مجلة الرسالة/العدد 74/صفحة من التاريخ
→ محمد بك المويلحي | مجلة الرسالة - العدد 74 صفحة من التاريخ [[مؤلف:|]] |
صحف مطوية من التاريخ الإسلامي ← |
بتاريخ: 03 - 12 - 1934 |
مأساة وقعة انبابة
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
علة الشرق هاهي: حاكم يسطو ويعبث بالقطيع الذي هو حارسه، ويبطش به بطش الذئب إذا عدا في غيبة الحارس الأمين، فتجفل الشياه ذات اليمين وذات الشمال. ويتقدم من هنا أو من هناك كلب جريء يحاول أن يدفع الغائلة عن شياهه. فإذا هو يرى سيده الحارس هو الذي يبطش ويفتك. فيضع ذيله بين رجليه، ويكتم عواءه في حنجرته، ويجري إلى ناحية يكشر عن أنيابه منفرداً وهو متخاذل مهدود العزيمة. لو كان ذلك العادي ذئباً حقيقياً لما وضع الكلب المسكين ذيله بين رجليه، بل لرفع ذيله وعدا عامداً إلى رقبة ذلك الذئب وأنجى منه القطيع. فأما والذي يفتك بالقطيع هو حارسه، وأما والذي يبطش به هو الرجل الذي اعتاد أن يحمل هراوة ويسطو بها على رأسه يكاد يحطمه، فأمر آخر. وللكلب كل العذر إذا هو التمس العافية في مهرب من مهارب المرعى، أو في مكمن من مكامن الوادي. ولا لوم عليه إذا هو فعل. كان (خوارزم شاه) حاكم خوارزم (أو بلاد ما بين سيحون وجيحون) في أوائل القرن الثالث عشر المسيحي، حاكماً جباراً عاتياً. وكان لا يتردد عن مظلمة، ولا يحجم عن إيقاع. فكم مثلَّ بتجار من بلاده، وسجن وعذب ونهب. وكم مثل بتجار من بلاد جيرانه التتار، وسجن وعذب ونهب. ولم يقف أذاه عند هذا الحد، بل تعدى إلى الدولة التي هو حاكمها، ففت في عضدها وخضد شوكتها، وحطم عودها حتى صارت بلاده شعباً مشدوهاً وحكومة منحلة مضيعة.
ثم كانت الكائنة التي لابد منها في بلاد مثل بلاده، فأغارت جيوش جنكيز خان على أطرافها فعجمتها، فإذا هي رخوة جوفاء، فتقدمت فيها وأوغلت، فلم تجد من الطاغية إلا جباناً، ولم تر منه إلا حرصاً على نفسه وماله وأهله. فما هو إلا أن رأى الجد من أعدائه، وأحس بما كان لابد منه من ضعف ومن عجز، حتى ترك البلاد وهرب إلى مأمن ليلتجئ أليه، وبقى الناس حيارى بعد هربه يحاولون الدفاع وما لهم به من قوة، ويرجون النجاة وأنى لهم ذلك وقد اقتلع الطاغية جذور القوة من الشعب لتلين له قناته، فلانت قناة الشعب له حقيقة، ولم يستطع أن يقاوم طغيانه ما بقى للطغيان، حتى إذا ما أتاه العدو وألفى نفسه عاجزاً، ترك ذلك الشعب المسكين وهو أعزل ذليل عاجز عن حماية نفسه. فكانت الكارثة، وذهب الطاغية وشعبه كلاهما ضحية لعواقب الطغيان.
هذه سُنة الطغاة أبداً، وهذه سنة الكون منذ نشأَ. وما كان للقرن الثامن عشر أن يحيد عن سنة الكون التي نكبت خوارزم في القرن الثالث عشر. فقد كانت مصر في القرن الثامن عشر تحت طاغيتين من طغاة البشر: مراد وإبراهيم، وكانا كسائر الطغاة قصيرة النظر مفلولي العزيمة، لا همة لهما إلا في صغائر الأمور والأنانية. ولسنا بسبيل وصف ما كان عليه حكمهما من الميل والاعوجاج، ولا ما كان عليه خلقهما من الشناعة والفظاعة، فقد يكون لهذا حديث آخر، وإنما نقصد من كلمتنا هذه وصف حال البلاد عندما أزمت الأزمة التي كان لا محيد عنها، ووقعت النكبة التي كان لابد منها من وراء حكمها.
