الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 73/كتاب الأوراق

مجلة الرسالة/العدد 73/كتاب الأوراق

بتاريخ: 26 - 11 - 1934


وخطره في كتابة التاريخ

بقلم: محمد طه الحاجري

في ذمة الأدباء من أهل هذه اللغة الكريمة للأدب العربي من ناحية، وللروح العلمية السائدة من ناحية أخرى، دين لا معدل لهم عن أدائه، ولا مترخص لهم في الوفاء به، إذ كان مرجع الأمر فيه شخصيتهم المعنوية التي يظهرون بها، والى كيانهم الأدبي الذي لا حياة لهم من دونه، والى شعورهم بالروح العلمية المتغلغلة في كل عناصر الحياة ومظاهر الوجود. ثم هو متصل فوق هذا بالقومية التي نفاخر بها ونحرص على توثيق عراها وتقوية أسبابها. ذلك هو العناية بتاريخ هذا الأدب الذي تمده خمسة عشر قرناً عناية تظهر، فيما أحسب، في كتابة هذا التاريخ، وإقامته على أسس قوية من أساليب البحث العلمي، ومناهج النقد الأدبي، والتبسط في ذلك بما يطوعه الجهد الواسع، والنفس الممتد، والعزيمة القوية، والروح العلمية المتبصرة، والرغبة المتوثبة في إقامة كياننا المصري على أقوى ما تفاخر به الشعوب وتعتمد عليه الأمم، فما أحسب أن أدب أمة من الأمم بلغ من سعة المادة، وامتداد العمر، ومجاراة الحية، ومساوقة الزمن ما بلغه الأدب العربي، ثم لا أحسب أن أدب أمة من الأمم مني بما مني به هذا الأدب من إغفال أهله أن يقيموه على أسس هذا العصر.

فتاريخ الأدب عندنا علم حديث النشأة، غض التكوين، لا يكاد يرجع ميلاده إلى ما وراء الجامعة الأولى، ولا يكاد يثبت في طريقه لما يحتوشه من أسباب الضعف، وما يعوزه من عناصر الحياة، وما يحيط به من شتى العوامل التي تثبطه وتصده وتحمل عليه بما لا يحتمله الجلد القوي بله الضعيف الواهن، وإنما هي القوى الذاتية التي تمسكه، فمن أقدس الواجبات علينا لقاءه أن نمكن له الحياة، وأن نوفر له العناصر التي يقوم بها كيانه الصحيح، وهي تتلخص في أمرين لابد منهما: تقرير الأسلوب العلمي، واستجماع المادة التي يتكون منها تاريخ الأدب العربي.

أما أول الأمرين فقد كفانا مؤونته الأستاذة الأجلاء الذين شقوا لنا ذلك الطريق، ووضعوا أمامنا معالم البحث العلمي، وبصرونا بمناهج النقد والتمحيص والموازنة وما إلى ذلك.

أما المادة التاريخية فهي العنصر الأول في كتابة التاريخ، وكلما توفرت لدى الباحث، واتسعت نواحيها، وتنوعت أبوابها، وتعددت مذاهبها، وكثرت الأيدي التي تقدمها، وأخذت تضرب في شتى جهات الحياة، وتتناول الأطراف المختلفة، كان المؤرخ أكثر توفراً على بحثه، واستضاء أمامه العصر الذي يؤرخه، فأخذ يصفه وصفاً أشبه باليقين، ويقرر التيارات الأدبية فيه تقريراً أقرب إلى الحقيقة، بعد أن يكون قد نظر في أجزاء هذه المادة نظر الناقد البصير، فجعل يوازن بينها، ويقارن بين مختلف أجزائها، وليكن هناك ما يكون من التناقض في الروايات، والتضارب بين الأقوال فذلك، فيما أحسب، أدعى إلى استبطان الحقيقة المستكنة في ثنايا هذه الاختلافات، وأقرب بالباحث إلى ثلج الصدر وبرد اليقين.

