما وقفوا على مضمونها غامت الدنيا في وجوههم وأجهشوا بالبكاء، ورأوا أنه لا حيلة لهم إلا التسليم والإذعان، إلا القائد موسى أبن أبي الخازن فأنه صاح فيهم قائلاً: (وآسفاه، أنتم تبكون أيها الرجال، إذاً فالويل للنساء والأطفال، لقد حذرتكم فما سمعتم. وأنذرتكم فما أصغتم، وأنكم لتسمعون من الملك فرننادو كلمة القوي للضعيف، وهي كلمة لا يتبدل مدلولها في إرادة الأقوياء، ولا يتغير أثرها في إذعان الضعفاء، وهاأنتم أولاء أيها السادة ترون أنفسكم وقد أصبحتم بهذا الإذعان أرقاء إذلال، ففي الغد تبصرون الغاصبين يدخلون بيوتكم، ويستبيحون حرماتكم، ويعطلون شعائركم، ويتخطفون أقواتكم، ويتحكمون في رقابكم فلما ترهبون الموت والموت أهون مما سيصيبكم، وأشرف مما سيحل بكم، أن من الشرف أن نواجه الموت اختياراً قبل أن نرغم عليه إرغاماً، وأن من الكرامة أن ندافع العدو حتى آخر قطرة من دمائنا وحتى نبيد عن أخرنا. . .
إذا ما أفعم اليأس النفوس صمت الآذان وماتت العزائم وهكذا ضاع كلام القائد موسى هباء فلم يحرك من القوم ساكناً، فأذعنوا لما فرضه عليهم الملك فرننادو من الشروط، ووافقهم الملك أبو عبد الله على ذلك إيثاراً للسلامة في ملك طرد منه بعد قليل شر طردة. . أما القائد موسى أبن أبي الخازن فأنه أبى أن يستسلم وأن يذعن. . . فقصد من فوره إلى داره وتقلد سلاحه ولبس دروعه امتطى جواده ثم خرج ليدافع أولئك الغزاة الذين تقدموا ليكتبوا آخر سطر في تأريخ العرب بالأندلس. .
ولم يعرف أحد ماذا كان مصيره ولا كيف كانت نهايته. . وما يزال التاريخ يبحث إلى اليوم عن ذلك القائد المفقود. .
محمد فهمي عبد اللطيف