مجلة الرسالة/العدد 736/الكتب
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 736 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 11 - 08 - 1947 |
في أعقاب الثورة المصرية
(تأليف الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك)
وقف بنا صاحب العزة الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك منذ عام عند الرحلة الثامنة من مراحل تاريخنا القومي الحديث، بعد أن وضع بين أيدينا المجلدين العاشر والحادي عشر من معلمته التاريخية، وهما اللذان صور فيهما ثورة سنة 1919 أصدق تصوير، وما كان له أن يدعنا عند هذه الرحلة الخطيرة من تاريخنا حتى يظهرنا على ما وقع في أعقاب هذه الثورة من أحداث، وما تقلبت فيه من أطوار.
انفجرت براكين الثورة المصرية في عام سنة 1919 فانبعث فيها غضب أربعين سنة ذاقت فيها البلاد من ظلم الإنجليز ألواناً وأنواعاً، وقد وقفت الأمة في هذه الثورة صفاً واحداً كأنها بنيان مرصوص إذ كان الغرض الذي تجاهد من أجله واحداً وهو إسعاد مصر وتحريرها. وبحسبك أن تعرف أن هذه الثورة قد هزت أركان الأرض، والتفت إليها الدهر، وعلى زمجرة وعودها استيقظ الشرق كله ليأخذ في الحياة حقه ويسترد منها ملكه.
ظلت هذه الثورة بروعتها وجلالها عامين كاملين ثم دب إليها داء الشرق المستعصي على الدواء - داء التفرق - فانتقل الجهاد من الميدان القومي إلى الميدان الشخصي، وبعد أن كانت البلاد في ثورتها تسير على نهج مستقيم لا عوج فيه فإنها قد انقلبت في أعقاب الثورة تعتسف في سيرها ولا تتهدى إلى طريق يجمعها وظلت أكثر من خمس سنين على اعوجاجها ثم فاءت إلى رشدها فجمعت شملها ولكنها لم تلبث غير عامين حتى عاودها داؤها فافترقت - ولا تزال وا أسفا!!
وهذا الذي أصاب البلاد بعد ثورتها من فرقة واختلاف قد تولى بيانه ودراسته مؤرخ هذا العصر الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في مؤلفه الجديد (في أعقاب الثورة المصرية).
ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب وقد بدأه حضرة المؤلف بتفصيل القول في الانقسام الداخلي الذي أصاب البلاد في سنة 1921 وما جرى على أثره وانتهى إليه ومضى يتحدث عن الوفد الرسمي وما ثار حوله من خلاف كبير أدى إلى خذلان الأمة وضعفها، وتكلم بعد ذلك عن تصريح 28 فبراير الذي استخلصه ثروت باشا من الإنجليز وتأليف حزب الأحرار الدستوريين؛ ثم أشار إلى العقاب التي أقيمت في سبيل ثروت باشا فأودت بوزارته وذلك بعد أن قامت لجنة الثلاثين بوضع مشروع الدستور المصري، وواصل الحديث عن وزارة نسيم باشا وما كانت تحاوله من مسخ مشروع الدستور وإلى كفاح جميع الأحزاب في هذا السبيل حتى ظفرت البلاد بدستورها بعد أن حذف منه كل ما يتصل بالسودان، وأخذ يتقصى ما توالى من الحوادث بعد ذلك من تأليف حزب الاتحاد في سنة 1925 والانتخابات التي أجرتها حكومته، وما انتهى إليه الأمر من ائتلاف الأحزاب في سنة 1926 والانتخابات التي دعا إليها الاتحاد وتأليف الوزارات الائتلافية، وزارة عدلي باشا في يونية سنة 1926 ووزارة ثروت باشا في إبريل سنة 1927، وظل يساير الحوادث ويعللها إلى أن مات سعد في 23 أغسطس سنة 1927.
هذه لمحة دالة على بعض ما جاء في هذا الكتاب الذي تتحدث عنه اليوم. وليس الشأن في عرض الحوادث وإيراد الوقائع لأن ذلك أمر يسير على من يتتبعها أو يتطلبها وإنما الشأن كل الشأن في تعليل هذه الحوادث والحكم عليها بالحق والعدل من غير مجاملة ولا خوف رضى الناس عن هذا الحكم أو غضبوا.
لقد كانت الحقبة التي بين سنة 1921و1926 من أصعب الحقب التي مرت على البلاد، فيها اجتازت القضية المصرية أشق مراحلها وأوعرها وذلك بما تجلى فيها من الصراع الداخلي بين زعماء البلاد وقادتها، وكان منشأ الخلاف التنازع على رئاسة المفاوضات واستعر لهيب هذا الخلاف حتى شمل البلاد جميعاً فانقسمت الأمة شيعاً وتفرق جمعها بدداً، والتنازع ولا ريب يؤدي إلى فشل الأمة وذهاب ريحها، ثم امتد هذا الخلاف إلى الدستور وكيف تحكم البلاد، وقد كان كل حزب يعمل في هذه الحقبة لنفسه، ولا يريد إلا أن تكون البلاد تحت حكمه.