والأدب العربي يملك من هذه الناحية ثروة طائلة بالرغم من عوادي الزمن، والنكبات التي أصابت المكتبة العربية في مناسبات مختلفة، ولكنها ثروة ضائعة لا تجد من يستغلها إلا قليلاً، إذ لم يقدر لها من ينشرها من قبورها، ويبعث فيها الحياة التي تعرفها، حتى يستطاع استغلالها، وإنما هي جهود ضئيلة بالنسبة إلى عظم العمل وجلال التبعة.

ولقد تقدمنا الفرنجة في هذا السبيل حتى أخجلونا وأبهظوا عاتقنا بفظلهم، وضربوا لنا خير الأمثال بما نشروا من كتب، وما قاموا به عليها من عناية بتصحيحها وفهرستها ومقارنتها، في تواضع العالم المخلص، وهدوء الباحث المستبصر. فدلوا بهذا على روح علمية ثابتة الأساس، ومعرفة حكيمة بطرائق البحث الصحيح.

لست الآن بصدد البحث عن جهود المستشرقين العظيمة المتوالية في سبيل الأدب العربي، وإنما سبيلي الآن أن أتحدث عن كتاب من خيرة الكتب التي كادت تتلاشى في غمار القرون وثنايا النسيان وعوادي الإهمال، فنشره مستشرق ناشئ، هو المستر هيورث دن، وخلع عليه هذا المظهر الذي تتجلى عليه الروح العلمية في بهائها ورونقها وجلالها. ذلك هو كتاب الأوراق لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي المتوفى سنة 335.

والصولي إمام من خير أئمة الأدب، وكاتب من أفضل الكتاب الذين تزدهر بهم تلك الفترة من الزمن، وعالم ضليع غزير المادة، جيد الرواية، يروي عنه أبو الفرج كثيراً في أغانيه، وأستاذ جليل تخرج عليه كثير من رجالات ذلك العصر مثل أبي عبد الله محمد بن عمران المزرباني، وهمك من رجل وناهيك من عالم. وقد ترك ثروة كبيرة من الكتب الجليلة في قيمتها الأدبية والتاريخية، نقرأ بياناتها في كتب الفهارس، ثم ننطوي على أنفسنا حسرة وأسفاً على ذلك الكنز الذي طاحت به الطوائح. ولا أحسب أنه قد بقي لنا منه إلا هذا الكتاب الذي عني به المستر دن هذه العناية، وكتاب آخر في أدب الكتاب نشره منذ عشر سنوات العلامة الأثري المرحوم علي بهجت. وكان كتاب الأوراق في حكم تلك الكتب التي لا نعلم شيئاً عن مصيرها، لولا تلك الروح العلمية المتوثبة التي حفزت ذلك الشاب العالم على إخراجه للناس في ثوب علمي جليل، ومعاناة تحقيقه وتمحيصه ومقارنة رواياته، فأضاف بذلك إلى المادة التاريخية لعصر بني العباس ما هو جدير أن يضئ الطريق أمام الباحث المؤرخ في كثير من مجاهل هذا العصر ومسائله الملتوية الغامضة.

وقد نجد في ترجمة الصولي كلاماً مختلف الأطراف بين مدح وقدح، وتقدير وتشهير، ولكننا لا نشك، إذ نقرأ كتابه (الأوراق) أنه كان رجلاً عالماً يمثل الروح العلمية خير تمثيل، ويضعها فوق كل اعتبار، متثبتاً على طريقة عصره في النقد والرواية، لا يميل مع الهوى، ولا يذهب مع الخواطر، ولا يقف دون النقد والمقارنة والتمحيص.

عرض في أثناء حديثه عن أحمد بن يوسف إلى رواية تحدث ابن طيفور عنه بها، وخلط فيها، فلم يدعها الصولي تمر دون أن ينقدها بما طوع له علمه الغزير وروحه العلمية القوية، ثم كتب هذه العبارة التي نثبتها هنا لتدل على تثبته العلمي من ناحية، وعلى مظهر من مظاهر الروح العلمية في ذلك العصر، من ناحية أخرى.