جاء الفرنسيون إلى ثغر الإسكندرية، وأصبح الصباح وإذا أهل ذلك الثغر يرون الجنود يخالطونهم، ويترددون فيما بينهم. وكان الفرنسيون يحملون سلاحاً عجيباً غريباً، لا عهد لأهل الثغر به، فما كان عهدهم بالجنود إلا هؤلاء (الانكشارية) الذين يقيمون في القلاع بين ظهرانيهم يدخنون الشبقات الطوال، ويطولون شواربهم، ويعلون أصواتهم بالسباب، ويمدون أيديهم بالأذى، ولا يحملون من السلاح إلا تلك البنادق العتيقة الرثة التي أكلها الصدأ وعفي عليها القدم.
وتقدم الانكشارية نحو الجنود الفرنج ليدفعوهم عن الإسكندرية، فما هي إلا جولة قصيرة حتى رموا بما في أيديهم من الأسلحة العتيقة، وهرب من استطاع منهم الهرب إلى حيث يجد لنفسه مأمناً.
ورأى أهل الإسكندرية إن هؤلاء الجنود ليسوا سوى شوكة في جوانبهم في السلم، فإذا حل الحرب فهم لا يدفعون أذى ولا يرجى منهم غير الأذى. فوقفوا بعضهم يشجع البعض، وأحدهم يساعد الآخر، يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم الحماية بسواعدهم. فتحصنوا في المنازل وجعلوا في كل ركن متراساً، وفي كل حائط مرصداً. غير أنهم واحسرتاه أرادوا الدفاع ولم يستطيعوه، فإذا بالعدو يحصدهم حصداً، ويدك بيوتهم دكاً، ويجتاح متاريسهم اجتياحاً. فسلموا للعدو ونزلوا على حكمه، وصار الفرنسيون في ساعة أصحاب الإسكندرية.
ثم تقدم الجيش الفرنسي المنصور إلى طريق القاهرة، وسمع طاغيتا الدولة بسيره، فأجمعا أمرهما على أن يسير مراد ليلقاه، فيشتت شمله بصدمة من صدمات فرسانه الشجعان. وخرج من القاهرة منتفخ الأوداج كبراً، ممتلئ النفس إدلالاً وغروراً. وجعل الناس يُسائلون أنفسهم ماذا عساه يفعل، ويأبى هو إلا أن يرد بالازدراء على ذلك التساؤل قائلاً: (سنحطم ذلك الجيش المغير تحت سنابك خيولنا) وسار حتى بلغ شبراخيت أو قريباً منها، وهنالك لاحت له طلائع الجيش الفرنسي. ثم كان الاصطدام، ولطم لطمة خفيفة فلم يصبر عليها، بل هرب فزعاً، واضمحلت كبرياؤه، وذاب إدلاله كما يذوب الثلج في الحر، وأسرع راجعاً إلى العاصمة لعله يأتنس بمن هنالك من جنود زميله إبراهيم، أو ينتصر بمن هنالك من الشعب المصري الذي طالما أوقع به في طغيانه وجبروته. فلما بلغ مصر وقف ببقايا جيشه عند
(انبابه)، وأرسل إلى القاهرة يستنجد ويستمد، فنودي على أهل القاهرة بالنفير والتجهيز للدفاع. وهكذا لم يجد الطاغيتان أخيراً أن لهما غنى عن الشعب، وعلما بعد أن وقعت الواقعة أن الملجأ الأخير إنما يكون إلى هؤلاء العامة، وقد كانا في أيام السلم لا يقيمان لهم وزناً ولا
يفكران فيهم إلا من أجل أموال يبتزانها، أو من أجل كبريائهما يغذيانها، أو من أجل نفسيهما الطاغيتين يشبعان شهوة طغيانهما.
ولكن كان الشعب واحسرتاه قد قتله الطغيان: فأجاب دعوة النفير وجعل يستعد للدفاع، ولكنها إجابة المضني الذي أجهده الضنى، واستعداد النزيف قد خارت قواه من طول ما أريق من دمائه، فما يكاد يعتمد على رجليه حتى يخر إلى الأرض مهدوداً متهالكاً.
