مجلة الرسالة/العدد 735/تعقيبات
→ أنغام الحب | مجلة الرسالة - العدد 735 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 04 - 08 - 1947 |
تراث المعري:
منذ ثلاث سنوات تألفت في وزارة المعارف لجنة من الأساتذة الأفاضل: إبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون ومصطفى السقا وعبد الرحيم محمود وحامد عبد المجيد لتقوم على بعث تراث الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري ونشر مصححا، وشرحه شرحا يقربه من الأفهام، وهو عمل جليل أشدنا به على صفحات الرسالة من قبل، وباركنا ما بدا من اثر ذلك في همة اللجنة وعنايتها. وإني اشهد الله أن أعضاء اللجنة الأفاضل قد تجردوا لمهمتهم في عزيمة صادقة، وعكفوا عليها في صبر العلماء وشغفهم بمكاره الدرس والمراجعة، فانفردوا في غرفة منعزلة بدار الكتب المصرية بين أكداس من المخطوطات ومجفو الطوامير يراجعون ويحققون ويبذلون ماء عيونهم لإلقاء النور على ذ لك التراث المدفون فكأنهم جماعة العلماء الذين يعكفون على الأبحاث الذرية في أمريكا. . .
وقد استطاعت اللجنة أن تخرج في هذه المدة كتاب (تعريف القدماء بابي العلاء) والجزأين الأول والثاني من (سقط الزند) وما له من شروح وهي الآن بصدد إخراج الجزء الثالث منه، وستتمه بجزء رابع يتضمن فهارس كاملة ثم تأخذ بعد ذلك في إخراج ديوان (لزوم لا يلزم) وما عليه من الشروح. . .
ولكني ألاحظ أن اللجنة تمضي بطيئة في أداء مهمتها وإنجاز عملها وقد سالت فقيل لي أنها تحتاج إلى أكثر من عشر سنوات للفراغ من هذا العمل إذا سارت بهذه الخطوات، ومعنى هذا أنها ستخرج ذلك التراث للجيل القادم على أن اللوم في هذا البطء لا يرجع إلى اللجنة بل أنها نفسها تشكو ذلك وتحرص على أن تسير في عملها بخطى واسعة، وإنما اللوم على نظام دار الكتب لان المطبعة لا تسعف اللجنة في إنجاز الطبع والإخراج بحجة كثرة العمل، وذلك في الوقت الذي تجد فيه هذه المطبعة الوقت الواسع جدا لإخراج مؤلفات مدير الدار ومؤلفات المؤلفين الذين يتاجرون بمؤلفاتهم مع أن الواجب يقضي بان تخصص مطبعة الدار لإنجاز مطبوعات الدار.
ومسالة أخرى تدعو إلى العجب، وهي أن ما تخرجه اللجنة من آثار المعري تضع وزارة المعارف يدها عليه وتنقله إلى مخازنها ولا تسمح إلا بإهدائه لذوي الجاه في الدولة ممن ل يعنيهم المعري وتراثه في كثير ولا قليل، فكأني بالوزارة قد قررت بعث تراث المعري لتنقله إلى قبر جديد.
كلا! أن هذا التصرف ليس بالعمل الذي يؤثر في خدمة الأدب، وقد أحسنت الوزارة من قبل يوم أن قامت بطبع ديوان حافظ إبراهيم وعرضه للبيع بنفقات الطبع، فهل لها أن تؤثر هذا الصنيع في بعث تراث المعري ونشره والإفادة به؟!
ولكنهم المعلمون:
نشرت إحدى الصحف خبرا زعمت فيه أن المعلمين ألفوا عصابة من بينهم لبيع أسئلة الامتحانات العامة، وان التحقيق كشف عن أمور خطيرة من أعمال هذه العصابة، ولما كانت تلك الصحيفة قد هولت في إيراد الخبر وتهجمت به على كرامة المعلمين، فقد أذاعت (جمعية المعلمين) بيانا على الصحف ترد على هذا التهجم وتقول (وما كان للصحيفة المذكورة أن تتسرع بهذا الاتهام حتى ينتهي التحقيق وتظهر براءة البريء أن كان بريئا وذنب المذنب أن كان مذنباً. . .).
وأنا لا يعنيني هنا تلك الواقعة، ولا تصحيحها ولكني اشهد الله أهي لا افهم (براءة البريء أن كان بريئا) ولا اعرف ذلك في أسلوب عربي إلا أسلوب الصحف التي تقول: (وتزوجها زوجها وعاشرها معاشرة الزوجية)
ولو أن هذا التعبير وقع من جماعه المهندسين مثلا لأغضينا عنه، وقلنا انه أمر ليس من صميم صناعتهم فلا لوم عليهم ولا ابتغينا له اوجه التأويل ولكنهم المعلمون وصناعتهم العلم، وهم الذين يتعهدون أبناءنا في تعليم اللغة والبيان فيضيعه الأبناء المساكين (ويا ضيعة اللغة والبيان) إذا كانت لغة المعلمين من نحو (براءة البريء أن كان بريئا)
كان آباؤنا أبر واكرم:
نشرت مجلة (المسامرات) في عددها الأخير صفحة مصورة عن إنشاء بيت في لندن لتأجير ما يلزم للعرائس من الثياب ليلة الزفاف نظير مبلغ خمسة جنيهات وذلك تخفيفا عن الفتيات الرقيقات الحال واللائي لا يستطعن الحصول على الثياب اللائقة بهن نظرا لشدة قيود التموين التي لا تزال قائمة في إنجلترا، وقد أشادت المجلة بهذا الصنيع كما أشادت به المجلات والصحف الإنجليزية وقالت انه عمل مشكور أعاد الإشراق إلى وجوه العرائس وادخل السرور والانشراح على قلوبهن.
