مجلة الرسالة/العدد 734/القصص
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 734 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 28 - 07 - 1947 |
اشتراك في الإثم. . .
للشاعر الفرنسي القصصي بول بورجيه
بقلم السيد كمال الحريري
لقيت في ميلان على رصيف المحطة (آدم ريموند) بينما كنت اصعد إلى قطار من تلك القطر التي يتبجح الإيطاليون بتسميتها (البرق). بصور أن هذه القطر لا توصلك في أقل من سبع ساعات إلى بلد لا يستغرق الوصول إليه أكثر من خمس. ماذا، أتتسخط أتتذمر؟؟ إنك إن تفعل يجيبوك بابتسامة رقيقة لا تقاوم (ذلك هو الحظ الإيطالي! أيسخرون من أنفسهم أم يستهزئون بك؟؟ مهما يكن من الأمر فأنت مجبر على أن تغتفر لهذا القطار (البرقي) استراحاته المستمرة على طول الطريق ليتسلم حزم البريد من كل محطة. ومع ذاك ففيم الحنق والإنكار وأنت في رحلة لذيذة إلى (جه ن) لمشاهدة (القصر الأحمر) و (القصر الأبيض)؟ ذلك أني كنت أقصد (جه ن) حين دلفت إلى (آدم ريموند) وكأن قاصدا إليها أيضا فسألني:
- أترغب في مرافقتي يا صديقي؟ فأجبته وأنا أتقدمه في صعود القاطرة (ليس احب إلي من هذا) مع أني لم اكن مخلصا في قولها، لا لأن شخص (ريموند) كان مقيتا إلى، فهو فتى رقيق الحاشية ظريف الطبع، ما أنكرت منذ العشرين عاماً التي مرت على تعارفنا شيئا من علاقتنا الودية معا، رغم اختلافنا في الذوق والمنزع. زد على ذلك أنه حديث بارع ظريف الحوار له من ثروته الفائضة عن حاجاته ما يسمح بالارتحال والسياحة. ولقد ساح فعلا في بلاد كثيرة وشاهد ممالك مختلفة على أنه مهما كان من شأنه فهو (باريسي) وعندما لا يستطيع المرء أن يختلس من شتائه غير عشرين يوما يخصصها للاستحمام في حمامات إيطاليا، يتخوف ويتهرب من كل ملاقاة من شأنها أن تقذفه ثانية إلى (باريسه) المتروكة.
قص علي (رايموند) قصة كانت من التأثير على بحيث أريد أن أقصها بدوري، لأنها تتعلق بسلسلة من (حالات الضمير) وبالرغم مما قاله عنها (باسكال) فإن كل ما في الحياة الإنسانية من خير وجمال إنما يصدر عن هذه (اليقظات الوجدانية) وعما تؤدي إليه من حلول. لقد كان رفيقي يسرد على هذه الحكأية، على حين يطوي القطار المسافة من (نوفي) حتى (سمبيه دارينا) في هضاب مرتفعة متعوجة على طول الوادي الضيق الذي تتلوى فيه (سكرفينا) الموحشة ولقد كنا نتبادل على مصادفات الطريق كثيرا من المناسبات والأحاديث، حين طرح على هذا السؤال العارض البسيط:
- أين تنزل في (جه ن)؟
فسميت له فندقا خارجا بعض الشيء عن منطقة أشباهه من فنادق المدينة. كنت أفضله لبستانه الفينان الواسع.
فقال (رايموند).
- يؤسفني إذا أننا سنفترق فكر يا صديقي في أن هذا الفندق يثير في نفسي ذكرى مؤلمة، وأني لأتطير أبدا من العودة إلى مكان جرى لي فيه حادثة مكروهة مزعجة. حادثة؟؟ إن هذا التعبير مجاوز حده. ولكن مع ذلك. . .
