الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 738/القصص

مجلة الرسالة/العدد 738/القصص

بتاريخ: 25 - 08 - 1947


قصة إسلامية:

شيخ الأندلس

منقولة عن الإنجليزية

بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي

ولما تم تقديم الجميع للخليفة، وقف اللاعبون في صفوف منتظمة، ودقت الطبول تعلن بدء المباراة.

وكان عدد المتبارين قد بلغ نيفاً وسبعين فارساً، فكانت المباراة في الدفعتين الأوليين شاقة ومرهقة ولم يفز فيها سوى عشرة منهم لهم الحق في التسابق الأخير وهو أعنف أدوار المسابقة وأصعبها؛ فقد ركّز عمود في وسط الساحة بالغ في الارتفاع، وثبت في طرفه الأعلى بأسلاك قوية تمثال طائر كسي جميعه بالحرير الذي جعل النسيم يداعبه فيتحرك ذات اليمين وذات الشمال.

وعلى كل من الفائزين في الأشواط الأولى أن يسدد سهامه إلى ذلك الطائر من مسافة معينة، ويحوز قصب السبق من يوقعه على الأرض في إحدى ضربات ثلاث، وقد تقدموا جميعاً ما عدا إسحاق فإنه قد بقي للنهاية بحكم قانون اللعب لإحرازه البطولة في عامين سابقين. وكان كل من يتقدم منهم يتبادل التحية مع الجماهير الحاشدة في الملعب وهو عظيم الأمل في الفوز ولكن التوفيق خالفهم جميعهم، ورجعوا منكسي الرءوس يتصببون عرقاً.

ولما تقدم إسحاق وحيا الجماهير وحيته، شمل الساحة سكون مطبق، ورنت إليه الأبصار واشرأبت الأعناق في تلهف ورغبة فلما أخذ مكانه وأرسل أولى سهامه إلى الطائر تابعته الأنظار وشايعته القلوب حتى استقر في صدر الطائر وأماله إلى الخلف كثيراً فترنح الطائر للسقوط ثم أخذ مكانه الأول ولكن من غير جناحين فقط على الأرض، فارتفعت الأصوات في الفضاء بالتهليل والتكبير، وتعالت بالدعوات لإسحاق. فاهتزت جوانب الملعب، ثم عاد إليه الهدوء بعد قليل، ولما صوب إسحاق سهمه الثاني اهتز العمود في عنف وتقطعت أسلاك كثيرة وتمايل الطائر إلا أنه لم يسقط. فهتفت الجماهير في صوت واحد: - مرحى! مرحى! يا إسحاق، احرص هذه المرة فأنت البطل.

استعد إسحاق، وسدد سهمه الأخير إلى الهدف في عناية وإحكام فطار في الهواء ثم نفذ إلى رأس العمود فأتى على بقية الأسلاك وهوى الطائر إلى الأرض وافترش مساحة صغيرة في الساحة، فدوى الهتاف في جميع الجوانب: (الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) فرد إسحاق تحية الجماهير بكلتا يديه ثم تقدم إلى مقصورة الخليفة وانحنى أمامه، فهنأه الخليفة وقدم له القدح الذهبي جائزة الفوز في ذلك العام، فانحنى الشاب ثانية، ثم استأذن الخليفة وانصرف شاكراً، ثم التف حول جمع غفير من أصحابه والمعجبين به وخرجوا إلى المدينة وهم ينشدون الأناشيد الوطنية الجميلة ابتهاجاً بهذا النصر العظيم.

أصبح الشيخ إدريس طاعناً في السن، وقد وهت قوته ونالت منه السنون، فضعفت حركته، وتحللت أوصاله وصارت العزلة محببة إليه، فابتنى لنفسه منزلاً صغيراً أنيقاً في ظاهر المدينة حيث الهدوء التام وأحاطه بحديقة جميلة زاهرة، وعاش فيه عيشة وادعة هانئة.

ولقد كان حريصاً على أن يشهد المهرجان في هذا العام ليقوي روح ابنه المعنوية. ولكن قعد به عن ذلك ضعف الشيخوخة ولقد سرى إليه نبأ انتصار إسحاق بأسرع من البرق. ووفد عليه كثير من الناس يهنئونه قبل أن يعود ابنه. وقد تحامل على نفسه ومشى إلى باب الحديقة ليستقبل ويودع المهنئين ولينتظر ابنه فجاء في رهط من إخوانه تتقدمهم هتافات وجلبة. فلما بلغوا سور الحديقة ترجلوا عن جيادهم وتقدم إسحاق إلى أبيه فقبل يديه كلتيهما. ثم عانقه عناقاً حاراً وطبع الوالد على جبهة ابنه قبلة تفيض عطفاً وحناناً. وتقدم رفقاء إسحاق فقبلوا يد الشيخ وقدموا له التهنئة، ثم تبعوه إلى موائد الشاي والمرطبات فنالوا منها ما طاب لهم. وقبل أن ينصرفوا قام إدريس وشكر للحاضرين صادق تهنئتهم، ودعاهم لحفلة عشاء ساهرة، اعتاد أن يقيمها كلما فاز ابنه في مساء يوم المهرجان. فقبل الحضور الدعوة شاكرين وخرج إسحاق يودعهم إلى الباب، ثم رجع والمؤذن ينادي لصلاة الظهر فأسرع مع والده إلى المسجد، ولما رجعا إلى البيت انفرد الرجل بابنه وجلس إلى جانبه وقال له:

