مجلة الرسالة/العدد 739/عود إلى الردود والنقود
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 739 عود إلى الردود والنقود [[مؤلف:|]] |
رجل في ملابس النساء! ← |
بتاريخ: 01 - 09 - 1947 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
يرى الأستاذ إسماعيل مظهر مرة أخرى في المقتطف أن ترجمة (أنيميزم) بالاستحياء خطأ لأنها ترجمت في بعض المعجمات العامة بالفكرة الروحانية.
والأستاذ مظهر يعلم ولاشك أننا لم نكن نعجز عن مراجعة المعجمات كما راجعها. ولكننا فضلنا كلمة الاستحياء لأن المعجمات لا تفسر المعاني الفلسفية، ولأن كلمة الاستحياء أدل على المعنى المقصود من الفكرة الروحانية في هذا المقام.
فالفكرة الروحانية تلتمس بالمذهب المعارض للفكرة المادية في تفسير الطبيعة أو تفسير التاريخ، وكلتاهما لم تكن تخطر للهمجي على بال، وإنما كان يؤله الظواهر الطبيعية لأنه كان ينظر إليها كما ينظر إلى الأحياء.
وليست ترجمة (أنيميزم) بالحياة خطأ من الوجهة اللفظية فضلاً عن الوجهة المعنوية أو الفلسفية. لأن كلمة أنيما هي أصل كلمة أنيمال ونحن لا نترجم هذه الكلمة بذوات الأرواح بل الأحياء أو الحيوانات. ولو ترجمناها بذوات الأرواح لأخطأنا في رأي الدينيين ورأي الماديين على السواء، لأن الدينيين لا يقولون بالروح في الحيوان، والماديين لا يقولون بالروح على الإطلاق.
وليس بصحيح ما قاله الأستاذ مظهر من أن كلمة (أنيما) تعني الروح في أصل وضعها مستشهداً على ذلك باستخدامها بهذا المعنى في كتب أرسطو وغيره.
وإنما الصحيح أن أصل معنى (أنيما) هو الهواء. ثم استعيرت لمعنى الحياة أو الروح لأن الأقدمين كانوا يربطون بين التنفس والحياة، وهكذا نشأت كلمات الروح والنفس والنسمة في اللغة العربية.
ويرى الأستاذ مظهر مرة أخرى أن كلمة بوليثيزم لا تترجم إلا بكلمة الشرك ولا تصح ترجمتها بتعديد الآلهة.
والصحيح أن ترجمتها بالشرك هي الخطأ وأن ترجمتها بتعديد الآلهة هي الصواب.
لأن الشرك يقتضي الإيمان بإله واحد يعتبر الإيمان بإله غيره مشاركة له ملكه.
والذين عددوا الآلهة قبل التوحيد لم يجعلوا بعضها شريكاً لبعض في الملك، بل ربما اتخذ إلهاً للبحر وإلهاً للشمس وإلهاً للغاب ولا مشاركة بينها في عمل من الأعمال!
ومن الخلط المعيب أن نقول أن الشرك يفيد معنى البوليثيزم لأن الذي يعتقد بإلهين اثنين مشرك ولا يقال فيه إنه وإنما يقال فيه أنه ديالست كما يعلم الأستاذ.
وخذلت المعجمات الأستاذ مظهر أكثر من مرة في هذه المناقشة لأنه راح يعتمد عليها في تفسير كلمة الديالكتيك التي ترجمناها بالثنائية ويأبى الأستاذ مظهر إلا أن تترجم بالجدلية. . . ولا جدل هناك حيث استخدمت الكلمة في مذهب هيجل أو مذهب كارل ماكس أو ما شاء الأستاذ مظهر من المذاهب الفلسفية.
فهيجل يقول بالفكرة ونقيضها في الثنائية المثالية وكارل ماركس يقول كذلك بالشيء ونقيضه في الثنائية المادية.
ومعنى (الاثنينية) ظاهر في المذهبين بل في كل اصطلاح يرجع إلى (الديالكت) حتى الديالوج الذي يجري الآن على كل لسان. . .
وكل أولئك يوحي إلى الذهن أن أصل كلمة اللهجة والحوار ملحوظ فيه الكلام بين اثنين.