قلت أين هذا من مآثر أبانا السابقين ومكارمهم التي من هذا القبيل فقد كانت ابر واكرم وكان عملهم مما يدل على عراقة الروح الإنسانية في نفوسهم.
فمن ضمن وثائق الأوقاف الإسلامية وثيقة بوقف خيري في مكة المكرمة لإعارة الحلي وأدوات الزينة للفقراء ومتوسطي الحال الأعراس والأفراح بحيث يستعيرون منه ما يلزم حتى تظهر العروس في المظهر اللائق جبرا لخاطرهم ثم يرد مكانه بعد مضى مدة الفرح المعتادة، كما كان في مكة أيضاً وقف لإعارة المفروشات وأدوات السفر في إقامة الولائم والحفلات.
وذكر ابن بطوطة في رحلته وقفا في دمشق اسمه وقف (الزبادي) وهو مكان توجد فيه الأواني الفاخرة من الصين وقفها أصحابها بحيث إذا كسر خادم آنية مطبخ سيده وخاف أن يضربه السيد أو يحسم ثمنا من أجرته قصد إلى ذلك المكان وسلم من الآنية المكسورة وتسلم بدلها صحيحة وقد علمت أن في فاس وقفا مثل هذا الوقف وكذلك في تونس.
ومن الطف ما يتصل بهذا وقف في فاس خصص ريعه لمن وقع على ثيابه زيت من الفقراء أو مادة تذهب ببهجته وجدته كالحبر، فيأخذ منه نقودا ويشتري ثوبا جديدا مماثلا لذلك الثوب الذي كان يلبسه.
وفي تونس وقف لتزويج الشابات الفقيرات وآخر لختان الأولاد الفقراء وإعطائهم كسوة ودراهم وثالث لتوزيع الحلوى على المحتاجين بالمجان في شهر رمضان.
وفي مراكش مؤسسة اسمها (دار الذمة) عليها أوقاف كثيرة وهي دار تقصد إليها النساء اللاتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وليس لهن عائلات فيقمن فيها أكلات شاربات متمتعات بكل وسائل الرفاهية حتى يذهب ما بينهن وبين أزواجهن من الجفوة ويعدن إلى دار الزوجية.
وفيها أيضاً مكان اسمه (سيدي فرج) عليه أوقاف كثيرة تدر الأموال الوفيرة وقد أوقفها أصحابها لإيواء المجاذيب ولتجهيز الموتى من الفقراء وتكفينهم وشراء ملابس توزع على الفقراء في أول الشتاء.
وروى الكاتبان الفرنسيان الأخوان (جان وجيروم تارو) في رحلتهما إلى مراكش انهما شاهد هناك مؤسسة لا يوجد مثلها في الدنيا وهي دار كبيرة فسيحة تتسع لستة آلاف ممن أصيبوا بمحنة العمى من الفقراء فيقيمون فيها يأكلون ويشربون ويقرؤون، ولهم أنظمة وقوانين يسيرون عليها، وتشرف على شئونهم إدارة كبيرة تدبر لهم كل وسائل الراحة والرفاهية. . .
وفي أوقاف مصر وقف لسكنى الأيامى الفقيرات، ووقف أخر لكسوة أولاد الفقراء وثالث لإطعام الكلاب التي ليس لها أصحاب. . .
فهذه وأمثالها كثير مما يطول سرده وعده من مآثر أبانا الكريمة وأريحيتهم النبيلة التي كانوا يبذلونها استجابة لداعي الإنسانية وتلبية لنداء الخير والمروءة، وما كانوا يرجون عليها أجرا إلا ثواب الله وحسن جزائه، فكل ما يجري الآن من صنائع المدنية الحديثة في الترفيه عن الفقراء وإدخال السرور على نفوسهم لا يعدل قليلا من ذلك الذي كان.
والواقع أن روح الإنسانية التي تملكت أبانا السالفين ووصلت قلوبهم بقلوب هي التي وقت المجتمع الإسلامي على تطاول العصور من الهزات الاجتماعية العنيفة، ومن الثورات التي تصطدم بها النفوس المحرومة على أهل السعة وأصحاب والاموال، وليس من المعقول أن يثور الفقراء أو ينقموا السعادة على الأغنياء ما داموا يجدون في أموالهم الحق للسائل والمحروم. . .
(الجاحظ)