مجلة الرسالة/العدد 73/محاورات أفلاطون
→ في الأدب الدرامي | مجلة الرسالة - العدد 73 محاورات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
كتاب الأوراق ← |
بتاريخ: 26 - 11 - 1934 |
1 - محاورات أفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
تمهيد
كان أفلاطون فيلسوفاً فناناً على بعد ما بين الفن والفلسفة، فقد دون أراءه كلها في أسلوب الحوار الذي بلغ من الدقة والجمال حداً وضعه في أسمى مراتب الفن. ونحن إذ نتقدم إلى القراء بهذه الترجمة لمحاوراته، إنما نلتمس العفو عما قد تصاب به تلك الآيات البينات من تشويه. على أن القارئ إذا فقد جمال الأسلوب فلن تضيع منه بإذن الله دقة المعنى وأمانة النقل.
وهذا الحوار الذي نترجمه لك اليوم، كتبه أفلاطون ليصور به دفاع سقراط عن نفسه يوم محاكمته بتهمة الإلحاد وإفساد الشباب. ولسنا ندري إلى أي حد تطابق هذه الصورة الأفلاطونية الحقيقة الواقعة. هل احتفظ أفلاطون بألفاظ سقراط نفسها أم ما يقرب منها؟ أم أنشأها إنشاء ليعبر بها عما كان يجب أن يكون من سقراط في دفاعه؟ أم هي قصة جمعت بين الطرفين، فأثبتت ما قيل وأضافت إليه ما كان يجب أن يقال؟ وسواء أكانت هذه أم هذه أم تلك، فهي على كل حال تصور روح سقراط في الحديث تصويراً دقيقاً، وتحلل نزعته تحليلاً بارعاً، فلا يسع القارئ وهو يقرأ هذا الحوار الذي دبجته براعة أفلاطون إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه إنما يتلو عبارة تحركت بها نفس سقراط وجرى بها لسانه؛ فشخصيته بارزة في كل سطر من سطوره بروزاً لا يخطئه النظر، فأنت ترى لمحات من التهكم اللاذع الذي امتاز به سقراط في حديثه، وأنت تلاحظ روح التحدي جلية واضحة، والتحدي طابع معروف في شخصية سقراط. وسنرى كذلك في هذا الحوار تفككاً فلا تتصل أجزاؤه بصلة من منطق قوي، فكأنما أراد أفلاطون بهذا أن يكون أميناً في الصورة التي يقدمها عن سقراط؛ فسقراط لم يكن في حياته يعنى بمنطق الحديث. فهو إذا بدأ حواراً مع آخر لا يلبث أن يشعبه باستطراده من ناحية، وبالأسئلة العرضية التي يطرحها مناقشوه أثناء الحديث من ناحية أخرى، فيخرج الكلام آخر الأمر، وليس فيه وحدة تربطه أوله بآخره.
وقد تعمد أفلاطون في هذا الحوار أن يسوق إلى القارئ أبرز ما حدث لسقراط في حياته ليكون عنه فكرة متصلة، وقد كان أفلاطون في ذلك قديراً ماهراً، حتى لا يكاد يشعر القارئ أن تلك الحوادث أضيفت إضافة مدبرة، بل جاءت عفواً كما اقتضى منطق الحديث.
يبدأ سقراط في هذا الدفاع، أو إن شئت تعبيراً دقيقاً فقل يبدأ أفلاطون في دفاعه عن سقراط، بأن قسم المتهمين إلى قسمين: الرأي العام من ناحية، وطائفة من الأشخاص النابهين من جهة أخرى؛ ثم لخص للقضاة نقط الاتهام، وأخذ يفندها واحدة فواحدة. وعلى الرغم من هذا فقد حكم عليه بالموت. ولما طلب إليه أن يقترح حكماً - كما جرت بذلك عادة القضاء الأثيني - لتقف المحكمة موقفاً وسطاً بين الحكمين، أجاب في تهكم لاذع وحكمة نادرة. وانتهى الأمر وقضي عليه بالموت.
