مجلة الرسالة/العدد 739/رجل في ملابس النساء!
→ عود إلى الردود والنقود | مجلة الرسالة - العدد 739 رجل في ملابس النساء! [[مؤلف:|]] |
القسم العاشر: ← |
بتاريخ: 01 - 09 - 1947 |
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأت في (أخبار اليوم) أن الشرطة عثرت على (فلان) قتيلاً في داره. . . وقالت عن هذا القتيل أنه كان يلبس ملابس النساء، ويفضلها على ملابس الرجال، لأن أمه لما ولدته كانت ترجو أن يكون بنتاً لذلك دعته (فلانة) وألبسته ملابس البنات ونشأته على ذلك، وقالت الجريدة أنه كان غنياً واسع الثروة فأراد يوماً أن يؤلف لجنة في (حزب سياسي) للسيدات يكون هو رئيسها فأوفدت إليه الشرطة من يهدده بالاعتقال والنفي إلى الطور إن هو فعل.
قرأت هذا فوقفت عنده وفكرت فيه، فوجدت الجريدة قد ساقت هذا الخبر لتعجّب الناس من أمرين هما: لبس الرجل لباس المرأة، ودخوله في لجنة السيدات - وما في واحد منهما عجب، ولا أدري ماذا وجدت فيه الجريدة حتى عجّبت منه الناس ومادمنا لا ننكر على المرأة أن تلبس لباس الرجل، وتستعير سراويلاته (بنطلونه)، وتجزّ شعرها تشبهاً به، وتتخذ مثل قميصه وردائه؛ فلماذا ننكر على الرجل أن يلبس ثيابها مرة واحدة؟
ولماذا ننكر عليه دخوله مرة واحدة في لجنة السيدات، ولا ننكر على السيدات دخولهن في لجان الرجال ومشاركتهم في أعمالهم، من سوق السيارة إلى تدريس الجامعة وأيهما أعجب وأغرب، وأبعد عن سنن الله ومألوف الناس، أأن يرأس رجل لجنة السيدات في حزب من الأحزاب، أم أن تقعد آنسة جميلة على منبر التدريس مثلاً. . . تعلم شباباً كباراً. . . علماً لم تختص هي به، ولم تنفرد بحمله، ولم ينقرض الرجال حتى لم يبق لتدريسه إلا هي، وليست أصلح له ولا أقدر عليه من رجال هم مستعدون للقيام به، راغبون في أدائه؟
فلماذا نستضعف الرجل فنحمل عليه، ونظلمه هذا الظلم البيّن، ونهاب الجنس (المخيف) أن نقول لأهله كلمة، أو نشير إشارة؟
وأين المساواة بين الجنسين التي ندعو إليها دائماً، ونتجمل بترديدها، ونتباهى بها، ونحن لا نفهم معناها، ولا ندري علام تدل وإلام توصل؟
وهل انفرد هذا الرجل وحده بلبسه غير لباسه، وتزيّيه بغير زيّه؟ ألسنا نرى كل يوم أناساً يتزيّون بزيّ الصالحين، ويحملون سبحات المسبحين، ويقومون في المساجد مع المصلّين، ثم لا تعاملهم إلا غشوك، ولا تخبرهم إلا وجدتهم طلاب مراتب ورواتب، أو باغي منافع، ولا تراهم إلا متزلّفين لكل صاحب سلطان، خاضعين له، يؤثرون رضاه على رضا الله، ويخافون غضبه أكثر من غضب الله. إذا رأوا الحرام منه خرسوا عنه، وإن رأوا المكروه من غيره أقاموا الدنيا عليه. . .
ومشايخ طرق ظاهرهم مع مريديهم ظاهر الفقراء الزاهدين، وحقائقهم مع أهليهم وإخوانهم، حقائق الفساق الذين ينتهكون كل حرمة، ويبتغون كل لذة، ويعيشون حياة ليس فيها شئ لله ولا للشرف.
