مجلة الرسالة/العدد 745/القَصَصُ
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 745 القَصَصُ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 13 - 10 - 1947 |
قصة تاريخية:
الجزاء!!
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
قال موسى بن نصير (إنها يا صاحبي محنة أحاطت بي من كل جانب، ولقد بلغ عنت الخليفة بها فوق طاقتي، وفوق ما يحتمل الرجل الحر الكريم. عزلني من كل أعالي فأذعنت، وجردني من كل مالي فخضعت، واتهمني بالغدر والخيانة في مال المسلمين فصبرت، وأهانني. . . أجل! أهانني فاحتملت الإهانة بالتوجه إلى الله تعالى أن يثيبني عليها ثواب الصابرين، وإن رجائي في الله العظيم، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد فرض علىِّ الخليفة غرماً باهظاً من المال لا أملك منه درهماً واحداً، ثم كانت الداهية الدهياء، فإنه يطلبني اليوم ليجز رأسي بالسيف وقد جئت إليك وأنا بين شقي الرحى. . .)
(واأسفاه أيها الصديق، أيكون هذا جزائي من خليفة المسلمين ومنزلتي في القوم بعد أن بذلت ما بذلت من دمي وجهدي، وخضت المعارك وروحي على يدي حتى فتحت تلك الفتوح العظيمة وضممت الأقطار الشاسعة إلى دولة الخلافة؟! لقد طلعت بدعوة الإسلام على الملوك من مغرب الشمس وكانوا لا يعرفون مكانها إلا في الشرق، ولق وقفت بلواء الخلافة في صميم أوربا وهجمت على ملوكها في عقد دارهم ولولا أن استرجعني الخليفة الوليد بن عبد الملك لبلغت في ذلك النهاية، وبسيفي جلبت إلى ساحة الخلافة كل ما جمع الملوك على طول السنين من النفائس والثروات، وما حشدوا من العديد والمعدات، ثم أرى هذا كله يطوى في مطاوي الجحود والنكران، وتذهب به دسيسة رخيصة من كاشح حقود، أو عدو كنود؟!).
(أصغ لي أيها الصديق، فإنه ليس شأني ولكنه خطر يتهدد سمعة الخلافة ويقف في طريق الفتح الإسلامي، فلن يقدم قائد بعد اليوم كما أقدمت في فتح الفتوح ما دام الجزاء كما ترى، ولو أني أعرف في جهادي وفي تصرفاتي شبهة أستحق عليها اللوم أو نقصاً يوجب المؤاخذة لأسلمت عنقي لسيف الجلاد راضياً مطمئناً قبل أن أسمع قضاء الخليفة علىّ بذلك، فأنا كما تعرف لست بالرجل الجبان، ونحن رجال السيف، لا نقدر طول الحياة بطول أيامها ولا نحرص عليها لما فيها من المفاتن والزينة والراحة والرفاهية، وإنما هي حياتنا تقدر بالأعمال العظيمة، ونمضي فيها على الخروج من شدة لمواجهة شدة أقسى وأصعب، وإني على ثقة من طهارة صحيفتي وبراءة ذمتي، وسأقف بين يدي الله وكتابي بيميني في صفوف المجاهدين الأبرار، ولكنني أطمع أن لا أخرج حتى أرى صحيفتي بيضاء أمام الناس وأمام التاريخ. . . .).
(رحماك يا صاحبي، لقد شمت بي العدو، وفريح فيَّ العاذل، وطمع فيَّ من لا يدفع عن نفسه، وتوجع لي الصديق، وفجع بفاجعتي الأهل والولد، وإني لأعرف منزلتك من سليمان بن عبد الملك، وأقدر فيك الشهامة والمروءة، وأعتز بحرمتي عندك فبك أستجير من بطشه، وألجأ إليك في تخليص عنقي وتطهير سمعتي، ورفع ذلك الغرم الثقيل الذي سيضطرني إلى التكفف وسؤال العرب في تحمله عني، وهل تحسبني أحتمل الحياة وأنا أرى كرامتي تبتذل بالسؤال والتكفف؟).
