الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 737/القصص

مجلة الرسالة/العدد 737/القصص

بتاريخ: 18 - 08 - 1947


قصة إسلامية:

شيخ الأندلس

منقولة عن الإنجليزية

بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي

- 2 -

وجدت هذه الدعوة طريقها إلى بعض الآذان، وتهمس كثير من الخدم وقبلوا أخيراً وأعلنوا الموافقة وعمد كل فريق منهم إلى سيده فشد وثاقه وأحكم قيده، ثم تفرغوا إلى الأمتعة يسلبون وينهبون ما تصل إليه أيديهم.

ولما عاد إدريس وسمع صيحات الخيانة تتردد في جنبات المعسكر، انتقى سيفه، واستعد للنزال، فاعترضه أحد الخدم وقال له:

- لا تضيع الوقت يا إدريس، فهذه فرصة قل أن تسنح. إن القراصنة عاهدونا عهداً وثيقاً أننا سنقتسم وإياهم كل ما نسلب ولم يدعه إدريس يتم حديثه فبادره بقوله:

- بماذا تنطق يا هذا؟ وماذا تريد أن تقول؟

- أقول إن الظروف قد هيأت لنا أن نسلب متاع هذا التاجر، ونختص بها دونه، وسننزل لك عن نصفها، ونشترك جميعاً في النصف الآخر. . . وها نحن أولاء قد أحكمنا قيد سيدنا؛ فلا تتردد وسارع إلى معونتنا. . .

لم يكن لدى إدريس سوى عمل واحد لإجابة ذلك الخادم، فإنه لم يكد يتم جملته حتى كان السيف قد فلق هامته، فسقط على الأرض تتفجر الدماء غزيرة منه، ثم دلف إدريس إلى إحدى الخيام فوجد سائر الخدم منهمكين في كسر الصناديق، وتفريغ الأواني الذهبية، وربطها استعداداً للرحيل، فلما وقع عليه نظرهم حسبوه قد خف لمساعدتهم، فقالوا في لفظ واحد:

مرحباً بك يا إدريس! ستكون الجمال هنا بعد قليل، فلم يمهلهم إدريس إلا ريثما لفظوا تلك اللفظة، فأمسك بسيفه وأجهز على ثلاثة منهم في طرفة عين، فلاذ الباقون بالفرار. . .

ولما لم ير إدريس سيده ولم يسمع له صوتاً، انتقل إلى خيمته الخاصة فوجده ملقى على وجهه في أحد الأركان. وبجواره واحد من المتمردين والسيف في يده، فقال له ذلك المتمرد حين رآه بعد أن ركل التاجر برجله:

- ماذا يجب أن نعمل يا إدريس لنتخلص من هذا التعس؟

تأثر إدريس من الحالة التي وصل إليها سيده، ومن الخيانة التي بدرت من أتباعه ومن هذه الوحشية والقسوة التي عاملوه بها؛ إنهم قد شدوا وثاقه، وأحكموا قيده، وطرحوه أرضاً، وشهروا عليه سيوفهم. . . إن إدريس مسلم، ودينه لا يبيح له أن يتخلى عن أداء واجبه وإن عرض عليه نصف المتاع ثمناً لتخليه.

حقاً إنه وحده في هذا المكان أمام زملائه الذين سولت لهم أنفسهم أن يتألبوا على ولي نعمتهم.

وحقاً إن سكوته سيجعل منه بعد ساعات معدودات غنياً كبيراً، وثرياً عظيماً، وليس بالهين عليه أن ينقذ سيده، كما أنه ليس بالهين عليه أن يقف مكتوف اليدين لا يعمل عملاً. . .

إن ضمير المسلم يهيب به أن يعمل على إنقاذ سيده وأن يرعى حقه عليه، وأن يكون وفياً له، أميناً مخلصاً، وأن يربأ بنفسه، وينأى بدينه عن أن يتسفل إلى هذا الدرك من الانحطاط الخلقي. وهذا ما كان من إدريس فقد وثب على الخادم الذي يحرس التاجر وثبة النمر، وجرده من سيفه ثم أطاح برأسه، وبسرعة البرق حل قيود سيده، وعاونه على النهوض.