أولسنا نرى كل يوم عملاء للأجانب، كالذين ذكرهم الأستاذ رمزي بك، يدرسون على حساب الأجنبي في مدارسه، ويتربون على يديه، ويسبّحون بحمده، يتوجهون أنّى وجههم، ويعملون له فيما استعملهم، ويعرفهم الناس هم وآباؤهم من قبلهم صنائعه وعبيده، يلبسون فجأة ثياب الوطنيين المخلصين، أو دعاة الدين الصالحين، ثم يدخلون (بأمر الأجنبي) الحزب أو الجمعية، فلا يلبثون أن يكونوا هم أربابها، وأن يقصوا عنها أصحابها، ثم يصرِّفونها لمصلحة الأجنبي، يخدمونه وهم يسبّونه، قلوبهم وأيديهم معه وألسنتهم عليه، وعملهم لمصلحته وإن كانت ظواهرهم لمحاربته؟
أولسنا نرى أغبياء جهلاء يلبسون ثياب العلماء الأذكياء، وأدنياء يزهون بحلل الأعلياء، وأعداء يرتدون أردية الأصدقاء؟
فلماذا نفرد هذا القتيل المسكين بالملامة، ونخصه بالنقد؟
وهل كل من حمل شارب الرجل، ولبس لباسه، كان رجلاً؟ لو كان هؤلاء. . . كلهم رجالاً فهل كان يمكن أن تبقى بلاد العرب إلى اليوم مجزأة مقطعة، تفصل بينها حدود وأعلام، يطؤها الأجنبي ويتحكم فيها، ويستغلها ويستعبد أبناءها؟ إن الرجال حقاً هم الأربعون الذين كانوا مستخفين في دار الأرقم في أصل الصفا، فلم تمر عليهم ثلاثون سنة حتى فتحوا نصف الدنيا، لا هؤلاء الأربعمائة مليون الذين ناموا منذ ثلاثمائة سنة حتى تجرأت عليهم نصف شعوب الدنيا؟ لو كان هؤلاء رجالاً حقاً واجتمعوا على الأسطول الإنكليزي لحملوه حملاً على أكتافهم، ولو نفخوا كلهم نفخة واحدة لطيّروا الجيش الإنكليزي المرابط عند القناة ولو بصقوا كلهم بصقة واحدة لأغرقوا يهود العالم. . .
ولكنهم أشباه الرجال، ولبسهم لباس الرجال لا يقل عجباً وغرابة، عن لبس هذا القتيل لباس النساء. . .
ولماذا ننكر عليه أن يكون رئيس لجنة السيدات الـ (حزبيات) ولا ننكر على السيدات أن يؤلفن هذه اللجنة؟ وما للسيدات وأعمال الأحزاب؟ إنه إن دخل فيها فهذا عمله، وهذا مكانه، ليس هو الطارئ الواغل فيه، ولكن السيدات المحترمات. . . فهن أولى بالإنكار، وأحق بالمنع، لا احتقاراً لهن وزراية عليهن بل إكراماً لهن، وترفعاً بهن أن ينزلن إلى هذه المنزلة، وينحططن إلى هذه الدركة، وهل جنى الرجال من الحزبيات في بلادنا خيراً حتى يجنيه منها النساء؟ هل رأينا فيها إلا الفرقة والانقسام، واستغلال نفر منا إخلاص المخلصين، واندفاع المندفعين، وطمع الطامعين، للوصول إلى كراسي الحكم، التمتع بأموال الدولة؟ وماذا يرى المراقب البعيد، من تبدل الحكومات في هذا الشرق العربي، وتعاقب الأحزاب عليها، إلا تبدل الوجوه، وتغيّر الأشخاص، أما الأسلوب فهو واحد، والسياسة واحدة، يتبدل الوزّان ويبقى الميزان؟ والميزان مختل، والقب مائل، والصنجات ضائعات!
