مجلة الرسالة/العدد 736/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 736 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 11 - 08 - 1947 |
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بلقم الأديب وهبي إسماعيل حقي
(مهداة إلى صديقي وأخي السيد محمود علي عمرو مع
تقديري وإعجابي. . . . . .)
كان الشيخ إدريس بن أحمد يقيم في إحدى المدن الإسبانية الجميلة التي يزدان بها شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ذلك البحر الذي كان يحق أن يطلق عليه في ذلك العهد (بحر المسلمين) فقد كانت مياهه تتدفق في أراضي إسلامية، وكانت أعلام المسلمين تخفق على شاطئيه بالعدل والحرية والإخاء والمساواة، وتملأ القلوب هيبة وتوفيراً للمؤمنين الذين عمرت أفئدتهم بالثقة بالله فملكوا الدنيا ودان لهم العالم.
وكان منزل الشيخ في الجانب الساحلي من تلك المدينة كعبة القاصد وملاذ المحتاج، وقد كان الشيخ واسع الغنى وافر الثروة، وقد اصطلح الناس على تسميته شيخ الأندلس لغناه الفاحش وثرائه العريض ولم يكن قد ورث الغنى عن آبائه ولا عن أجداده ولا كان من الذين ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب كما يقول المثل، ولكنه جمع هذه الثروة بجده وكده حتى أضحى الذهب يسيل من بين أصابعه.
ولد إدريس من أبوين فقيرين في جزيرة العرب، ونشأ في ظلال الحاجة وتربى في ربوع الفاقة، لكنه نشأ قوي الإيمان، صادق العزيمة، متين الخلق، وخاض معترك الحياة، لا يعرف الملل ولا يتطرق إليه اليأس حتى وصل إلى قمة المجد في الغنى والجاه ولكن في غير وطنه؛ فقد أبى الحظ أن يبتسم له في جزيرة العرب، وضن عليه حتى بلقمة الخبز يتبلع بها، فكان ينتقل بين المدن والقرى يبحث عن عمل يستدر منه قوت يومه، ولكن نحس الطالع كان يلازمه أينما حل، وسوء المصير كان يتعقبه حيثما سار، ومع ذلك لم يدع اليأس يتسرب إلى قلبه وكان دائماً يردد في ثقة المؤمن، وإيمان الواثق قول الله تعالى (ولا تيئسوا من روح الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) وكان يحس في ترديدها برد الراحة واطمئنان القلب، وهدوء البال، وينسى ما يلاحقه من فشل ثم يبدأ جهاداً جديداً، وهو أتم ما يكون يقيناً أن الله سيجعل بعد عسر يسراً.
ولما طرق كل المناطق في جزيرة العرب، وانسدت في وجهه كل أبواب الرزق، شخص إلى الشام ليجرب حظه هناك، ولينتظر قضاء الله فيه. . . ولكن الدنيا وانته في (سوريا) وتحول فيها مجرى حياته، فقد كان يؤدي صلاة الظهر في أحد مساجد دمشق فلما قضيت الصلاة، وانتشر الناس في الأرض، ولم يبق في المسجد إلا أفراد معدودون، انزوى في ركن من أركانه بجوار أحد الأعمدة، وغرق في بحر من التأمل والتفكير، فاسترعى نظره إلى رجل إلى جواره، مهيب الطلعة، طلق المحيا، جسيم وسيم، فانتقل إلى جواره، وبعد أن حياه قال له:
- من أي بلاد الله أنت أيها الشيخ؟ فليس على وجهك طابع هذه البلاد؟. فقال له إدريس:
- إني من بلاد الحجاز يا سيدي، وقد صدقت فراستك.
- ولماذا نزحت إلى هنا؟
- لأبحث لي عن عمل أرتزق به
- أتجيد القراءة والكتابة؟
- ما أنا بقارئ ولا كاتب.
- وماذا تمتهن إذن؟
- إني ماهر في تربية الخيول وركوبها، وحاذق في الرماية وإصابة الهدف.
- عجيب جداً! كيف تكون كما تقول ولا تجد لك عملاً؟
- هي إرادة الله يا سيدي، وليس هذا عملاً مربحاً عندنا، وعلى المسلم أن يرضى بما قسم الله له، وأن يكد ويسعى في طلب العيش من وجه حلال، وما وراء ذلك فالأمر موكول فيه لله عز وجل.
- اسمع يا أخي!. . إنني غريب عن هذه الأوطان، وقد جئت هنا للتجارة، وسأرجع إلى (الأندلس) وطني ومسقط رأسي بعد أيام قلائل، وسأكون سعيداً إذا رافقتني إلى بلادي وقبلتأن تعمل معي.
