مجلة الرسالة/العدد 742/تعقيبات
→ رنين الذكرى | مجلة الرسالة - العدد 742 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفنّ في أسبُوع ← |
بتاريخ: 22 - 09 - 1947 |
واجبنا في الجهاد الثقافي:
قام الخبير الاقتصادي المصري في السودان برحلة إلى بعض أرجاء الشطر الثاني من الوادي فكان مما لاحظه أن وجد المكاتب غاصنة بالمؤلفات الإنجليزية وأن هناك عناية مقصودة بتغذية السودانيين بتلك المؤلفات وبجميع الألوان الثقافية التي تصدر من لندن. . على حين وجد المؤلفات العربية التي تصدر في مصر قليلة، بل نادرة، وأنه ليست هناك أية عناية في تقديم ألوان الثقافة العربية المصرية إلى أبناء السودان، مع أنها الثقافة التي تتصل بطبيعتهم وتلائم وضعهم وروحهم.
لم ينشر هذا الكلام في الصحف، وإنما حدثني به (عليم ببواطن
الأمور) كما يقولون في لغة الصحافة، ولست أدري هل كتب الخبير
الاقتصادي المصري بهذا إلى الحكومة المصرية أم لا، وعلى أي حال
فإني أرجو أن نتدبر الأمر، وأن نبذل له حكومة وشعباً وكثيراً من
العناية، لأنها ناحية ترتبط أشد الارتباط بما نجاهد له سياسياً في دعم
وحدة الوادي وجعل أبناء النيل كما خلقهم الله لحمة واحدة، ونحن
نعرف أن الإنجليز يتخذون من الثقافة أداة استعمارية يفككون بها
روابط الشعوب، فهم يحاولون أن يغذوا أبناء الجنوب بثقافتهم حتى
يكونوا بعد جبل واحد غرباء عن قومهم غرباء في أوطانهم.
فمن الواجب على وزارة المعارف في مصر أن تتولى تنظيم هذا الأمر، فتصدر إلى هناك الكتب والمؤلفات وتنشئ المكاتب لتوزيعها وتقديمها، ولا بأس أن تتحمل الوزارة جانباً من ثمن المؤلفات حتى يستطيع أبناء السودان الحصول عليها في يسر وسهولة.
هذا واجب على وزارة المعارف، هو واجب أيضاً على جميع الهيئات الثقافية في مصر، وعلى رجال الفكر والثقافة، بل إني أدعو إلى تأليف لجنة من رجال العلم والفكر تتولى العناية بهذا الأمر وتجمع التبرعات الوطنية لتنظيمه والاتفاق عليه.
وأقول الوطنية لأننا بازاء عمل وطني يجب علينا الجهاد له كما نجاهد في ناحية السياسة.
فهيا قبل فوات الأوان، وقبل أن يفرق الإنجليز بثقافتهم أبناء السودان. .
الاستشراق البريطاني:
قرأت في الأنباء الخارجية هذا الأسبوع نبأ وارداً من لندن يقول إن ثمة (تعديلات ستحدث في معاهد تدريس الآداب الشرقية بإنجلترا حيث تزداد الرغبة ويشتد الإقبال على هذا العلم الذي لم يكن فيما مضى سوى ميل خاص واتجاه شخص عند بعض الأفراد من العلماء المستشرقين فكانوا يتجهون إلى دراسة علوم الشرق وآدابه استجابة لميلهم الشخصي، أما اليوم فإن الحكومة البريطانية ترعى هذه الناحية وتشجعها وتبذل المال والمساعدات في تنظيمها وتوسيع نطاقها كما أن الجامعات والمجامع العلمية تقوم من جانبها بجهد وافر في هذا السبيل.).
(والفكرة في الاستشراق الآن عند الحكومة البريطانية هي الوقوف على روح الشرق وتفهم سياساته وعاداته واتجاهاته حتى يكون المستشرقون على صلة متينة مع الأقطار الشرقية التي يتخصصون في دراسة علومها وآدابها).
(ويتجه الرأي إلى ضم المجامع العلمية وتوحيد جهودها لخلق مركز عام ثابت في لندن للإشراف على دراسة الآداب والعلوم والفنون وسائر ألوان الثقافة في القارة الأسيوية، وقد وضعت فعلا التقادير بما سيكون عليه هذا النظام واعتمد لذلك المال المطلوب. .).
ويقول النبأ (إن هناك لجنة ستعمل على توسيع مدرسة الآثار في فلسطين وفي بغداد، وذلك لتهيئة المعلومات اللازمة لعلماء بريطانيا في العالم العربي، كما أن هناك اقتراحات لإنشاء مدرسة من هذا القبيل في القاهرة تكون على اتصال وثيق بالمجمع العلمي المصري، ومن المحتمل إنشاء مدرستين مماثلتين في إيران وتركيا. .).
