الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 730/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 730/تعقيبات

بتاريخ: 30 - 06 - 1947


المسرحية الشعرية بين شوقي وعبد المطلب:

قال الشيخ محمد رجب البيومي في الترجمة التي نشرها في عدد سابق من الرسالة لفقيد الشعر والأدب المغفور له الشيخ محمد عبد المطلب: (وأحب أن أكشف عن حقيقة مطموسة، فالذائع، المشهور أن أمير الشعراء هو أول من كتب الروايات المسرحية الشعرية، فقد أصدر أولى رواياته (كليوباترة) سنة 1928، ثم أعقبها بعدة روايات مشهورة، والواقع أن عبد المطلب قد سبقه إلى ذلك بعشرين عاماً، فقد نظم في سنة 1909 وما بعدها بضع روايات شعرية ذات فصول ومناظر تمثيلية، وقد جعلها متينة الحوار، سريعة الحركة، حسنة المفاجأة، وكلها عربية بدوية، تتخذ أسماء لامعة في تاريخنا الأدبي كالمهلهل وامرئ القيس وليلي العفيفة. . . فليت الذين يرجفون بجفاف الشاعر وجموده يلتفتون إلى هذه الناحية ثم يحكمون). .

وأنا أحب أن أقول للشيخ رجب، إنه قد تجافى عن الحقيقة فيما كتب، فإن الشيخ عبد المطلب لم يسبق أمير الشعراء في هذا بعشرين عاماً ولا بعشرين يوماً، وإن رواية (كليوباترة) التي أخرجها شوقي للناس عام 1928م ليست بأولى رواياته، بل أن أول رواية مسرحية شعرية أخرجها هي رواية علي بك الكبير، فقد ألفها وهو طالب في باريس عام 1893م، ثم طبعها الطبعة الأولى بعد ذلك بسنوات وهو موظف بالديوان الخديوي، وسماها يومذاك (رواية على بك أو فيما هي دولة المماليك)، ثم أخرج بعد ذلك الرواية التي عرفت فيما بعد برواية قمبيز، كما ألف عدة روايات شعرية ونثرية لا أذكر اسمها الآن، وقد كان لشوقي رحمه الله عناية بهذه الناحية القصصية في صدر حياته، ثم انصرف عنها إلى القصيد في فنون الشعر المختلفة، ثم كان أن رد عليها شيخوخته واستغل فيها المرحلة الأخيرة من حياته مما عرفه الناس عنه، وكلنهم لم يذكروا في ذلك جهده الأول.

فشوقي (لاشك) هو أول شاعر عربي مصري قد راد هذه الناحية أمام الشيخ عبد المطلب وغيره من الشعراء، وهو لاشك قد تأثر في هذا بما وقف عليه في الأدب الفرنسي، على أنه ليس بأول شاعر عربي قد نحا هذا النحو في العربية على الإطلاق، وغاية ما حققته في ذلك رواية باسم (المروءة والوفاء أو الفرج بعد الضيق لناسج بردها وناظم عقدها الشيخ خليل اليازجي اللبناني) وهي رواية أتم نظمها سنة 1876م ومثلها سنة 1878م وطبعت الطبعة الأولى سنة 1884م، قال مقدم الراوية: (. . . وهي رواية تاريخية تمثيلية شعرية غنائية دل بها على مقدرته في النظم وسعة معرفته بالأنغام، وقد اختار موضوعها من أشهر وقائع ملوك العرب في الجاهلية وأجدرها بالتمثيل. إذ جمعت يوم البؤس والنعيم وظهر فيها الفرج بعد الضيق، وقد شخص فيها غوائل السكر وقباحة الظلم وإكرام الضيف وكرم الأخلاق عند العرب ومثل فيها المروءة في قراد الكلبي والوفاء في حنظلة الطائي والظلم في النعمان بن ماء السماء وأظهر بعد ذلك فضائل الدين المسيحي في فرضه الوفاء وحب الأعداء ولو تحت السيف. .).

والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هي أن الشيخ خليلاً قد راد أمام شوقي الأخذ بتغيير البحور وتنويع القوافي حسب تنويع الفصول والمناظر، وهي حسنة يذكرها الباحثون لشوقي، وإنما صاحب الفضل الأول فيها هو الشيخ خليل اليازجي.

