مجلة الرسالة/العدد 74/صحف مطوية من التاريخ الإسلامي
→ صفحة من التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 74 صحف مطوية من التاريخ الإسلامي [[مؤلف:|]] |
في يوم ماطر ← |
بتاريخ: 03 - 12 - 1934 |
3 - العرب في غاليس وسويسرا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة البحث
أتينا فيما تقدم على أخبار الغزوات والمستعمرات المسلمة في غاليس ولومبارديا وسويسرا منذ أواخر القرن الثامن الميلادي حتى جلاء المسلمين نهائياً عن تلك الوهاد والسهول في أواخر القرن العاشر، ونحاول الآن أن نعرض طرفاً من العوامل والظروف التي أحاطت بتلك الغزوات، وطرفاً من الآثار التي خلفتها في البلاد والأمم التي كانت ميداناً لها.
ينكر بعض مؤرخي الغرب على تلك الفتوحات والغزوات العربية والإسلامية بوجه عام خاصة الاستقرار والإنشاء، ويقولون إنها كانت في الغالب حملات ناهبة تقوم على رغبة الكسب وتحصيل الغنائم، ولا ريب أن ظمأ المغنم، وشغفالمغامرة، وما إليها من لذة الاستكشاف والسيادة كانت من أهم العوامل التي قامت عليها هذه الغزوات؛ وتلك هي العوامل الخالدة التي تقوم عليها فتوحات الأمم منذ أقدم العصور؛ ولكن من الحق أيضاً أن نقول إن نزعة الجهاد لم تكن بعيدة عن تلك الغزوات، وإن كثيراً من أولئك المغامرين البواسل كانت تحفزهم الحماسة الدينية وفكرة الجهاد في سبيل الله؛ وقد كانت هذه العصابات الغازية المستعمرة تعمل في الغالب لحساب نفسها، ولكنها كانت تعمل ملحوظة بعطف الحكومات والأمم الإسلامية التي تنتمي إليها، وكانت تؤدي إلى تلك الحكومات خدمات جليلة بما كانت تقوم به من إزعاج الحكومات والأمم النصرانية وإضعاف جيوشها ومواردها، ومن المحقق أيضاً أن نزعة الاستقرار والإنشاء لم تكن بعيدة عن أذهان الغزاة، بل كان يحفزهم مثل ذلك الروح الاستعماري القوي الذي دفع الأمم الغربية في العصر الحديث إلى افتتاح الأمم المتأخرة واستعمارها؛ وقد استقروا بالفعلواستعمرواحيث مهدت لهم الكثرة والقوة سبل البقاء، كما فعلوا في أقريطش، حيث استقروا بها بعد افتتاحها، زهاء قرن وثلث القرن (827 - 961م) ونشروا بها الإسلام والحضارة الإسلامية؛ وكذلك استقروا مدى حين في بارى وفي تارانت من ثغور إيطاليا الجنوبية، وفي راجواز (رغوس) من ثغور الأدرياتيك الشرقية، وكان لهم على شواطئ قلورية (جنوب إيطاليا) مستعمرات زاهرة لبثت حلية هذه المياه عصراً. هذا ولسنا نتحدث عن دولة الإسلام في إسبانيا، ولا دولة الإسلام في صقلية، لأننا نخص بهذا الحديث غزوات الجماعات والعصبات المسلمة التي كانت تعمل لحساب نفسها مستقلة عن الحكومات.
ويبالغ المؤرخون الغربيون أيضاً في تصوير الآثار المخربة لتلك الغزوات الإسلامية، وما كانت تقترن به من ضروب العنف والسفك، ولكن العنف والقسوة والسفك والتخريب لم تكن خاصة بالغزوات الإسلامية، وإنما كانت من خواص العصر ذاته؛ ولم تكن الغزوات النصرانية للأراضي الإسلامية أقل عنفاً وسفكاً؛ ويكفي أن نشير هنا إلى الحملات الصليبية التي لبثت مدى عصور تحمل إلى الأمم الإسلامية أروع صنوف الدمار والسفك؛ بل يكفي أن نشير إلى ما كانت ترتكبه البعوث الاستعمارية الحديثة، والإنكليزية والفرنسية، في الدنيا الجديدة من صنوف القسوة والسفك، وما ترتكبه اليوم بعض الأمم الأوربية (المتمدنة) من الجرائم المروعة في أفريقية وآسياباسم المدينة والاستعمار.