قال يزيد بن المهلب: (هون عليك أيها الصديق، فإنها سحابة صيف عن قريب تقشع، وما أنت في محنتك بأول مثل بين الناس ولا بآخر مثل سيكون بين الناس، فهكذا الأمر في صحبة الملوك، وقديماً قيل: إن صاحب السلطان كراكب البحر إن نجا من الغرق لم ينج من الخوف، وإني لأعرف في سليمان بن عبد الملك العناد والإصرار على الرأى، ولكني باذل جهدي عنده وثق أنها ذمة العرب لانخرمها أبداً، وعهد الآباء لا نخونه ولو طاح العنق، ولقد نزلت بساحتي، فإني شريك لك فيما تعاني من محنة، وإني لأضع نفسي وولدي ومالي بين يدي الخليفة افتداء لك، وأنت آمن في جواري إن شاء الله).
قال موسى: (إنها يد أحفظها لك؛ ومروءة أقدرها فيك وإني على يقين من نجح مسعاك، لما أعرفه من منزلتك عند الخليفة وقربك من قلبه واحترام رأيك عنده، والخير في التعجيل).
قال يزيد: (ما كنت أنتظر حتى تتحدث إلىَّ في شأنك فقد كنت أتحدث اليوم إلى الخليفة في هذا الشأن، وإني لذاهب لساعتي لأعاود معه الحديث، وسأخبره أنك استجرت بي ونزلت بساحتي وأني قد أجرتك وتحملت عنك، ولكن ماذا أقول لك؟ لقد سقطت في تبصر الأمر سقطة هي التي جبلت عليك كل هذا فقد كنت تعرف أن سليمان بن عبد الملك كان ولي العهد لأخيه الوليد بن عبد الملك، وأن الوليد كان قد بلغ الغاية في حياته، يتوقع الناس له الخروج من الدنيا بين كل صباح ومساء، ولكنك وقفت على الولاء له، والارتفاع بمكانته، وأمهلك سليمان على أن تكون له يوم يجلس لشئون المسلمين وأن تدخر الفخر بفتوحاتك الكبيرة العهدة فأبيت، فاحفظته بهذا عليك، ولم تقصر في العناد معه مما مكن للحقد في قلبه، على أنك من ناحية أخرى قد أغضبت مملوكك طارقاً بن زياد يوم صفعته بالصوت، فكان بالوقيعة بك عند سليمان).
قال موسى: (مهلا يا صاحبى، فليس هذا وقت تعديد ولا تأنيب، لقد كنت أعلم الأمر فيما أوضحت، وكنت أعرف أن شمس الغد ستشرق على سليمان في أبهة الخلافة والأخذ بالسلطان على المسلمين، ولكنى أعرف أيضاً أن من الواجب علينا أن نقدر لكل إنسان يومه، وأن نحترم لكل سلطان عهده، وليس من الحق في الإسلام ولا من الخير للمسلمين وجامعتهم أن نضع المصالح العامة موضع الزلفى للأهواء والأغراض، وليس من اللياقة أن نجلس مع الوريث نرتب شأن التركة وصاحب المال حيُّ يتنفس!! كان ذلك رأيي حتى لا أنهم بالضعف في خلقي ورجولتي، وهبني أخطأت، فما أنا بمعصوم).
قال يزيد: (إنني ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تأنيباً وإنما قصدت أن أكشف لك عن السر وأن أرى ما عندك).
فتململ موسى في مكانه، وحرض ريقه على غصص، ثم قال: ترى ما عندي؟ وماذا تحسب أن يكون عندي وأنا على هذه الحال؟ إن الإنسان ليرى الرأي القويم السديد في شأن غيره أما في شأنه هو فأنه يرتبك ويتبلد حتى لا يدري مصدر الأمر من مورده، فما ظنك بي وأنا رجل اعتدت طول حياتي أن أفكر في شئون الحرب والفتح، وفي شئون من هم تحت طاعتي من الجند وحولي من الأعوان، ولم أكن أجد الفرصة التي أفكر فيها لنفسي، فلا تسألني الرأي فأنى لا أملك الآن معياره، وقديماً قالوا: إن من الحزم في الرأي أن يكون ميزاناً لا يزن كاملا لناقص ولا ناقصاً لكامل. . .)