وسكت قليلا ثم قال: أتحب أن اذكر لك هذه الحادثة، خصوصا وأني ارغب في معرفة ما عساك تفعله لو كنت محلي آنذاك؟ لسوف أبدل لك أسماء أبطال القصة، وبهذا لا تعلم عن هويتهم شيئا. ثم ساق لي رايموند القصة فقال:
مضى على هذه الواقعة التي أنا بصددها خمسة عشر عاماً، وكأن ذلا لأول زيارة ازور فيها (جه ن) هبطت إذا ذلك الفندق الذي ذكرته أنت، لنفس الأسباب الني حببته إليك. وكأن الوقف خريفاً. وأؤكد لك أني زرت يومئذ جميع القصور والكنائس الشهيرة: قصر الفنان فانديك، قصر ده برينيول، سان بالبي، به ران، وكنيسة (سانت اسطفانو) و (سانتا ماريا) وتماثيل (ده سانت لورانزو) من هذا تعلم أني جواب بحق، وفي المساء بينما كنت جالسا إلى عريشة أنيقة من عرائش بستان هذا المنزل أدون بعضاً من مشاهداتي وتأثراتي اليومية، إذا برنين صوت نسائي على بضع خطوات مني في ممشى من مماشي البستان، يهزني من محلي. لقد كانت غادة تتكلم وهي تظن نفسها على التأكيد منفردة وفي نجوة من الآذان المتطفلة، وبجانبها فتى يمشي متمهلا مترفقا. وكانت جمل الحوار التي يرددانها، دارجة كثيرة الاستعمال مما يؤكد أنهما في حداثة الحب.
- كانت تقول (آه يا حبيبي العزيز. ما كنت لأجسر حتى على الحلم بهذا: إن أكون هنا بجانبك إزاء هذا البحر وتحت هذه السماء وأمامنا ساعات طويلة للمتعة واللذاذات؟؟ فأجابها صاحبها:
- أما أنا فلست أقل منك سعادة وسرورا، لأني لم أكن أحلم أن باستطاعتك الانطلاق حرة إلى هنا. . ولكن ليكن رائدنا الحيطة، ولنعد إلى النزل فأنه أمن لنا من هذا البستان المكشوف الذي ربما نلقى فيه أحدا يعرفنا، فأسالته:
- ومن يكون إذا؟ أنه لمن الممتع اللذيذ أن أنشق هذا النسيم المنعش واشهد مغيب الشمس الجميل بصحبتك.
فقال الشاب:
- ومع هذا لقد كنت احسن صنعا، من هنيهة لو أني حين نزولي الفندق اتبعت فكرة البحث في قائمته عمن فيه من السواح. فأجابته الغادة بغتة العتاب الرقيق:
- يا ضنين؛ أتراك تأسف على عدم اختلاسك مني هذه الخمس دقائق؟ آه لو كنت شغوفا بي كل الشغف، ما تعاقلت كل هذا التعاقل، ولما عرفت لك كل هذه الفطنة والحذر.
فأجابها رفيقها:
- ولكن ذلك كله من أجلك يا حبيبتي وإنما ابغي بكل جهده مستطاع أن أجنبك المخاوف والمتاعب.