أولسنا جميعاً مثل هذا القتيل نلبس لباساً لم يفصّل لنا، ولم يقس علينا، ولكنه خيط لغيرنا، فأخذناه كما هو بلا إصلاح، ومشينا فيه كما يمشي الطفل بحلة أبيه يتعثر بها فيسقط، فيضحك أهله عليه، ويسلّيهم بفعله
لقد أخذنا هذه المدنية كما هي، لم نحكم فيها عقولنا وشرائعنا وطبائع بلادنا، ولوازم معيشتنا، كما تفعل كل أمة في الدنيا، فتستوي الأمم في أصول الحضارات، وأسس المدنيات، ولكنها تختلف في التفاصيل، فلا تبنى البيوت وتخاط الثياب في البلاد الباردة كما تبنى وتخاط في البلاد الحارة، ولا تخطط المدن في شعاف الجبال كما تخطط في السهول أو على سواحل البحار، ولا تكون الأطعمة في حدود القطب كما تكون في خط الاستواء، وما يسوغ ويقبل في بلد قد ينكر ويردّ في بلد، وما يحسن في لسان من أساليب البيان يقبح في لسان، وما يجمل في ألحان الغناء يبشع في أذن، ليس في الدنيا بلدان متحضران تستوي فيهما هذه الدقائق كلها، وإلا لما كان معنى لاختلاف الحضارات، وتعدد الثقافات، وتكلف مشاق الرحلات، ولكان السائح الذي يرى فرنسا كأنه رأى ألمانيا، والذي يبصر أمريكا كأنه أبصر روسيا، وليس في الدنيا حضارة أصيلة إلا ولها طابع خاص بها، فما هو طابعنا نحن في حضارتنا الجديدة؟ ما هو الثوب الذي نلبسه؟ ادخل أي دار من الدور، وسر في أي شارع من الشوارع، في مصر أو الشام أو العراق، تجد الجواب، تجد في الدار الواحدة غرفة مفروشة بالبساط والوسادة فيها فراش على الأرض، وغرفة فيها أحدث ما صنع من الأرائك والكراسي والمناضد، ودقق في هذه الغرفة تجد فيها خليطاً من الذوق الفرنسي والإنكليزي، وفي صدرها مرآة من أسلوب عهد لويس الرابع عشر، وأمامها نضد على الطرقة الأمريكية، وتجد بين الأم وبنتها في اللباس والعادات والأفكار قرناً كاملاً، وتجد بين الدار وأختها فرقاً هائلاً، في العمارة والفرش والذوق والترتيب، مع إنك تدخل بيوت عمارة يسكنها إنكليز أو فرنسيون، فتحسّ على اختلاف الغنى والذوق، أن لها طابعاً عاماً يبدو على كل منها، وإن تفاوتت درجات ظهوره وخفائه؛ وتجد في الشارع ألواناً من الألبسة والأزياء، يحسبها الغريب أزياء عيد المساخر (الكرنفال)، وادخل المدارس تجد في المناهج، وفي المبادئ العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض على التلميذ، وفي آراء المدرسين ومذاهبهم (كرنفالاً) آخر، ولكنه أغرب وأشد اختلافاً، وأكبر ضرراً، وفي المبادئ الحقوقية في التشريع، وفي المذاهب البيانية في الأدب، وفي الصحافة وفي السينما وفي كل شئ (كرنفال) ضخم، ليس له يوم واحد ينقضي بانقضائه، ولكنه دائم باق لا انقضاء له
وأنا لا أدعو لنبذ الحضارة الغربية، بل أدعو لأخذ ما ينفعنا منها، وأن لا نأخذها أخذ العامي للرادّ (الراديو)، لا يفهم منه إلا أنه يأتيه بالأصوات، فيفتحه على مصراعيه، ويزعج به الجيران، ويكرّه إليهم الحياة بجواره، بل أخذ العالم الذي يعرف وجوه استعماله، ويدرك تركيبه، فيصلحه إذا فسد، ويكمله إذا وجده ناقصاً، ويصنع مثله أو يخترع أحسن منه، أي أن نتعلم علومهم، ونتقن فنونهم، وندرس أخلاقهم، ثم نرى ما يزيدنا منها قوة، وسعادة للفرد منا والجماعة، وسهولة في العمل، ولذة في المعيشة، فنأخذه كما هو، أو نعدله حتى يصلح لنا، وأن ننقله إلينا، ونجعله ملكاً لنا، لا أن ننتقل به إلى أمة غير أمتنا، وطبيعة غير طبيعتنا، وأن ننظر ما فعله أجدادنا في أول العهد العباسي، مع الحضارة الفارسية أولاً فنصنع مثله، إنهم أخذوا كل نافع في الطعام والشراب وللباس والمسكن وفنون القول وطرائق الفكر، ولكنهم لم يصيروا به فرساً، بل جعلوا به الفرس عرباً، أما أن نأخذ النافع والضار، والجليل والحقير، بلا فهم ولا علم، فهذا تقليد كتقليد القردة. . .