أما بقية الأتباع فقد كانوا في شغل عن ذلك كله بحزم الأمتعة في الخيام الأخرى. ففاجأهم إدريس وصرخ فيهم صرخة قوية نبهتهم إلى الخطر الداهم، فلما هموا بالقضاء عليه رأوا بجانبه سيدهم وبيده سيفه البتار، فغشيهم من الهم ما الله به عليم. وقبل أن يثوب إليهم رشدهم، أعمل إدريس وسيده فيهم سيفيهما فسقط اثنان منهم يتخبطان في دمائهما. فلما رأى الباقون ذلك ولوا مدبرين. وتركوا كل شيء على ما كان عليه.

في الصباح الباكر لاح في وسط البحر على مد البصر، مركب القراصنة يمعن في الهرب، وهو مشحون بما سرقوه من أموال ومتاع. وكانت جثث القتلى والجرحى متناثرة حول الخيام في منظر رهيب ترتجف لهوله القلوب، ولم ينج من التجار سوى سيد إدريس، فقد كتب الله له السلامة على يد رفيقه الأمين وحارسه المخلص الذي أبى عليه دينه وأبت مروءته أن يترك سيده في محنته. كان إدريس مؤمناً حقاً، طبعه الإسلام بطابعه، فنشأ متواضعاً جم التواضع، كبير النفس، عال الهمة كثير الوفاء، شديد الإخلاص أحرص على تعاليم النبي محمد ﷺ من حرصه على حياته، فكان يرى أنه لا يليق بالمسلم أن يلوث سمعة الإسلام بالجبن أو الخيانة، أو القعود عن نصرة الضعيف. . . وكان يرد على ثناء سيده عليه بعد تلك الليلة بقوله:

- إنني يا سيدي لم أقم إلا بما يجب عليّ كإنسان مسلم يعلم أن الله يجزي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

كانت تلك الفرصة هي التي ولدت في التاجر الثقة بإدريس، وأعلت منزلته في قلبه، حتى أصبح لا يعمل إلا بمشورته، ولا يصدر إلا عن رأيه، وكان الرجل من كبار التجار في الأندلس، له القصور الشامخة، والمزارع الواسعة، والحدائق الغناء، والبساتين الزهراء، يحوطه جيش من الخدم والحشم، ويتمتع بتقدير الناس ومحبتهم

ولما استقر المقام بالتاجر في بلده بين أهله، أقام حفلاً كبيراً، شكراً لله على سلامته، ودعا إليه سراة القوم وعِلْيتهم، وقدم لهم إدريس منقذ حياته، وامتدح لهم شجاعته ونجدته، وقص عليهم قصته، وقال في تمام حديثه: (فلولا إدريس لكنت في عداد الأموات منذ أمد بعيد؛ فأنا مدين له بحياتي!).

جعل كلام الرجل لإدريس مكاناً ممتازاً في نفوس الناس وقلوبهم، فكانوا يجلونه ويحترمونه، ويقدرون فيه أخلاقه الإسلامية الكريمة، التي فتحت له أبواب السعادة في مستقبل حياته، فلقب بشيخ الأندلس، وصار أغنى أغنيائها.

وفي مكان منعزل عن المدينة وضوضائها، كانت الساحة الشعبية التي أعدتها حكومة الأندلس الإسلامية، لإقامة المهرجانات الرياضية والمباريات في الرماية والفروسية، وكانت الساحة واسعة، اكتست أرضها بحشيش أخضر جميل، وقامت في جوانبها أبنية فخمة في شكل دائري، واجهتها مكشوفة إلى الملعب ليجلس فيها المتفرجون أيام المباريات، وكانت الساحة مفتحة الأبواب لجميع المواطنين من غير تمييز بينهم في الجنس أو الدين؛ فقد كان للأندلسيين ولع شديد بالرياضة على اختلافها، فكان البرابرة والعرب واليهود منهم والمسيحيون والمسلمون يؤمون تلك الساحة من كل فج في نشوة الفرح وغمرة السرور.