والآن لنر ماذا خلفته الغزوات الإسلامية في هذه الأنحاء من الآثار المادية والاجتماعية. ومن المحقق أن هذه الآثار لا تكاد ترى اليوم، ولا يشعر بها إلا الباحث المنقب، ويلاحظ أولا أن الفتوحات العربية الأولى في غاليس وأكوتين لم يطل أمدها أكثر من نصف قرن، ولم تكن الحضارة الإسلامية في أسبانيا قد تكونت وتفتحت بعد. ثم كانت الغزوات اللاحقة التي فصلنا أخبارها، والتي كانت أقرب إلى المغامرات المؤقتة منها إلى الفتوح المستقرة، فلم تتح للغزاة فرص الاستقرار والعمل السلمي، لأنهم كانوا في مراكزهم النائية متفرقين يشغلون قبل كل شيء بالدفاع عن مراكزهم وأنفسهم. بيد أن هذه الغزوات المحلية المتقطعة، وهذه المستعمرات العربية النائية خلفت وراءها في الأراضي المفتوحة بعض الآثار الهامة المادية والمعنوية. ومن ذلك ما كشفته المباحث الأثرية منذ القرن الماضي على شواطئ خليج سان تروبيه من أطلال الحصون العربية القديمة التي كانت قائمة في تلك الأرض، والتي لا تزال قائمة في بعض آكام الألب الفرنسية والسويسرية، وهي تدل على ما كان للغزاة من الحذق والبراعة في
فن التحصينات والمنشآت الحربية؛ وهنالك في جنوب فرنسا، وفي بعض أنحاء إيطاليا الشمالية والجنوبية، عدد كبير من الأبراج القائمة فوق الآكام والربى، يدل ظاهرها على أنها كانت تستعمل لأغراض حربية؛ ويرى البعض أن هذه الأبراج إنما هي آثار عربية من مخلفات الغزاة، كانت تبني لعقد حلقات الاتصال وتسهيل حركات الدفاع فيما بينهم؛ ومن المعروف أن العرب منذ فتوحاتهم الأولى في سبتمانيا (لا نجدوك) أعنى منذ أوائل القرن الثامن، كانوا ينشئون في الأراضي المفتوحة حصوناً وأبراجاً تسمى (بالرباط). بيد أن فريقاً آخر من الباحثين يرى بالعكس أن هذه الأبراج إنما كانت من إنشاء أبناء الأرض المفتوحة، أقاموها أيام اشتداد خطر الغزوات العربية ليستعينوا بها على رد الغزاة.
وقد ظفرت المباحث الأثرية أيضاً بالعثور على كثير من القطع الذهبية والفضية (المداليات) في أنحاء كثيرة من لا نجدوك وبروفانس، وثبت أنها من مخلفات العرب، وأنها كانت تستعمل للتعامل مكان النقود، ولكنها لا تحمل اسماً ولا تاريخاً، ولا يمكن تعيين عهد سكها، وإن كانت بذلك تدل على أنها ترجع إلى عصر الغزوات الأولى. ووجدت أيضاً في الأعوام الأخيرة في منطقة تور سيوفٌ ودروع قبل إنها عربية من مخلفات الواقعة الشهيرة التي نشبت في تلك السهول بين العرب والفرنج (بلاط الشهداء)
ومن الحقائق التي لاشك فيها أثر العرب في الزراعة؛ فقد رأينا أن كثيراً من الغزاة تخلفوا عن إخوانهم واستقروا في تلك الأرض وزرعوها. ومن المعروف أن العرب حولوا وديان إسبانيا المجدبة إلى حدائق وغياض زاهرة، ونقلوا إليها مختلف الغراس من الشرق، وأنشئوا بها القناطر العظيمة؛ وقد حمل هؤلاء الغزاة المغامرون إلى جنوب فرنسا كثيراً من خبرتهم الزراعية، ونقلوا لسكان تلك الأنحاء؛ ويقال إن (القمح الأسمر) الذي هو الآن من أهم محاصيل فرنسا إنما هو من مخلفات العرب، وهم الذين حملوا بذوره وكانوا أول من زرعوه بفرنسا؛ والمرجح أيضاً أنهم هم الذين حملوا فسائل النخيل من إسبانيا وأفريقية إلى شواطئ الريفييرا. ومن آثارهم الصناعية، استخراج (القطران) الذي تطلى به قاع السفن ويحميها من العطب، فهم الذين علموه لأهل بروفانس، وما زال عندهم من الصناعات الذائعة، ومازال اسمه الفرنسي ينم عن أصله العربي.