قال يزيد: (إنني لم أزل أسمع أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب، وأبصرهم بطبائع أهل السلطان، وأقدرهم على مداورة الدنيا والتصريف لأحداث الحياة ونوازل الدهر، وإني والله لأعجب منك كيف وقعت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس، ومددت بينك وبين هؤلاء القوم الأقطار الشاسعة والبحار الزاخرة، وتيقنت بعد المرام عليهم واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها وبسطت سلطانك عليها، وجعلت الإدارة فيها لولدك وهم طوع يمينك، ثم ملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرك وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع لكنت اليوم على رأس دولة يتعاظمون هيبتها وخطرها، وما انتهى بك الأمر إلى هذه الحال فتضع عنقك في يد من لا يرحمك! ألا ليتك والله فعلتها يا أخي!).
فصاح موسى من قرارة نفسه: (كلا، كلا، الويل لي لو فعلتها! والويل لي لو فعلتها!! وهل كنت تحسبني يا فتى المهلب أروم خطة لنفسي أو أبني دولة لولدي، ألا بعداً لي من رحمة الله إن هجس هذا الخاطر بقلبي مرة، ألا سحقاً لي لو نزعت إلى هذه الشنعاء وشققت عصا الطاعة على خلافة الإسلام، وشطرت الأمر في الحكم إلى شطرين، يقف كل من صاحبه بالمرصاد، فما هي إلا مراوغات ومصاولات حتى ينقض الأمر من أساسه، ويذهب سلطان الدين، وتدول دولة المسلمين، فالويل لمن يفعلها فيفتح باب الطريق إلى الهلاك والفناء. . . يا ابن المهلب: إنها كلمة الله كنت أسير بها في الآفاق، وأمهد بها لسلطان الإسلام، وأقوى بها رابطة المسلمين، وأمكن بها لنفوذ الخلافة وهيبتها، وما كنت أرجو من وراء ذلك مكانة زائفة ومنزلة زائلة، ولكن كنت أطمع فيما هو أغلى وأعظم، كنت أطمع في ثواب المجاهدين عند الله، وما أحسبه سيحرمني من الجزاء وإن حرمته عند صاحب السلطان).
قال يزيد: (طوبى لك يا ابن نصير، فاطمئن في مكانك وإني لقاصد إلى الخليفة في شأنك، ثم عائد إليك).
ورجع يزيد بعد أن تكلم مع الخليفة في شأن صاحبه، رجع وعلى شفتيه كلام، وبين جوانحه هم ممض، وكان صاحبه في انتظاره على أحر من الجمر، وجلس الصديقان متقابلين، يريد موسى من صاحبه أن يتكلم، ويريد صاحبه ألا يتكلم. . .
ومضت فترة كأنها الدهر، ثم انفرجت شفتا يزيد عن صوت خافت يقول: (لا عليك يا صاحبي فإن الله يتولاك فيما بقى، ويعلم الله أني بذلت ما في طاقتي وأكبر مما في طاقتي، وقدمت نفسي ومالي فداء لك عند سليمان، وإني في ذلك لصادق، وأعلمته أنك نزلت بجواري ولذت بكنفي واستجرت بحماي وهو يعرف ذمة العرب في ذلك، ولكن غضب الملوك أعمى، قد يحتدم عن غير سيب، ويمضي إلى النهاية لا يقف به سبب، ولقد أصر سليمان على موقفه منك، وأصررت على موقفي منه، وما زلت به حتى وهبني دمك وحياتك، ورضى بأن يرفع السيف عن عنقك، ولكنه أبى أن يخفف العذاب عنك وأن يكف الإهانة والتشهير بك حتى تدفع ما فرضه عليك من الغرم كاملا غير منقوص، وترد إليك ما أخذت من مال المسلمين كما يزعم).