وكان العلم الإسلامي الوطني يخفق في قمة البناء، ينشر العدل والإخاء، ويدعو إلى التسامح والمساواة، وكانت المباريات الرياضية والمهرجانات الشعبية في المناسبات الدينية، والأعياد الوطنية، وكان أعظم تلك المباريات المباراة التي تقام في أيام عيد الفطر من كل سنة، فقد كان يتقدمها عرض عسكري عام، تتبعه حركات رياضية ماهرة، وكان نبلاء المسلمين وأمراؤهم يدعون إليها كبار المسيحيين وعيونهم ليشتركوا في الرماية وسباق الخيل.

وكانت الوفود تتوالى على المدينة من أقاصي البلاد وأدانيها لشهود المهرجانات، فيقابلهم السكان بالحفاوة والترحيب ويفتحون لهم صدورهم وبيوتهم، ويقيمون لهم الولائم الفخمة والحفلات العظيمة، وكانت الحكومة تعد بيوتاً لمن لم يجدوا لهم مأوى. توفر لهم فيها أسباب الراحة، وتهيئ لهم فيها طيب الإقامة.

وفي إحدى السنوات كان شهر رمضان يقترب من النهاية، حين أخذت المدينة زخرفها وأزينت، وشرع السكان يتأهبون لاستقبال الوافدين عليهم من أعالي البلاد وأسافلها لحضور المباراة الكبرى، وكانت عادتهم قد جرت بأن الغرباء عن المدينة يكتبون إلى أصدقائهم فيها أنهم سينزلون ضيوفاً عليهم مدة المهرجان ليعدوا لهم أماكن لإقامتهم، وكانت برامج المهرجان تذاع بين السكان قبل إقامته بأيام معدودات، وبينها أسماء المشتركين في المباريات الرياضية، وركوب الخيل، واللعب بالسيف والرمح، وإصابة الأهداف بالسهام. لم يبق على العيد إلا يوم وبعض يوم، وليس لأهل المدينة حديث إلا حديث المباراة، ومن اشترك فيها من المسلمين والمسيحيين الذين استعدوا لنزال إسحاق بم إدريس، ذلك الشاب العربي المسلم الذي توالى انتصاره في عامين متتابعين.

إن القارئ ليذكر أن إدريس بن أحمد قد أصبح أقرب المقربين إلى ذلك التاجر الأندلسي الذي التحق بخدمته في سوريا ورافقه إلى بلاده، وخلصه في الطريق إليها من براثن موت محقق، ولقد نعم إدريس بجواره بضع سنوات كان فيها موطن سره، وموضع إعزازه وإكباره، فلما وافته منيته ولم يكن قد أعقب ذرية تؤول إليها ثروته الطائلة أوصى بها لمنقذ حياته إدريس وفاء لحقه واعترافاً بفضله، فأصبح إدريس منذ ذلك التاريخ صاحب غنى وجاه عريض. ولقد شكر لله هذه النعمة العريضة، فكان ينفق بسخاء على المعوزين وذوي الفاقة، وكان يحج كل عام إلى بيت الله الحرام، ويهدي لأهل الحرمين الشريفين، ويتنازل لهم عن كثير من الأموال. وقد رزقه الله في الخامسة والأربعين من عمره طفلاً جميل الصورة، لطيف التكوين، ورث عنه صفاء العقيدة، وحدة الذهن، ونقاوة الضمير، فاهتم بتربيته وتنشئته على الأخلاق الإسلامية الحميدة، وعلمه ركوب الخيل والرماية، فشب نبيل الطباع، نادر المروءة، كريماً سخياً. فلما استوى عوده، واشتد ساعده، أضحى مضرب المثل في الفروسية وركوب الخيل. وكان أبوه إدريس قد بلغ من الكبر عتياً، فعلق على ابنه كل أمل له في الحياة، واتخذ منه دعامة قوية، وعدة صالحة للمستقبل.