- إنك تعلم يا بني أني قد بلغت من الكبر عتياً، وأنني هامة اليوم أو الغد، فقد انطفأت شعلة القوة في نفسي، وسرى الضعف في أعضائي، وخطوت إلى النهاية خطوات فسيحة وأصبح لا أمل لي في الحياة إلا أن أراك رب أسرة ورأس عائلة وإن ابنة الشيخ عبد الكريم ذات نسب ودين، وليس لها من يدانيها جمالاً وأدباً؛ وقد حزمت الأمر أن نعقد لكما في نهاية هذا الأسبوع والله أسأل أن يكتب لكما التوفيق. . .

عقد الحياء لسان إسحاق فلم ينبس ببنت شفة. ولكن بسمة لطيفة ارتسمت على شفتيه تعبر عن سروره وفرحه. ثم دخلت أمه العجوز فضمته إلى صدرها ضمة قوية وطبعت على وجنتيه قبلة حنان وعطف ثم جعلت يده بين يديها وأخذت تمر بهما عليها مراً لطيفاً وقالت:

- بني العزيز! نهنئ أنفسنا بفوزك. ونسأل الله أن يحرسك. . . إن عمك الشيخ عبد الكريم كان هنا قبل أن تعود وقبلنا دعوته لك لتتناول الشاي عنده بعد عصر هذا اليوم وقد دعا كثيراً من أصدقائك لتأنس بهم. وكثيراً من أصدقائه وأصدقاء والدك لتتعرف عليهم. وإنه أقام هذا الحفل ابتهاجاً بنصرك فاستبدل ملابسك وتهيأ لتلبية الدعوة. ولا تنس أن ترجع قبل غروب الشمس لتستقبل المدعوين للعشاء عندنا.

- أشكرك يا أماه! وسألبي دعوة عمي. ولكني لا أملك العودة في الوقت الذي تحددينه. فذلك موكول للظروف، فقد لا ينتهي الحفل قبل أن تغرب الشمس!

قد يكون ذلك يا بني ولكن عمك الشيخ عبد الكريم سيكون في منزلنا في نفس الوقت أو بعده بقليل لأنه مدعو للعشاء هو الآخر. . .

استبدل إسحاق ملابسه. وأعد جواده، ثم أخذ طريقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم في قلب المدينة. . وكان الشيخ عبد الكريم من سراة القوم والمقدمين فيهم، ومن ذوي المكانة في الدولة ولم يبق له من ذريته إلا فتاة جميلة الطلعة لطيفة التكوين ناهزت سن البلوغ، ولقد كانت الصلة بين الرجل وبين الشيخ إدريس من أوثق الصلات وأقواها وازدادت قوة وتوثيقاً بخطوبة الفتاة لإسحاق بن إدريس، فأصبحت الأسرتان شريكتين في السراء والضراء، وكان الشيخ عبد الكريم يولم كل عام فاز فيه إسحاق بالبطولة وليمة يدعو لها كبار القوم وأشرافهم.

وصل إسحاق منزل الشيخ عبد الكريم فوجدهم في انتظاره فتقدم إلى المدعوين وحياهم وتقبل تهانيهم شاكراً. ثم التفوا حول الموائد يأكلون ويشربون مما لذّ وطاب من الحلوى والشراب وبعد أن فرغوا قام بعض المدوين من شباب العرب بألعاب رياضية في الفروسية ولعب السيف وركوب الخيل. . . ثم تفرق الجمع شاكرين للداعي دعوته مكررين لإسحاق التهنئة، واستأذن إسحاق بدوره وأكد على الشيخ عبد الكريم ألا يتأخر عن اللحاق به. ثم ركب جواده ولوى عنانه إلى بيته.

كانت أشعة الشمس على قمم الجبال قد اصطبغت بلون الذهب وكانت الطيور تروح جماعات إلى أوكارها على رءوس الأشجار عندما كان إسحاق في طريقه إلى منزله عائداً من حفل الشيخ عبد الكريم، فما إن بلغ مقابر الخلفاء في سفح الجبل حتى ركض جواده في منعطف الطريق. ثم وثب وثبة عالية في خوف وفزع وكاد إسحاق يسقط لولا أنه فارس ماهر. . .

ولما هدأت ثائرة الجواد، وخفت حدة جموحه تلفت إسحاق حوله فرأى رجلاً منبطحاً على الأرض وبيده مقود حمار، فأيقن أن كلاً من الحمار والجواد قد ارتاع لرؤية الآخر فجأة، فشرد الحمار وجمح الفرس. ووقع الرجل على الأرض.

تقدم إسحاق إلى الرجل وهو يهم بالنهوض وقال له معتذراً:

- لا بأس عليك أيها السيد الفاضل. أرجو ألا يكون قد أصابك مكروه.