فصاح موسى صيحة مغيظة: (أو هكذا صنع، أو هكذا أبى وأصر؟! إنا لله، أفٍ لها من دنيا تافهة وحياة رخيصة ذليلة، بل أفٍ لجبابرة الملوك، ما أغدر وما أخون، بل ما أصغر وما أحقر وهبني يا صاحبي أذنبت، وجئت بالشعناء التي لا تجوز، فأي رجل هذا الذي لا يسعني بحلمه وهو الذي يسع الخلائق بحكمه، ألا ليتني صرت إلى باطن الأرض قبل اليوم، ولعل الله منَّ على بطعنة فارس في حومة الوغى فصرعت مصرع الأبطال، ولكنه قدَّر على كل هذا العناء. . .).
(رحماك يا فتى المهلب، وإني لشاكر لك مسعاك، وحافظ يدك الغامرة، فقد أوفيت لي بحق المرؤة، ونهضت نحوي بعهد العرب وذمتهم، ولكنها لجاجة مني، والمكروب لجوج، والنفس في حومة الأسى لا يربطها تفكير ولا رأى، وماذا تحسبني بمستطيع أن أصنع، وليس في يدي شيء من المال، وليس لي في العرب القبيل الذي يحمل عني ذلك الغرم الفادح؟).
قال يزيد: (إني لأعرف ذلك، وإنه ليكرب نفسي، ولقد مررت في عودتي إليك من عند الخليفة بأحياء العرب وتحدثت إليهم في الأمر، فتحملت عنك (لخم) تسعين ألفاً ذهباً، ووهبتك من مالي ما زاد على النفقة، ودفعت بذلك إلى الخليفة حتى يرفع عنك العذاب والإهانة انتظاراً لوفاء ما بقى من الغرم المفروض، وما أحسب أن رؤساء العرب سيردونك إذا قصدتهم وهم الذين يعرفون لك ما أسديت في الفتح والجهاد، والله يتولاك في كشف هذه الغمرة. . .).
وسمع موسى من صاحبه ما تكلم به، فلم يرد بكلمة، ولم يزد على أن تمتم تمتمة غير مفهومة، ثم صعَّد من أعماق نفسه آهة محترقة.
وأصبح الصباح على موسى بن نصير، وهو يطوف بالقبائل، ويتنقل بين أحياء العرب، ومعه جند الخليفة والموكلون بتعذيبه، وذلت نفس القائد العظيم الذي فتح الأمصار ودوخ الأقطار ووقف بكلمة الإسلام في قلب أوروبا حتى بلغت به الحال أن يسأل الناس ما ينجي به نفسه ويخفف من العذاب في جسمه. . قال غلامه الذي وفي له من دون الناس، ولازمه في حالي نعمته ونقمته: (لقد كنت أطوف مع الأمير موسى بن نصير في أيام محنته على العرب، فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا، ولربما دفع إلينا الدرهم والدرهمين رحمة بنا فكان الأمير يفرح بذلك. . . ولقد كنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ الأسلاب من قصور الإفرنج وخزائن الملوك فنفصل منها ما يكون فيها من الذهب وأشباهه ونرمي به، ولا نأخذ إلا الدر الفاخر. . . ولقد رأيت الناس جميعهم يتحرقون على أن يكونوا في خدمة الأمير أيام دولته، ثم رأيتهم ينفضون عنه جميعهم أيام محنته. . . ولقد نزلنا بوادي القرى نسأل العرب، فعزم رجل كان من قبل في خدمة الأمير على أن يسلمه لحتفه، ففطن لذلك الأمير، فذلَّ له، وقال. يا فلان: أتسلمني في هذه الحال؟ فقال له اللئيم: (لقد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين)، فدمعت عينا الأمير، وجعل يرفعهما إلى السماء ضارعاً خاضعاً وهو يزم شفتيه ويتمتم بكلمات غير مفهومة فما سفرت تلك الليلة القاسية الحالكة إلا عن قبض روحه).
محمد فهمي عبد اللطيف