أغلق الناس (دكاكينهم) وهجروا أسواقهم، وخرجوا جميعاً إلى بولاق يجمع بعضهم من بعض ما عندهم من المال الضئيل، فأما من عنده فضلة من ماله فقد تطوع بالإنفاق على غيره، وبذل السلاح والطعام لمن يحتاج إليه. وهم في كل ذلك يتلفتون لعلهم يرون هؤلاء الألي كانوا بالأمس يشمخون بأنوفهم عتوا وكبراً، فلا يجدون إلا باحثاً منهم عن أمر نفسه، أو منهمكا في نقل متاعه وأمواله إلى حيث يكون آمناً عليها من النهب أو المصادرة.
وأبصر الناس ذلك فلم يثنهم عن التقدم نحو واجبهم وهم في غير عدة. لا بل ما هو أكثر من ذلك، قد تقدموا وهم غير أكفاء ولا مدربين في أمور الحرب، إذ طالما قد وقف الطغاة بينهم وبين أداء حق الدفاع عن الوطن، خوفاً منهم أن يجعلوا لهم في أمر بلادهم رأياً، أو في حكم وطنهم شأناً. وتقدم شعب مصر نحو الجهاد الوطني، وأكثرهم أعزل لا علم له بالحرب، ولا بما تستلزمه من جهد أو من دربة. حتى لقد خرج بعضهم بالنبابيت، لا يحسبون ذلك إلا مغنياً عنهم في معمعان ذلك الجهاد.
ووقف الطغاة ينظرون ما صنعت أيديهم، ومع ذلك لم تنفطر قلوبهم أسى مما يشهدون، ولم يبخعوا نفوسهم على آثار ما اجترمت حكومتهم في البلاد. بل ظلوا وهم (حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم. محترقون لشأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم).
وقدم جيش فرنسا بعد قليل إلى انبابة، فتقدمت إليه جماعة من العسكر ليصدم الجيش المغير مرة أخرى بهجمتها العنيفة. فدفعوا الخيل في صدر الجيش المقبل، ولكن لشد ما عجبوا إذ رأواذلك الجيش، لا يتمزق لصدمتهم، ولا ينصدع من هجمتهم، فعادوا مذعورين، وستة آلاف من الجيش الفرنسي تضرب في اقفائهم، حتى بلغوا متاريس مراد بك، فانضموا إليه وقد دب الرعب في قلوبهم.
سار الجيش الفرنسي المتقدم وراء المنهزمين، وانقسم على أسلوبه وطريقته، ثم دار على نظامه وخطته، فإذا متاريس مراد بك محصورة وسط نيران الجيش الفرنسي، وإذا النار تنصب على المصريين من خلف ومن قدام. وكان فزع، وكانت مذبحة، وما هي إلا ساعة أو أقل من ساعة، حتى انجلى الغبار وارتفع القتام عن حطام الجيش المصري، بعضها ملقى فوق اليابس، وبعضها يتخبط في ماء النهر، وفلول أسارى في أيدي العدو، والنقع الثائر من جهة الجنوب يخفي وراءه الطاغية (مراد)، وهو هارب نحو الجيزة حرصاً على حياته.
وسمع من في الجانب الشرق من النيل بضجة الحرب، ورأوا ما اندلع فيها من لهب، وما تردد فيها من قصف يشبه قصف الرعد، فلم تثبت نفوسهم بما لا عهد لهم به، وإن كانوا حريصين على أن يجاهدوا ويجالدوا، وخانهم الجلد وإن كانت نفوسهم تواقة إلى أن يثبتوا ويصبروا. والذعر متى استولى على النفس، لم يبق فيها محل لثبات ولا لصبر، ولم يترك في القلب موضعاً لحفاظ ولا لحمية. فركبوا رءوسهم وهاموا على وجوههم، بعضهم ناج بنفسه لا يلوي على شيء، وبعضهم استطاع أن يثبت نفسه ليخرج بأهله وحرمه، وأقبل عليهم الليل، وهم فوضى مشردون مشدوهون، يحسبون كل ضجة صوت مطارد، ويخشون أن يكون كل متردد في الظلام عدواً مقبلا بسفك الدماء وهتك الأعراض. وهكذا شهدت أهرام مصر كيف تتم للطاغية جريمته بنكبة شاملة، لا يبقى فيها بر ولا فاجر، ولا يسلم منها الظالم ولا الضحية
محمد فريد أبو حديد