ولقد نال إسحاق في سنتين متعاقبتين جائزة البطولة الذهبية في المباراة الكبرى، وتردد اسمه في هذه السنة على كل لسان، وتساءل الناس متشككين: أيحوز قصب السبق مرة ثالثة وقد احتشد له كبار الرماة من المسيحيين الذين برعوا في ركوب الخيل وقد هرعوا لنزاله من مناطق شاسعة البعد؟

حل اليوم الذي تختم به المباراة الكبرى، وتخفق فيه قلوب المتنافسين رغبة في الفوز، ورهبة من الفشل، وبدأ الناس يفدون إلى الساحة مبكرين، وقد أخذوا زينتهم، ولبسوا أبهى حللهم؛ وكانت السيدات يتباهين بجمال زينتهن وحسن هندامهن وهن في الطريق إلى مقصوراتهن الخاصة بعيدات عن الرجال، وكان للنساء الأندلسيات ولع بشهود المباريات ولا يشتركن في اللعب. وكان للخليفة كبار الحاشية مقصورات خاصة بهم في أبنية الملعب.

ولما دقت الساعة العاشرة، وكانت الساحة غاصة بالرجال والنساء والأطفال يستمعون لأنغام الموسيقى، ركب المتبارون جيادهم وأخذوا يقطعون الساحة ذهوباً جيئة، وهم يتيهون في ملابسهم الوطنية الزاهية ويتأهبون لاستقبال الخليفة وبدء المباراة. وما هي إلا دقائق معدودة، حتى قرعت الطبول إيذاناً بقدوم الخليفة، فاشرأبت الأعناق، وشاهد الحاضرون كتيبة من الفرسان تتقدم الموكب، وكلهم من زهرة الشباب العربي المسلم، ترقص الخيل تحتهم، وتلمع السيوف في أيديهم، ثم وليها الرجالة وهم من خيرة رجال الحرب، يحملون الأعلام الوطنية الإسلامية، وعلى صدورهم الأنواط التي فازوا بها في المعارك التي خاضوا غمارها وخرجوا منها ظافرين. ثم لاح الخليفة يحيط به الأمراء وكبار رجال الحكم والأمن على خيل أشد بياضاً من الثلج، وملابسهم وسيوفهم ناصعة البياض؛ وكان الخليفة يلبس فوق رأسه عمامة كبيرة مرصعة بالجواهر، وتعلوها ريشة طويلة ذات ألوان عديدة أكسبتها رونقاً وبهاء. وقد استقبلت الجماهير الخليفة أروع استقبال وهتفت له في حماسة بلغت عنان السماء وهي تردد: (الله أكبر، الله أكبر) وقذفت السيدات بالمناديل المعطرة في أرض الملعب احتفاء بقدوم الخليفة. رد الخليفة تحية الجماهير بأحسن منها، ثم أخذ مجلسه وجعل المشتركون في المباراة يمرون أمامه في شبه عرض عسكري يتقدم الأسن منهم ليحيي الخليفة بانحناءة بسيطة، ثم الذي يليه في السن ورئيس الملعب يقدمهم له بأسمائهم، فلما كان دور إسحاق - والخليفة يعرفه لأنه فاز بالبطولة مرتين - قال له جلالته: كيف أنت يا إسحاق هذا العام؟ أخشى أن يعدوك النصر، فإنك أمام أشهر الرماة وأمهرهم! فانحنى إسحاق قليلاً ثم قال: إنني يا مولاي بحسن تأييد الله، وجميل رعايتكم بخير والحمد لله، وأملي في الفوز كبير، مادمتم عنا راضين!

(يتبع)

وهبي إسماعيل حقي