من أجل ذلك كله وغيره كان تاريخ هذه الحقبة ثقيلاً لا تنهض به إلا النفوس الكبيرة التي لا تؤثر على الحق شيئاً ولا تهاب في سبيل الجهر به أحداً، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في مثل المؤرخ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك الذي قضى ما قضى من عمره المبارك في سبيل خدمة بلاده بإخلاص وأمانة.
ولا ريب في أن مؤرخنا الجليل قد أدى في هذا الجزء ما يؤدي المؤرخ الصادق الأمين فأخرجه في أصدق رواية وأوفى بيان وأحسن معرض وهي شنشنته التي عرفناها منه في سائر المجلدات التي تتألف منها موسوعته التاريخية العظيمة وقد بلغت اثنتا عشرة مجلدة.
وغن مثل هذا العمل العظيم ليوجب على كل مصري أن يسدي له من أجله أطيب الثناء وأجل الحمد.
ابن وضاح
عثمان بن عفان
(تأليف الأستاذ صادق إبراهيم عرجون)
هذا كتاب لم يزل موضعه خالياً في المكتبة العربية حتى جاء الكاتب النابغة الشيخ صادق إبراهيم عرجون الأستاذ بكلية اللغة العربية فملأ هذا الفراغ. ومنذ قرون طويلة والراغبون في المعرفة يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال ليجدوا مخرجاً يطمئنون إليه فيما أحاط بالخليفة الراشد عثمان بن عفان من فتن وأحداث، وقد كانوا يجدون الكلمة والكلمتين في الفينة بعد الفينة ولكن ذلك لم يكن يروي غلة التعطش إلى وجه الحق في هذه الأحداث فيبقى حائراً مبلبل الفكر، مضطرب الرأي، يضرب على غير هدى، ويخبط في ظلمات مضلة، مما حدا بالعلماء من قديم إلى أن يغلقوا باب الخوض فيما كان بين الصحابة من خصومات ومقاتلات (رحمة بالناس أن تزل بهم قدم الشبهات، أو ينفلت من يدهم معيار التقدير للحوادث وبواعثها، والأشخاص ومفاسدها، فلقنوا تلاميذهم، وأخذوا عليهم أن يلقنوا تلاميذهم جيلاً بعد جيل هذا المبدأ. وأول التشاجر الذي ورد تمكينا لحسن الظن بأولئك الأسلاف الذين بنوا أضخم بناء فأحسنوا تشييده، ووطدوا تأسيسه، فعجز الخلائف عن حراسة هذا البناء العظيم بأعمالهم، ولم تبق لهم إلا ألسنة لو أطلقت من عقلها بغير رقابة لقالت في السابقين الأولين) بيد أن هذا الحجر على العقول والأفكار لم يمنع أن يقول الناس وأن يتقولوا وأن يخوضوا في هذه المعتركات بما شاء لهم العقل والهوى، والإيمان والكفر، فكان من الحتم أن يتناول الباحثون هذه المسائل بشيء كثير من البسط والإيضاح حتى تطمئن العقول إلى الرأي السديد، وتبصر الحق واضحاً جلياً، وكان الأستاذ عرجون أبلغ من تصدى لموضوع عثمان بن عفان فأخذ المسألة من جميع أطرافها، وتناولها من ألفها إلى يائها كما يقولون، فدرس درساً مستفيضاً ووازن بين الروايات وأحسن وزنها وأخرج للإسلام وللعربية هذا الكتاب. وقد حاول المؤلف القضاء على كثير مما وقر في أذهان الخاصة والعامة مما يقدح في سلامة تصرفات ذي النورين، وقد وفق في كثير وأنه ليحسن الحجاج، ويوفق في الجدل، ويرمي برأيه غير هياب ولا متردد، اقرأ إن شئت قوله ص 86 (لقد وقع في أوهام كثير من الناس، وتحدر إلى منازل التاريخ، ولقن شباب المسلمين في المدارس، ومعاهد التعليم، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ضعيفاً في موقفه إزاء هذه الأحداث العاصفة، أو كان مستضعفاً يساق إلى ما يراد. وهذه غلطة تاريخية خطيرة في حق ثالث عظماء الإسلام، يجب على كل مسلم سليم العقيدة صحيح الفهم لتاريخ الإسلام أن على تصحيحها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فما كان أيسر على عثمان - لو أراد - أن يصنع صنيع يزيد بن معاوية فيتخذ له ولاة من نظائر زياد (كذا) وابنه عبيد الله، أو مثل صنيع عبد الملك بن مروان وابنه الوليد فيحكم في رقاب المسلمين أشباه إخيفش ثقيف ممن استباحوا البلاد وأذلوا العباد حتى تدين له الدنيا ويصفو له الملك) ثم يردد هذا المعنى في موضع آخر فيقول (وهل كان عثمان رضي الله عته عاجزاً أن يتخذ لنفسه (حجاباً) يجعله جلدة ما بين عينيه ويسلطه على أبشار الأمة بسياط القهر والجبروت، ويطلق يده في دمائها يعب منها ما يشاء حتى تخضع وتذل، وحوله من ذؤبان العرب، وفتيان أمية، من يستطيع أن يصطنع منهم العدد الكثير ممن غلظت أكبادهم، وقست قلوبهم؟). وهكذا يمضي المؤلف قوياً متحمساً يدفع عن عثمان ما (وقع في أذهان كثير من الناس).