نص الحوار
لست أدري أيها الأثنيون كيف وقعت من نفوسكم خطب متهمي، أما أنا فقد أحسست لكلماتكم الخلابة أثراً قوياً أنسيت معه نفسي وإنهم لم يقولوا من الحق شيئاً. ولشد ما دهشت إذ ساقوا في غمر باطلهم نذيراً لكم أن تكونوا على حذر فلا تخدعكم قوة فصاحتي. يا خجلتهم مما يزعمون! فإذا نبست ببنت شفة نهضت لكم دليلاً على عي لساني وافتضح أمرهم، وإنهم بذلك عالمون، ولكنهم يمارون ولا يخجلون. أم تراهم يطلقون الفصاحة على قوة الحق؟ إذن لأشهدت أني مصقع بليغ. . ألا ما أبعد الفرق بيني وبينهم! فهم كما أنبأتكم لم ينطقوا كلمة صدق ولم يقولوا إلا كذباً، أما أني فخذوا الحق مني صراحاً، ولن أصوغها عبارة منمقة كما فعلوا، ولكني سأسوق الحديث إليكم عفو ساعته، ولست أشك في أنه الحق. فلن أقف يوماً بينكم أيها الأثنيون موقف الخطيب ما دمت حياً، فلا يرجن الآن أحد مني خطاباً، وعلي أظفر منكم بهذا الفضل: إن جاءت في دفاعي كلمات قلتها من قبل، وسمعها بعضكم في الطريق أو عند موائد الصيارفة أو في أي مكان آخر، فلا تدهشوا ولا تقاطعوا الحديث، لأنني أقف - وقد نيفت على السبعين عاماً - للمرة الأولى في ساحة القانون، فلم آلف هذا المكان، ولم أتعود تقاليده وطرائقه، فانظروا إلي نظركم إلى الغريب تلتمس له المعذرة لو جرى لسانه بلغة قومه ولهجة وطنه. وما احسبني بذلك أطلب شططاً، فدعكم من عباراتي وقبحها، وانظروا في عدالة القضية وحدها، وإذا حكم منكم قاض فليحكم بالعدل، وإذا نطق متكلم فلينطق بالحق.
ولأبدأ أولاً برد اتهام الطائفة الأولى من المدعين، ثم أستطرد إلى دعوى الفريق الثاني؛ فلقد اتهمني من قبل نفر كثير ولبثت دعاواهم الباطلة تتردد أعواماً طوالاً، وإني لأخشاهم أكثر من هذا الرجل (أنيتس) وعصبته، وإن كيدهم لعظيم، ولكن أولئك الذين نهضوا إذ كنتم أطفالاً فملكوا ألبابكم بأباطيلهم لأشد من هؤلاء خطراً، فهم يحدثونكم عن من يسمى سقراط أنه حكيم يسبح بفكره في السماء، ثم يهوي به إلى الغبراء، وأنه يخلع على الباطل رداء الحق. أولئك هم من أخشى من الأعداء، فقد أذاعوا في الناس هذا الحديث، وما أسرع ما يظن الدهماء أن هذا الضرب من المفكرين كافر بالآلهة. كثيرون هم أولئك المدعون، ودعواهم قديمة العهد، نشروها حين كنتم في سن الطفولة أو الشباب ألين انطباعاً. ولم يكادوا ينطقون بالدعوى حتى انطلقت تحمل عني في ذيلها السوء دون أن تجد لها مفنداً. وأهول من ذلك كله أن لبثت أسماؤهم مجهولة لا أعلمها لولا ذلك الشاعر الهازل الذي ساقته الظروف. وإنه لمن العسير أن أتحدث إلىأشخاص هؤلاء الهجائين الذين نفذوا إلى نفوسكم بما يحملون من ضغينة وحقد، صدر فيها بعضهم عن عقيدة، ثم ألقوا بذورها في قلوب الآخرين؛ فلا أستطيع أن أدعوهم إلى هذا المكان لأستجيبهم، فأنا إن دافعت الآن فإنما أدافع أشباحاً، وأستجيب حيث لا مجيب. وإني لأرجو أن تقبلوا ما فرضته لكم من قبل بأن الأعداء صنفان: فطائفة حديثة العهد وأخرى قديمته، وأحسبكم ترون صواب رأيي في أن أبدأ بالرد على هذه الطائفة الأخيرة، فدعواها أكثر عهداً وأكثر تردداً.