فرد عليه الرجل في كثير من العنف والجفوة فقال:

- هل كنت أعمى أيها الغبي الأحمق ولم تر أي شيء أمامك!؟. فقال له إسحاق في استعطاف ولين:

- يلوح لي أنك غريب عن هذه الديار، فهل أنت آت من بعيد؟

- وما شأنك بي أيها المغرور؟ إنه يهمني أن أقول لك: إن هذه السكرة التي غمرتكم سينمحي أثرها عما قريب، وسيعلم أولئك الحاكمون من المسلمين أن وراء الأكمة ما وراءها، وحينئذ ستفيقون من غفلتكم، ويثوب إليكم رشدكم. وتخف وطأة غروركم.

- هون عليك يا صاحبي، ولا تغضب إلى هذا الحد، وإني أكرر لك المعذرة، وأرجو أن تعتقد أن ذلك وقع رغم إرادتي فاغفر لي هذا الخطأ. . . ثم مد يده إلى جيبه وأخرج كيساً به شيء من النقود وقال له: هاك هذه النقود، لتجبر بها ما أصابك ولتتبلغ بها في سفرك.

- إنك مجنون يا هذا! فقد ظننتني من مواطنيك الأندلسيين تستهويهم فضلات المسلمين، ألا فاعلم أنني من بلاد يبصق أهلها على الذهب إذا مسته أيد مسلمة.

فاستثار قول الرجل غضب إسحاق فقال له:

- أمسك عليك لسانك أيها الرجل واجعل لهذا الهذيان حداً

- أينا يهذي يا هذا؟ بحق (فجوف) - إله روماني - لم يصادفني من هو أكثر قحة منك.

سر في طريقك يا صاح ولا تستثرني بأكثر مما فعلت، فلولا أن ديني قد أوصى بابن السبيل خيراً لكان لي معك شأن آخر ولقطعت لسانك الذي تلفظ بهذا الهراء.

- يا لك من نذل جبان، أتتجاسر إلى هذا الحد أيها الصعلوك العربي؟ إن كان يجري في دمك نخوة الرجال فترجل عن فرسك لأريك أينا يقطع لسان الآخر!!

- لا تفه بأكثر من هذا، وانتظرني ليصفي كل منا حسابه مع صاحبه. . . ثم شرع في النزول عن ظهر الجواد، لكن الخائن لم يمهله حتى تستقر رجلاه على الأرض، فقد سدد إليه سهماً طائشاً نفذ إلى صدره، وأصاب منه مقتلاً فخر صريعاً تنزف منه الدماء غزيرة، وهكذا مات إسحاق في ميعة الصبا، وريعان الشباب.

بهت القاتل وتسمرت رجلاه في الأرض، فلم يكن في حسابه أن يموت غريمه هذه الميتة الوحيّة، ولم يعد للأمر عدته. فتملكته الحيرة واستبد به الارتباك ولم يدر ماذا يفعل لينجو بنفسه. وبينما هو في حاله تلك يتلفت ذات اليمين وذات اليسار إذ أقبل من بعيد خادم إسحاق، وكان قد تأخر عنه قليلاً، فلما رآه القاتل يجري نحوه، أيقن أنه إن أدركه فسيقضي عليه لا محالة فأطلق ساقيه للريح وأسرع إلى المدينة. . .

كانت الشمس قد توارت بالحجاب. وكان الظلام يتكاثف رويداً رويداً، حين كان الشيخ إدريس قد بدأ يساوره القلق لتأخر إسحاق في العودة بما لم يسبق له من قبل وهو يعلم أن هذه الليلة بالذات يجب أن يبكر فيها ليشترك مع أبيه في استقبال الضيوف. ولما استبد به الانتظار وقارب وقت المغرب أن ينتهي طلب إلى خادمه أن يعد له الماء في الحديقة ليتوضأ. ثم خرج إلى باب الحديقة ونظر هنا وهناك لعله قادم من بعيد ولكنه رجع كئيباً كاسف البال. ومع ذلك لم يدر بخلده أن ابنه في هذه اللحظة يسبح في بحر من الدماء عند مقابر الخلفاء في سفح الجبل فلما أخذ مكانه ليتوضأ قال له خادمه:

- ستؤدي الصلاة هنا أم في المسجد يا سيدي؟

فأجابه الشيخ الكبير: - سأصلي في المسجد يا بني إن شاء الله - مع الإمام. ألم تسمع قول رسول الله ﷺ (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة) وقوله عليه صلوات الله وسلامه (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولم يكد الرجل يتم حديثه حتى لاح لهم شبح يجري خلف سور الحديقة مسرعاً إليهم. فسأل الرجل خادمه قائلاً:

- يمكنك أن تتبين هذا الذي يسرع الخطأ إلينا؟

- لا يا سيدي. ولكن حركاته وملامحه ترشد إلى أنه ليس من أهل هذه البلاد.

- إنه يجري في ارتياع واضطراب كأن خطراً داهماً يتعقبه

(البقية في العدد القادم)

وهبي إسماعيل حقي