ولا يمكن من يكتب عن هذا الكتاب أب يتجاهل أسلوب المؤلف فيه، هذا الأسلوب الناصع الديباجة، القوي الأسر، العربي الرصين، وإن ذلك تجده في كل صفحة من صفحات الكتاب.
هذا وإننا لنقف قصيراً مع المؤلف في هذا النهج الذي انتهجه، فقد جعل اللبنة التي أقام عليها بناء كتابه دراسته لأخلاق عثمان الشخصية، وذلك حين يقول: (وقد تأكد عندي أن أعدل ميزان لوزن الرجال وتقدير أعمالهم، ومعرفة الصحيح من الزائف فيما ينسب إليهم، وكتابة سيرهم كتابة تقربها من الحق والإنصاف إنما هو دراسة أخلاقهم الشخصية، وتعرف أحوالهم في حياتهم حتى يمكن الباحث أن يصنع من هذه الدراسة (صنجة) يزن بها كل ما يصادفه في طريق البحث من رأي أو مذهب أو رواية ثم أن هذه (الصنجة) قد حررت الميزان في كثير إلا أنها لم تنفع في بعض الأحايين؛ فإن المؤلف درس أخلاق عثمان الشخصية، واتخذ منها أساساً يبني عليه حياته العامة، فكان متجهه دائماً تبرير أعمال عثمان، والتماس الصواب ولو كان بعيداً. وهذا وإن أرضانا كمسلمين فإنه لا يرضينا كباحثين متطلبين لوجه الحق في أحداث التاريخ. وإنه ليسر كل مسلم أن لا يجد مطعناً في أعمال صهر رسول الله ﷺ، ولكن كيف وليس أحد معصوماً إلا الأنبياء، على إن الباحث حين يصل به البحث إلى أن يأخذ على عثمان شيئاً لا يكون بذلك قد أغضب العقيدة الصحيحة، ولا يكون إسلامه مدخولاً) وإن له في ابن عمر رضي الله عنه لأسرة حين سئل عن فرار عثمان يوم أحد فأجاب (أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له) وهذا المذهب الذي ذهبه الأستاذ في التأليف جعله يبرر أعمالاً لا يطمئن النصف إلى تبريرها، فأي وجه للصواب في موقف عثمان من جهجاه الغفاري الذي يقول الأستاذ في تبريره) ولين عثمان وحلمه أطمعا جهجاها الغفاري في أن يأخذ من يد عثمان وهو على المنبر عصا رسول الله ﷺ التي كان يخطب بها فيكسرها)؟ وهل تساس الجماهير بمثل هذا الحلم؟ أن قائلاً لو قال: كان هذا منتهى الضعف فن عثمان رضي الله عنه، وكان بعيداً كل البعد عن سداد السياسة الرشيدة الحازمة، لو قال ذلك لم يبعد عن وجه الحق. كما أن المؤلف أطال الدفاع عن عثمان في إيثاره أقاربه، واختصاصهم بعطفه وبره دون أهل السابقة من الإسلام، ولكنه مع ذلك لم يقرطس الهدف، ولم يبلغ الغاية. ولا يزال هذا الأمر يحيك في النفس وقد أعجبني من المؤلف أنه قدم بين يدي القول فيما كان بين علي وعثمان اعتذاراً عن معالجة هذا الموضوع، والأخذ فيه (هذا الفصل لم يكن القلم فيه بليل الريق، طيع المقادة، ولكنه كان وقافاً، كثير التلفت، كثير الحذر، وأنا أشهد الحق أني عذرت قلبي، وعذرت نفسي، فإن عذرني الناس فنعما هي، وإن أبوا فما أحب أن أرضيهم بسخط الله تعالى وسخط البحث، وإن من حق البحث على الباحث أن يترفق به في المضايق، وأن ينشد معه في الخطو عند المزالق، وأن يتثبت عند اشتجار الآراء، واختلاف المذاهب، وتضارب الروايات) ومهما يكن من شيء فلا يسعنا إلا أن نشهد للمؤلف الفاضل بالبراعة، وقوة الحجة، وسداد المنطق، وهي فضائل شاعت في أكثر فصول الكتاب، وحسب مؤلف في هذه الفتن العمياء من تاريخ الإسلام أن يكون هذا نصيبه، وأنه لنصيب قل من الرجال من يظفر به.
علي العماري