فتنهدت الفتاة قائلة:
ليأت من يريد أن يأتي، أني من الغبطة والانتشاء بالسعادة بحيث يستوي عندي كل شئ. أسمعت؟؟ كل شئ لا يهمني. ومر العاشقان بدون أن يلمحا شخصي، واترك لك الآن الحكم على مبلغ اضطرابي ومبعث ارتجاجي. لقد عرفت في شخصي هذه الصبية المستهامة التي لم تستطع أن تحبس لسانها عن الجهر بسعادتها وهواها، امرأة صديق من أعز أصدقائي وأخلص خلصائي. واسمح لي أن أطلق عليه سياقا للقصة (شارل روتيه) واسم امرأته أن أحببت (مارغريت) أما شريكها في هذا الموعد الغرامي لدى هذا الفندق المتطرف الضائع (بجه ن) فقد كان مجهولا عندي. ولا بأس أن تعلم أيضا، أني أثناء ذهابي في صباح تلك الملاقاة للبحث في شباك البريد عما لي من رسائل، تسلمت من نفس صديقي (روتيه) في باريس، رسالة يقص على فيها أن قرينته تستفيد من سياحتها القصيرة بإيطاليا عند ابنة عم لها دعتها إليها كي تقضي خمسة عشر يوما في (فلورنسا) و (روما) ولقد سمى لي في رسالته اسم هذه (الابنة العم) بلهجة الامتنان والشكران على ما قدمته لامرأته الحبيبة من متعة وسرور. لم تكن عائلة صديق (روتيه) معدودة من العوائل الواسعة الثراء؛ فهو نفسه كان في مفتتح مهنة المحاماة التي بدا يلمع فيها نجمه ويعلو. أما ابنه العم فهي على العكس من ذلك: كان إيرادها في السنة مائة ألف فرنك. ولقد كنت اعلم كل هذا التفاصيل باعتباري كنت شاهدا لزواج صديقي (شارل روتيه) واذكر يومئذ أني سرت وابنة العم هذه في مركب القرآن وقد عقدت ذراعي بذراعها. دخل المحبان بهو الفندق منذ زمن، حيث أخذا هناك لا شك يتناولان الغداء على انفراد في جو من الإيناس المسكر الخطر، الذي خطره وحده يخلق اللذة والمتعة في العلاقات المستورة أما أنا فكنت ما أزال في البستان جالسا إلى المنضدة الصغيرة محدقا في دفتري المفتوح، غارقا في لجج التفكير. وبعد أن ثبت لدي انهيار بناء تلك العائلة، سأشعر بمض الألم أكثر من شعوري بعاطفة السخرية. ولكن أليس من السخر ما هو الألم مجسما؟ إن التناقض الظاهر بين حضوري مراسيم حفلة الزواج تلك، وهذا الموعد الغرامي أفعم قلبي منذ ذلك الحين مرارة غريبة أليمة. أضف إلى هذا أن (روتيه) كان عندي صديقا عزيزا. وهو يعبد امرأته التي تزوجته بالرغم من إرادة والديها. كما أني كنت اعرف تمام المعرفة أن شارل كان يرهق نفسه في العمل كل الإرهاق مناجل ترفيهها وتدليلها وأنه وهو العقيم الذي لم يرزق ولدا كان توأما إلى النسل. وأظنك لو جمعت كل هذه الأسباب جملة قدرت الاضطراب النفسي الذي أوقعني فيه ذلك الاكتشاف المفاجئ: اكتشاف المرأة المعبودة المقدسة تخون زوجها هذه الخيانة النكراء. ترى كم مضى من الزمن على هذه المغامرات؟ ثم أين التقت بهذا الفتى الذي لا اذكر أني شاهدته أو صادفته عندهم؟ وأخيراً ما هو الدور الذي تلعبه (ابنة العم) في هذه المأساة؟ أترى (مارغريت) متواطئة معها، أم أن الزوجة الخائنة استطاعت أن تجد الوسيلة لخداع ابنة العم، كما خادعت زوجها؟ وهل تكون هذه الملاقاة هي الأولى التي بات العاشقان فيها الواحد للآخر؟ من يدري لعل هذا الولد الذي يهفو صديقي إلى إيجاده مدفوعا بغريزة الأبوة النبيلة، أن يتولد ويتخلق هنا في هذا المنزل الذي أرى من خلال أغصان أشجاره، واجهته المضيئة بالنقوش والمثقبة بالنوافذ والشبابيك؟! ثم أي نافذة من تلك النوافذ هي التي تتفتح على الغرفة التي يأوي إليها الزوجان غير الشرعيين؟! كل هذه الأسئلة كانت تخطر على ذهني دفعة واحدة، ثم تتجمع كلها حول هذا السؤال الأخير، عجبا ما هو واجبي أنا؟. . . هناك حكمة هندية تعلمها جيدا كما اعلمها تقول: لا ينبغي أن تضرب امرأة حتى بزهرة، إن فكرة الشرف والفروسية التي أنغرست في أعماقنا منذ عصور بعيدة كانت من التمكن (والتسلط) على بحيث أخذت اردد في نفسي: إن واجبي هو التزامي حدود الصمت والكتمان. . . السكوت؟ الكتمان؟. . . ورحت أتخيل (شارل روتيه) كما اعتدت رؤيته غالبا منذ زواجه مكباً على أضابير (زبائنه) يستقبلني في غرفة أعماله بهذه الكلمات أو ما يماثلها: ليس لدى من الوقت ما يمكنني من مصافحتك أني لأغص بالأشغال وأرهق بالدعاوى. ومصالحي وأعمالي تزيد وتطرد يوما فيوما. وثروتي الصغيرة تنمو معها أيضا ومع ذلك لا شئ يعجز الإنسان حين يكون له شخص حبيب إليه. كنت أتمثل وجهه وكأنه قناع جمدته المشاغل وحضرته المتاعب، تضئ من خلاله ابتسامة سعيدة راضية.