وبعد، فهاكم دفاعي، ولعلي أستطيع في هذه البرهة القصيرة التي تفضلتم بها أن أمحو شائعة السوء التي قرت عني في أذهانكم طوال هذا الزمن، وعسى أن أصيب توفيقاً إن كان في التوفيق خير لي ولكم، ولعل كلماتي تصادف منكم قبولاً حسناً. فأنا عليم أني مقدم على أمر عسير، وإني لأقدر مهمتي حق قدرها، فليقض الله بما يريد. وها أنذا أبدأ دفاعي طوعاً للقانون.
واستهل الحديث بهذا السؤال: أي ذنب جنيت حتى حامت حولي الشبهات فاجترأ مليتس أن يرفع أمري للقضاء؟ ماذا يقول على دعاة السوء؟ هاكم خلاصة ما يدعون: (قد أساء سقراط صنعاً، وهو طلعة يصعد البصر إلى السماء وما تحوي، ثم ينفذ به تحت أطباق الثرى، وهو يلبس الباطل ثوب الحق، ثم أنه يبث تعاليمه في الناس) تلك هي جريرتي، وقد شهدتم بأنفسكم في ملهاة أرستوفان كيف اصطنع شخصاً سماه سقراط جعله يجول قائلاً إنه يستطيع أن يسير في الهواء، وأخذ يلغو في موضوعات لا ازعم أني أعرف عنها كثيراً ولا قليلاً - لست أقصد بهذا أن أسئ إلى أحد من طلاب الفلسفة الطبيعية - ولكن شد ما يسوؤني أن يتهمني بها ملتيس. أيها الأثنيون! الحق الصراح أني لا أتصل بتلك الدراسة بسبب من الأسباب، ويشهد بصدق قولي كثير من الحضور، فإليهم أحتكم. انطقوا إذن يا من سمعتم حديثي وأنبثوا عني جيرانكم، هل تحدثت في مثل هذه الأبحاث كثيراً أو قليلاً؟ أنصتوا إلى جوابهم لتقطعوا بصدقي مما يقررون.
أما القول بأني معلم أتقاضى عن التعليم أجراً فباطل ليس فيه من الحق أكثر مما في سابقه، على أنني أمجد المعلم المأجور إن كان معلماً قديراً. فهؤلاء جورجياس الليونتي وبروديكوس الكيوسي وهبياس الأليزي يطوفون بالمدن يحملون الشباب على ترك بني وطنهم الذين يعلمونهم ابتغاء وجه الله ليسعوا إليهم، فلا يؤجرونهم وكفى، بل يحمدون لهم ذلك الفضل العظيم. ولقد أتاني نبأ فيلسوف من بارا يقيم في أثينا، حدثني عنه رجل صادفته، قد بذل للسوفسطائيين مالاً طائلاً، هو كالياس بن هبونيكوس. ولما أنبأني أن له ابنين سألته: لو كان ابناك يا كالياس حمارين أو بقرتين لما شق عليك أن تجد لهما مدرباً، فما أهون أن تستخدم مدرب الخيول أو فلاحاً يقومهما ويبلغ بهما حد الكمال في حدود فضيلتهما، ولكنهما إنسانان من البشر، فمن ذافكرت أن يكون لهما مؤدباً؟ أثمت من يدرك فضيلة الإنسان وسياسة البشر؟ حدثني فلا بد أن تكون قد تدبرت الأمر ما دمت والداً. فاجاب: (نعم وجدت. فسألته: من هو ذا وأين موطنه وكم يؤجر؟ فأجاب هو أفينس الباري وأجره خمسة دراهم) فقلت في نفسي: (أنعم بك يا أفينس إن كنت تملك هذه الحكمة حقاً، وتعلمها بمثل هذا الأجر الضئيل، فلو كانت لدي لزهيت وأخذني الغرور، ولكني بحق أيها الأثنيون - لا أعلم من تلك الحكمة شيئاً).