ومهما يكن من هذا أو ذاك فالثابت قطعاً بغير جدال أن الأثنينية مقصودة في ديالكتيك هيجل وماركس، وأن الجدل غير مقصود فيهما إلا في المعجمات العزيزة عند الأستاذ إسماعيل مظهر. . . والتي يوجد عندنا منها بحمد الله عدد لا يقل عن الموجود منها في مكتبة الأستاذ العامرة أو مكتبة المقتطف الفيحاء.
وقال الأستاذ مظهر: (إن الذهاب إلى أن مذهب كارل ماركس هو الديالكتيك أمر لم يقل به غير الأستاذ العقاد على ما أذكر وبقدر ما يتسع له علمي. . . على أني أكاد أجزم به، ذلك بأن مذهب كارل ماركس هو المادية الجدلية. . . وشتان بين المذهبين. . .).
والذي قلناه نحن هو (أن مذهب كارل ماركس وهو الديالكتيك يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص تشتمل على الخاصة ونقيضها).
فأين هو الخطأ في هذا الكلام؟
الخطأ على ما يظهر في طريقة الكشف عن الكلمات في المعجمات، وهي تقتضي الكشف عن الديالكتيك في حرف الدال، والكشف عن المادية في حرف الميم. . . وشتان بين الحرفين!! وقد عاد الأستاذ مظهر إلى مسألة الوجود والموجودات فأعاد ما قاله الأديب المستفسر (صابر. م) في عدد مضى من الرسالة فقال - أي الأستاذ مظهر - (إن ذلك قد يقبل في غير لغة العلم غير لغة الفلسفة. لأن هذه اللغة لا تتجوز في تحديد المعاني الدقيقة لكل لفظ. . .).
فلا نزيد على أن نعيد له ما بدأناه في الجواب على الأديب المستفسر من كلام الإمام الرازي حيث قال في المناظرات: (إن كان غرضك إظهار الفرق بين التكوين والمكون بحسب اللفظ والعبارة فإنه يقال يكوَّن يكوّن تكويناً فهو مكون وذاك مكون فالتكوين مصدر والمكون مفعول. والفرق بين المصدر والمفعول معلوم في اللغات. إلا أن الفرق الحاصل بحسب اللغات لا يوجب الفرق في الحقائق والمعاني. ألا ترى أنه يقال عدم يعدم عدماً فهو معدوم، فالعدم مصدر والمعدوم مفعول. ذلك لا يوجب الفرق بينهما في الحقيقة).
ونظن أن الإمام الرازي مفسر القرآن ومفسر مذاهب الفلاسفة يعرف في اللغة والفلسفة ما يجوز وما لا يجوز.
وقال الأستاذ مظهر يعنينا: (أما كلامه في مذهب التطور فظاهر من عباراته التي ساقها أنه لم يفرق بين البحث في التطور والبحث في نشوء الحياة، إن الأمرين مختلفين جد الاختلاف).
وهذا كلام لا يجاب عليه بالإيجاز. . . ولكن بلغة التحدي التي تبتدئ من الخط الثلث إلى (بنط 8) في المطابع العصرية.
فنقول للأستاذ مظهر: اذكر لنا عالماً واحداً من علماء التطور، أو كتاباً واحداً من كتب التطور، أو سطراً واحداً من سطورها - يفصل بين التطور وبين نشوء الحياة في مذهب الماديين.
ونحن في الانتظار ولا نزيد.
ثم قال: (أما قول الأستاذ أن أجهل همجي لهو أصدق شعوراً بالعالم من الفيلسوف العصري الذي يحصر الحياة هذا الحصر العجيب. . . فهل نصدق حقيقة أن أجهل همجي هو أصدق شعوراً بالعالم من بلاس وكونت وكانت وداروين وبرجسون).
وعندنا نحن أن الأستاذ مظهر بحاجة إلى مراجعة برجسون وداروين وكانت ولابلاس ليعلم أنهم لا يحصرون العالم، ولا يختمونه في علبة صغيرة، كالعلبة التي يملكها الأستاذ مظهر على ما يظهر، ونفضل له أن يملأها بالوهم - من أي صنف من الأصناف - ولا يملأها (بعلم) لم يستند إلى علم ولا إلى فلسفة ولا إلى عقيدة. . . اللهم إلا المعجمات وأشباه المعجمات!
عباس محمود العقاد