وتفكهة للشيخ رجب نقول إن الشيخ اليازجي قد ابتدأ راويته بمقدمة شعرية طويلة عنونها بعنوان (خطبة الرواية)، وضمنها ذكر الفوائد التي تنطوي عليها الروايات التمثيلية، وما يجب من الشروط في تأليفها، وما ذكره الباحثون في تقسيمها، وهي (خطبة) طويلة ابتدأها بقوله:

بحمد لله أخلصت ابتدائي ... ومدح أولى الهدى والأولياء

وبعد فإنما المرآة تبغي ... لوجه المرء إذ هو في خفاء

وأخلاق الفتى أخفى وجوهاً ... عليه فتلك أحوج للمرائي

فأنشئت الروايات ابتغاء ... لهذا الأمر يا خير ابتغاء

وتلك بطبعها نوعان: إما ... على التاريخ أو ذات ابتداء

فتاريخية تدعى لهذا ... وإنشائية حسب البناء

وإنشائية الثنتين أولى ... بهذا القصد من ذات انتماء

لأن بها المؤلف لم يقيد ... بتاريخ يراعى باقتفاء

وتاريخية الثنتين يبغى ... بها تمثيل حادثه لداء

وبشرط أن يكون بها ندور ... لموضوع جدير باعتناء وأن تأتي بقبض أو ببسط ... لنفس الشاهدين على السواء

إلى آخر ذلك الشعر الذي هو أشبه بشعر المتون.

الثقافة المصرية والعنصر المصري:

وجاء من لندن أن الأستاذ أحمد خاكي وكيل مكتب البعثات أيضاً ألقى محاضرة في فرع لندن للجمعية الإمبراطورية الملكية تحدث فيها عن المظهر المزدوج للثقافة المصرية: فقال (إن الثقافة المصرية مزيج من ثقافات متعددة مشتقة من مدنيات كثيرة نهضت في مصر، ثم اندثرت بعد أن تركت آثارها في العادات والتقاليد والفكر والفن، وقد تمخضت هذه الثقافة عن نوع من الثقافة اكتسب الروح المصرية برمتها. .!!).

ثم تحدث الأستاذ المحاضر عن المصري المعاصر فقال: (إنه سليل عنصر متغلغل في عصور ما قبل التاريخ، ولم تستطع العناصر المتعددة التي احتلت مصر أن تنقضي على شيء من مظاهره ولا أن تستأصل حبه لوطنه وكراهيته للغزاة والفاتحين لبلاده!).

قالت الوكالة البرقية التي عينت بإذاعة هذا الكلام، (وقد قوبلت بالضحك ملاحظة أبداها المحاضر وهي أن المصريين استطاعوا أن يمتصوا جميع الأجناس التي جاءت إلى بلادهم ما عدا البريطانيين. . .!).

وليس من شك في أن الثقافة المصرية مزيج من ثقافات متعددة كما قال الأستاذ خاكي، وهذه حقيقة أصبحت تصدق على جميع الثقافات في جميع الأمم، فالثقافة الإنجليزية، والثقافة الفرنسية، والثقافة الإيطالية، وجميع الثقافات في مختلف الأمم كلها أمشاج مختلطة. وعندي أن امتزاج الثقافات لا يتحقق بالغزو والفتح فحسب، بل هو يتحقق أكثر بالرغبة في المعرفة واللهفة على تحصيل العلم، وبالاختلاط لتبادل المنفعة، ولولا خوف الإطالة لذكرت عشرات الأمثلة التي تؤيد هذا، على أن هذا ليس موضوع النظر، بل إني أقصد إلى الكشف عن الحقيقة فيما يعنيه الأستاذ خاكي بقوله: (وقد تمخضت هذه الثقافات عن نوع من الثقافة اكتسبت الروح المصرية برمتها) فماذا يريد بالروح المصرية؟ إذا كان يريد الروح الفرعونية وهو ما يدل عليه كلامه فإن الأمر ليس كذلك، وليس يستطيع باحث أن يدلل على مظهر هذه الروح في ثقافتنا الحاضرة، والحقيقية أن الشعب المصري القوي بروحه قد امتص الشعب العربي الفاتح، ولقد زادت مادة هذا الامتصاص عن طاقته حتى انقلبت شخصيته فإذا هي شخصية إسلامية وأذابه يبدو بهذه الروح في طليعة الشعوب العربية.

لقد وقف الشعب المصري موقف العداوة والمناجزة والنفور من جميع الشعوب التي غزت أرضه واستولت على بلاده. وكانت هذه حاله مع الرومان والفرس والترك والفرنسيين والإنجليز إلا مع العرب فإنه لم يلبث أن نظر إليهم نظرة المواطن الأصيل. وسرعان ما اختفت شخصية الشعب المصري وثقافته تحت شدة هذا الاختلاط، وكان هم مصر أن تجد نفسها في مقدمة الأمة الإسلامية، ولقد توالت الفتوح الأجنبية لمصر ولكنه ظل يغالبها بهذه الروح المكتسبة، وهي الروح التي يجب أن يعتبرها الباحث الروح المصرية وأن تكون مناط الحكم في هذا المقام. . .

(الجاحظ)