رب سائل منكم يقول: (وكيف شاعت عنك تلك التهمة يا سقراط إن لم تكن قد أتيت أمراً إداً؟ فلو كنت فرداً كسائر الناس لما ذاع لك صوت ولا دار عنك حديث. أنبئنا إذن بعلة هذا إذ يؤلمنا أن نحكم في غير صالحك) وإني لأحسب هذا تحدياً رقيقاً، وسأحاول أن أوضح لكم لم دعيت بالحكيم، ومن أين جاءتني الأحدوثة السيئة، فأرجوا أن تنصتوا لقولي، ولو أن بعضكم سيظن بي الهزل، ولكني اعترف أنني لن أقول إلا الحق خالصاً. أيها الأثنيون! إن لدي ضرباً معيناً من ضروب الحكمة، كان مصدر ما شاع من أمري، فإن سألتموني عن هذه الحكمة ما هي؟ أجبت أنها في مقدور البشر، والى هذا الحد فأنا حكيم. أما أولئك الذين كنت أتحدث عنهم فحكمتهم معجزة فوق مستوى البشر، لا أستطيع أن أصفها لأنني لا أملكها، ومن ظن أنها لدي فقد ظن باطلاً، وكان أشد ما يكون بعداً عن حقيقتي. أيها الأثنيون! أرجو أن لا تقاطعوني ولو بالغت في القول، فلست قائل هذا الذي أرويه لكم، ولكني سأنيب عني شاهداً جديراً بالثقة، ليحدثكم عن حكمتي - فسينبئكم هل أملك من الحكمة شيئاً؟ وإن كنت أملك، فما نوعها؟ - وأعني بذلك الشاهد إله دلفي. إنكم ولا ريب تعرفون (شريفون)، فهو صديقي منذ عهد الصبا، وهو صديقكم مذ ظاهركم على نفي من نفيتم ثم أعاد أدراجه معكم. كان شريفون كما تعلمون صادق الشعور في كل ما يعمل، فقد ذهب إلى معبد دلفي وسأل الراعية في جرأة لتنبئه - وأعود فأرجو أن لا تقاطعوني - سأل الراعية لتنبئه إن كان هناك من هو أحكم مني، فأجابت النبية أن ليس بين الرجال من يفضلني بحكمته. لقد مات شريفون، ولكن أخاه وهو في المحكمة بيننا، يؤيد صدق ما أروي.
وفيم أسوق إليكم هذا الخبر؟ ذلك لأنني أريد أن أتقصى لكم علة ما ذاع عني من سوء الذكر. لما أتاني جواب الراعية، قلت في نفسي: ماذا يعني الإله بهذا؟ إنه لغز لم أفهم له معنى! أنا عليم أن ليس لدي من الحكمة كثير ولا قليل، فماذا عساه يقصد بقولي أنني أحكم الناس؟ ومع ذلك فهو إله يستحيل عليه الكذب، لأن الكذب لا يستقيم مع طبيعته. ففكرت وأمعنت في التفكير، حتى انتهيت آخر الأمر إلى طريقة أحقق بها القول. اعتزمت أن أبحث عمن يكون أحكم مني، فإن صادفته أخذت سمتي نحو الإله لأرد عليه ما زعم، فأقول له: (هاك رجلاً أكثر مني حكمة، وقد زعمت أني أحكم الناس). لهذا قصدت إلى رجل من الساسة - ولا حاجة بي إلى ذكر اسمه - فقد عرف بحكمته، وامتحنته فانتهيت إلى النتيجة الآتية: لم أكد أبدأ معه الحديث حتى قرت في نفسي عقيدة لا تمحى بأنه لم يكن حكيماً حقاً، على الرغم من شهادة الكثيرين له بالحكمة، وعلى الرغم مما ظنه هو نفسه في حكمته، وقد جاوز به الغرور شهادة الشاهدين، فحاولت أن أقنعه بأن وإن يكن قد ظن في نفسه الحكمة، إلا أنه لم يكن بالحكيم الحق، فأدى به ذلك إلى الغضب مني، وشاطره في غضبه كثيرون ممن شهدوا الحوار وسمعوا الحديث، فغادرته قائلاً في نفسي: إني وإن كنت أسلم أن كلينا لا يدري شيئاً عن الخير والجمال. فإنني أفضل منه حالاً، لأنه يدعي العلم وهو لا يعلم شيئاً، وأما أنا فلا أدري ولا أزعم أنني أدري - ولعلي بهذا أفضله قليلاً. ثم قصدت إلى آخر، وكان أعرض من سابقه دعوى في الفلسفة، فانتهيت معه إلى النتيجة نفسها، وعاداني هو الآخر، وأيده في موقفه عدد كبير.
يتبع
زكي نجيب محمود