يا للجمود أفي الوقت الذي ينصب صديقي جسمه ويقتل نفسه بالانكباب على العمل المرهق ليؤمن لامرأته أسباب ترفها وبذخها تسلم هذه الأخيرة زمام فؤادها وعواطفها إلى شخص آخر؟ إنها لتنفق على تجملها وتزينها مالا بعرف جبين زوجها. وكل ذلك كي تعجب رجلاً غيره وا أسفاه! وأنا نفسي، هل يجمل بي أن أسمح باستغلال أتعاب صديقي النزيهة الشريفة على هذه الصورة المخزية، من قبل هذا السارقة الخبيثة بعد أن سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت؟ أأصمت فلا أنطق؟ ولكن ذلك اشتراك في الإثم!! ومرت على الذاكرة عهود صداقتي الطويلة المدى مع شارل: فتمثلته في سن العاشرة، بقميصه المدرسي المشابه لقميصي، وتمثلت ملاهينا وألعابناً آنذاك. ثم تخيلته في الخامسة عشرة وأنا معه في سفرة قصيرة لعطلة قضيتها عند أهله في الريف. لقد كنا طالين داخليين بمدرسة (لويس كراند) ترى أكنا سعداء ذلك الصيف بانصرافنا عن مرج المدرسة البارد الضيف إلى سهل (لوار) الأخضر الممرع؟ ثم تصورت صديقي في العشرين من عمره يمارس معي خدمته العسكرية، وكيف كانت بعد ذلك حياتنا في الحي (اللاتيني) ونحن نتابع دراستنا معا في كليه الحقوق كل هذه الصحبة الطويلة التي استمرت ما بيننا أربعين سنة، والتي هي بالاخوة أشبه، ثارت بي وتمردت على هذا الاشتراك في الجرم. وفي الحق أن صمتي لا يمكن أن يوصف بأقل من ذلك. فلو فرضنا أن العاشقين اقترافا إثماً أو أتيا منكرا (ونزهتهما الحمقاء في البستان تبرر ذلك وتؤيده) فهل أجد الجرأة على أن أقول لشارل: (لقد كنت اعلم كل شئ من قبل؟. . . لئن جبهته بذلك القول ألا يسخط لأني لم أنذره من قبل؟ ولكن كيف لي بإنذاره وإعلامه؟ أفي الممكن الوشاية بامرأة؟ أمن اللائق والذوق فضحها وإشهار أمرها؟ كان لزاما على إعلام صديقي شارل برسالة عن كل شئ ولكن أليس يجدر بقلمي أن ينكسر بدلا من كتابته ما فاجأت به امرأته؟ وأخيراً أبي حاجة إلى أن أزيدك كلمة على ما ذكرت؟. . . وأظنك الآن فهمت لماذا يثير هذا الفندق الذي أمضيت فيه تلك الأمسية فريسة لتقريع الضمير، ذكرى أليمة لا تطيقها نفسي أبدا. إن نجرد شعوري بأن الخيانة وقعت على بضع خطوات مني، وأن ماري كانت بين ذراعي حبيبها، في غرفة ربما تكون ملاصقة لحجرتي كان يضيف إلى هذا الاضطراب النفسي عذابا جسيما كاد يطغى فيتحول إلى آلام لا تحتمل.
البقية في العدد القادم
كمال الحريري