وبعد، فلماذا ننكر على هذا الرجل أنه فقد عزة الرجولة، واتخذ لباس المرأة، ولا ننكر على الكثرة الكاثرة من هذه الأمة أنها فقدت عزتها، واعتدادها بنفسها، وكبرياءها القومية، وشعورها أنها أمة هي أعظم الأمم في الجاهلية والإسلام، وأنها إن قدر عليها أن تذل حيناً، فما من أمة إلا وقد ذلت ذات مرة، ولكنها لن تذل مرة أخرى، ولن تعود إلى الغفلة والمنام. . .
إن رأس أدوائنا هو هذا اللطف، والحرص على أن نكون مؤدبين، لا نؤذي محدثنا أو جليسنا. هذا للطف وهذا الإكرام للضيف هو الذي جرأ علينا الأجانب، جنوداً وتجاراً، حتى ملكونا بجيوشهم ومعاملهم وشركاتهم ومتاجرهم، ولا خلاص لنا، أعنى لا خلاص لمصر من هذا كله ألا بأربع خلائق يجب على كتابها وصحفييها ومدرسيها وصانعي أفلامها أن يعلموها الناس وأن يخلقوهم بها، هي حب المال أولاً، وحب المال إن زاد كان مذمة للفرد ونقيصة، ولكنه لا يكون للشعب إلا خيراً، وما أفلح شعب لا يحب في مجموعه المال. وحب الأسفار ثانياً. . . كونوا كإخوانكم الشاميين، هل طلع كوكب إلا على نفر منهم؟ اقتحموا البحر والصحراء، إلى أمريكا شماليها وجنوبيها، وأفريقية أدناها وأقصاها، والهند واليابان وأوربة، وما نزلوا بلداً إلا كانوا من كبار تجاره، ومن وجوه سراته، عاشوا تحت كل نجم، وجابوا كل أرض، وخالطوا كل أمة. . .
وترك هذا اللطف ثالثاً، وتعود الشدة في الحق، والثقل على العدو، والمزاحمة على العيش، وأن يحس مصري بعد هذا كله، بل قبل هذا كله، أن البلد بلده وأنه أحق به من كل خواجة وكل دخيل، وأن له هو طيباته وخيراته، وأنه أكرم من هذا الدخيل (كائناً من كان هذا الدخيل) أصلاً، وأعز نسباً، وأبين لساناً، وأقوم ديناً، وأجل أثراً في الدنيا، فلا يطأطئ رأسه لأحد، ولا يحني هامته لإنسان، ولا يرضى بالدنية من مخلوق في الدنيا.
بهذه الأخلاق ننقلب مرة أخرى، ويرى هؤلاء الأجانب ماذا يصنع الأسد الجريح، إذا برئ، بالثعالب التي كانت تلعق دمه.
والويل يومئذ للثعالب!!
(القاهرة)
علي الطنطاوي