- إني أقبل شاكراً، ولكن أي عمل تكل إلي أداءه؟
- قد سمعتك تقول آنفاً إنك فارس مبدع، وراشق ماهر. سيكون هذا عملك، لأني سأنيط بك حراستي في حلي وترحالي.
- ستجدني أن شاء الله صابراً، ولا أعصي لك أمرا.
- ذلك ما كنا نبغي.
ولم تمض إلا أيام تعد على أصابع اليد حتى كان إدريس يرافق القافلة الصغيرة إلى بلاد الأندلس، ويقضي النهار في حث الإبل على مواصلة السير. . . فإذا ما جن الليل. . . وادلهمت جوانب الكون، حطوا رحالهم، ونصبوا خيامهم، وامتشق إدريس ورفاقه سيوفهم، وقضوا الوقت في حراسة المتاع، والحفاظ على التاجر.
وبعد رحلة شاقة، وسفر، بلغت القافلة مرفأ على الشاطئ الإفريقي المواجه لبلاد الأندلس، اعتاد التاجر أن ينتقل منه إلى الشاطئ الآخر، وكان إدريس - طوال هذه الرحلة - مثالاً للرفيق المخلص، والحارس الأمين، دائب السهر على خدمة سيده، مجسدا في تهيئة الراحة له، حتى انتزع إعجابه ومحبته، ونال رضاه وتقديره، ولقد كان للبيئة الإسلامية التي تربى إدريس فيها كبير الفضل في غرس الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة في نفسه، فنشأ مخلصاً أميناً، وفياً كريماً، فانطوت القلوب على محبته، وامتلأت النفوس له احتراماً.
ولقد تهيأت الفرصة التي تجلى فيها إدريس على حقيقته، وطبعت في قلب سيده حبه في أعنف مظاهره؛ فقد حطت القافلة الرحال على نصف ميل من المرفأ في ليلة اعتكر ظلامها، وخبا نجمها، وجعلت خيمة التاجر في الوسط، وأحاطتها بسائر الخيام وكان عليها أن تعسكر في هذا المكان أسبوعاً كاملاً إلى أن تعود السفينة التي تتنقل بالمسافرين من شاطئ إلى آخر، وكان التاجر قد طال غيابه عن أهله ووطنه، فحمل في عودته كثيراً من التحف النادرة، والهدايا الثمينة، والأواني الذهبية، ليتحف بها ذويه وعشيرته الذين برح به الشوق إليهم، وكانوا جميعاً يقضون النهار في الراحة ورعي الدواب، ويقضون الليل في السهر والحراسة.
وإنهم لفي أصيل يوم من الأيام يتأهبون لعملهم الليلي إذ لاح لهم عن بعد نقطة سوداء، فوق صفحة الماء، وكانت تزداد كبراً، كلما ازدادت منهم قرباًن ولقد تبين فيها حراس المرفأ سفينة صغيرة، (للقراصنة) فبذلوا جهدهم لأبعادها عن الشاطئ، ووزع الضباط رجالهم على الساحل، ليتبادلوا الحراسة طول الليل، وكذلك فعل رجال القوافل الذين كانوا في انتظار السفينة لتقلهم إلى الشاطئ الإسباني عندما علموا أن المركب (للقراصنة) وأنهم سينالون منهم لا محالة. . .
وقد أمر التاجر رجاله أن ينظموا خطط الدفاع والمقاومة، وان يتبادلوا مع إدريس المشورة والحراسة، وكان الظلام قد أسدل ستراً كثيفاً على الخيام، ولف الكون هدوء شامل، عندما فوجئ القوم بضجة وجلبة على الشاطئ، وعلموا أن القراصنة أقرب إليهم من حبل الوريد، فقد أرسوا سفينتهم، ونزلوا إلى الأرض في مكان لم يقدر الحراس أنهم يستطيعون النزول فيه فأهملوا حراسته.
كان إدريس قد غادر موضعه إلى ظاهر الخيام ليقضي حاجته، وترك رفاقه يحرسون المتاع، وقد أخذوا الأهبة وأتموا الاستعداد، ولكن القراصنة كانوا حريصين على أن يصلوا إلى أغراضهم عن طريق الحيلة من غير أن يستعملوا سلاحاً، أو يريقوا دماء؛ فهم يعلمون أن المسافرين يكثرون من الأتباع لحراستهم ومرافقتهم، وأن هؤلاء الأتباع يستهويهم المال، فنادى رئيس القراصنة وقائدهم قائلاً:
- أيها الحراس! يا من ترافقون القوافل من أجل المال! إني أعدكم أننا سنشاطركم متاع هؤلاء التجار إن أنتم ألقيتم السلاح وعاونتمونا في حزم وحمل الأمتعة إلى الشاطئ وسنتحملكم على سفينتنا إلى حيث تريدون.
(يتبع)
وهبي إسماعيل حقي
عضو البعثة الألبانية بالأزهر الشريف