تلك هي خلاصة ذلك النبأ الذي أذيع أخيراً من لندن فلم يلتفت أحد إليه، ولم يحرك جارحة عند أبناء الشرق مع أنه على جانب كبير من الخطورة، لأنه يتضمن السياسة الثقافية التي رسمها إنجلترا لنفسها نحو الشرق، ويعلم الله أن إنجلترا لا يعنيها في كثير ولا قليل الاهتمام بأرباب الشرق وعلومه إلا أن تجعل من ذلك وسيلة إلى غاية أخرى، وهي الغاية التي يشير إليها ذلك النبأ والمقصودة بتوجيه الاستشراق إلى (تفهم روح الشرق والوقوف على سياساته واتجاهاته. .)
إنها لاشك خطة مدبرة لمعاونة السياسة البريطانية في اتجاهاتها وإنها لاشك خطة مدبرة للسيطرة على الشرق من الناحية الثقافية وإنها لاشك خطة يعرف كل منا ما وراءها، ولكن ماذا صنعت حكومات الشرق بازاء ذلك، وماذا صنعت جامعات الشرق وجماعاته لوضع سياسة ثقافية تقوم على التعاون والدراسة الشاملة النافعة حتى تقطع على الخطة الإنجليزية (الثعلبية) الطريق فيما تقصد إليه؟!.
لقد تيقظ كل شعب وكل فرد، فتيقظوا أيها القوم واتعظوا بما مضى من عبر، واخرجوا من دائرة (الروتين) الذي كاد يخنقكم.
الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب:
. . وأعود إلى موضوع الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب فأشكر لأستاذي الجليل السيد (السهمي) ما أفادنيه من زاخر علمه، وللصديق الكريم الأستاذ (علي) ما أمدني به من وافر محصوله، فوقفني السيد الجليل على ما تضمنه (الامتناع والمؤانسة) من حديث عن تينك الصناعتين، وأرشدني الصديق إلى ما ورد في (الفرج بعد الشدة) من قصة هي من هذا القبيل.
وقد كنت وقفت على هذا كله وعلى كثير من أشباهه وكنت أعرف أن (للتوحيدي) رسالة اسمها (رسالة العلوم) عرض فيها لهذه المسألة، وفي (مقابساته) شذرات من هذا القبيل، ولكني اكتفيت بالإشارة إلى هذا فيما كتبت به إلى الدكتور زكي مبارك إذ قلت: (إن الفكرة في الموازنة بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب قديمة في الأدب العربي. وتسبق الحريري بأجيال وأزمان. والواقع أن الحريري وجد مادة متوفرة لتلك المناظرة التي عقدها حتى الأوصاف التي خلعها على الكاتب المنشئ والأخرى التي وصف بها الكاتب الحاسب قد أخذها كلها عن الكتاب السابقين، وليس له فيها من فضل إلا المقابلة والمزاوجة وإيثار السجع في التعبير. .) ولم أكن أقصد إلا تصويب ما قضى به الدكتور مبارك للحريري من السبق في ذلك، حتى زعم أن (فكرته في هذه الموازنة لم يسبقه إليها باحث من المسلمين)، ولم أقصد إلى إيراد كل ما وقفت عليه من النصوص في ذلك، لأن المقام لا يتسع له، ولأن الفكرة في تلك الموازنة قد أصبحت في هذا العصر (غير ذات موضوع) كما يقولون في لغة السياسة، وليس لما قيل في هذا من قيمة إلا القيمة التاريخية، إذ لا يخفى أننا اليوم نقدر لكل علم مرتبته ومقامه وقد انتهينا في تقسيم العلوم وتقدير مراتبها إلى وضع جديد مغاير لما كان عليه السلفيون.
وبهذه المناسبة أذكر طريقة تاريخية ذكرها الشيخ الجبرتي في تاريخه، وهي أنه لما تولى على مصر أحمد باشا المعروف بكور قابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم ثم باحثهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا لا نعرف هذه العلوم، فنعجب، ثم قال: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها فلما جئتها وجدتها كما قيل: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فقال له الشيخ الشبراوي: هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف؛ فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم شيئاً رغابة تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، فقال الشيخ: إن غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث وعلم الحساب.
وبعد مناقشة طويلة بين الوالي والشيخ دله على والد الشيخ الجبرتي وكان متحققاً بالعلوم الرياضية فوجد الوالي عنده ضالته فقربه إليه وصار يأخذ عنه مسائل تلك العلوم؛ وكان يقول لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بذلك الأستاذ؛ وكان الشيخ الشبراوي كلما تلاقى مع والد الجبرتي قال له (سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فإنه لولا وجودك كنا جميعاً عنده حمير. فرحم الله الجميع)
إي والله هكذا ختم الجبرتي روايته بهذه العبارة. . .
(الجاحظ)