ومن الحقائق الثابتة أيضاً فضل العرب في تحسين نسل الخيل في تلك الأنحاء، ومازال في جنوب فرنسا جهات تشتهر بجمال خيولها ونبل أرومتها، ولا سيما في (كاماراج)، وفي مقاطعة (لاند) من أعمال غسقونية؛ ومن المحقق أن هذه الخيول الأصيلة الجميلة إنما هي من سلالة الخيول العربية التي أحضرها الفرسان المسلمون معهم إلى تلك الأنحاء. ولا ننسى ما للدم العربي من أثر في بعض أنحاء جنوب فرنسا، فقد رأينا العرب أنشئوا بعض المستعمرات الزراعية وتزوجوا من نساء تلك الأرض وتناسلوا فيها؛ ولما تغلب عليهم النصارى، وأخرجوا نهائياً من تلك الأرض، تنصر كثير منهم ممن أسروا، وأرغموا على افتداء حياتهم وأسرهم بالتنصر؛ وقد لبث أبناء هؤلاء العرب المنتصرين عصوراً في تلك البلاد، يشتغلون بالزراعة والتجارة، حتى جرفهم تيار التطور واندمجوا أخيراً في المجتمع النصراني، واختفت كل آثارهم وخواصهم العربية.، وما زالت ثمة في بروفانس في وادي الرون على مقربة من ليون، كذلك في بيجور على مقربة من جبال البرنيه، جماعات فرنسية تتكلم لهجات غريبة، ولها أخلاق وتقاليد خاصة، ويظن البعض أنها ترجع إلى أصل عربي؛ ولكن البحث يرجح أنها ترجع إلى بعض قبائل النور الذين استقروا في تلك الأنحاء منذ عصور.
هذا، وأما عن الآثار الاجتماعية، فانه يلاحظ في بعض جهات بروفانس التي استقر فيها العرب مدى حين، أن لسكانها بعض التقاليد الخاصة، ومن ذلك أنواع معينة من الرقص، يظن أنها ترجع إلى أصل عربي. أن أعظم آثار العرب الاجتماعية في جنوب فرنسا، يبدو في تطور الحركة الفكرية في العصور الوسطى، فقد كان للعرب أثر عظيم في تكوين النزعة الشعرية في الجنوب، وظهر أثر هذه النزعة واضحاً في الحركة الأدبية التي تعرف بحركة التروبادور والتي ظهرت في جنوب فرنسا وفي شمال أسبانيا وشمال إيطاليا منذ القرن الحادي عشر، وقوامها القريض الحربي والغنائي، وزعماؤها فرسان شعراء وفنانون. أضف إلى ذلك أن تأثير الحضارة الإسلامية في سير حضارة أوربا الجنوبية لم يقف عند هذا العصر ولا عند هذه الحدود، فقد استمرت العلائق بعد ذلك طويلاً بين مسلمي الأندلس، والأمم النصرانية المجاورة، وكان للحضارة الأندلسية في تطورها الاجتماعي أعظم الآثار.
ولقد لبثت ذكرى العرب وذكرى الغزوات العربية في فرنسا تثير مدى القرن الثامن في نفوس النصارى أعظم ضروب السخط والروع، وتقدمها إلينا الرواية الكنسية المعاصرة في أشنع الصور؛ فلما ظهرت عصابات النورمان والمجر، وغزت فرنسا من الشرق والغرب، رأى النصارى من عيثهم وسفكهم أهوالاً لا تذكر بجانبها أهوال الغزوات الإسلامية، وارتفعت ذكرى العرب، وأضحت تقترن بكل ما هو عظيم ضخم، يقول رينو: (إن ذكرى الغزوات النورمانية والمجرية لا توجد إلا في الكتب. ولكن ما السر في أن ذكرى العرب مازالت ماثلة في جميع الأذهان؟ لقد ظهر العرب في فرنسا قبل النورمان والمجر، واستطاعت إقامتهم بها بعد الغزوات النورمانية والمجرية. وإن غزوات العرب الأولى ليطبعها طابع من العظمة، حتى أننا لا نستطيع أن نتلو أخبارها دون تأثر. ذلك أن العرب، دونالنورمان والمجر، ساروا مدى آماد في طليعة الحضارة؛ ثم انهم لبثوا بعد أن غادروا أرضنا، موضع الروع في شواطئنا، وأخيراً لأن المعارك التي اضطلعوا بها أيام الصلبين في إسبانيا وأفريقية وآسيا، أسبغت على أسمهم بهاء جديداً. بيد أن هذه العوامل كلها قد لا تكفي لتعليل المكانة العظيمة التييتبوأها الاسم العربي في أوربا وفي أذهان المجتمع الأوربي. إما السبب الحقيقي لهذه الظاهرة المدهشة، فهو الأثر الذي بثه قصص الفروسية في العصور الوسطى، وهو أثر لا يزال ملموساً إلى يومنا.
محمد عبد الله عنان المحامي