(وقد رايته (يعني ابن طيفور) بالبصرة سنة سبع وسبعين ومائتين، وقدمها إلى أحمد بن علي المادرائي، وكتبت عنه مجلسين أو ثلاثة، فلما رأيته صحفياً لم أر عنده ما أريد تركته، ويعز على أن أذكر أحداً من أهل الأدب بسوء وأن أستخفه، ولكن لا بد من أن نعطي العلم حقه، ونضع الحق موضعه).

أفرأيت إلى أي حد من الإجلال والتقدير كان نظر الرجل إلى العلم والحقيقة والأدب؟

يمثل هذا الخبر الصغير الذي ينبغي أن يرجع إليه القارئ في الكتاب صفتين من أبرز صفات الصولي وكثير من علماء ذلك العصر: وهما سعة المادة، والتثبت في الرواية. وعلى هاتين الصفتين قامت عظمة السلف، وعليهما يجب أن تكون الدائم التي نقيم عليها أبحاثنا العلمية في تاريخ الأدب، فلن تغنينا كل أساليب البحث ومناهج النقد، عن سعة المادة وتوفر المصادر والتقصي فيها بكل ما يتسع له الجهد ويطوعه الإمكان.

فإذا كنا نحتفي بكتاب الأوراق، فإنما ذلك لأنه صورة لتلك الشخصية العظيمة في تاريخ الأدب العربي، ومثال من خير الأمثلة عن الطريقة الأدبية لأسلافنا في معاناة الرواية ونقدها وتمحيصها. والتوفر على الجمع والمقارنة، ثم هو فوق هذا كله زيادة في المادة التاريخية، وتوطيد لأسس البحث العلمي، بالنسبة إلى عصر من أشد عصور الأدب العربي اختلاطاً واضطراباً، وأغصها بالتيارات المختلفة، والنزعات المتباينة المتشابكة.

وهذا القسم الذي نشر من كتاب الأوراق خاص بأخبار الشعراء المعاصرين، وقد سلك الصولي في تصنيفهم مسلكاً حسناً جديراً بالتنويه، ذلك أنه راعى في ذلك أسرهم: فذكر أولاً أسرة اللاحقيين، ثم أسرة أحمد بن يوسف وزير المأمون، ثم أسرة السلمي أشجع بن عمرو. وهذا نحو جديد في التصنيف الأدبي جدير بأن يغتبط به الذين يتتبعون الصفات الوراثية المشتركة، والذين يرون في الأدب صوراً لقوانين الوراثة المقررة.

وإذا كانت هذه طريقته في عرض الشعراء، لم يتقيد بذكر المشهورين منهم، ولا حبس نفسه عليهم، وقد صرح هو نفسه بهذا الاتجاه في آخر كتابه فقال: (قد جئت بأكثر أشعار هؤلاء إذ كانوا شعراء ظرافاً كتاباً لا يعرفهم الناس، ومن عرفهم لا يعرف أخبارهم. . وإنما استقصي أشعار من لا يعرفون وأخبارهم) وكذلك كان الصولي، فقد انطلق في ذكر هؤلاء الشعراء المغمورين، وسرد أخبارهم ورواية أقوالهم وأشعارهم، مما هو جدير بالرواية، حقيق أن ننعم فيه النظر، ونستخلص منه كثيراً من الحقائق التاريخية التي قد لا تتضح في مشاهير الشعراء، فقد تقيد الشهرة صاحبها بكثير من القيود التقليدية، وتنشر حوله غشاء مصنوعاً، حتى يصبح من العصر الذي يعيش فيه، صورة كثيرة التزوير والتمويه. على حين ينطلق الشاعر المغمور في سبيله يصور من نفسه وعصره وبيئته ما وسعته الحرية في التعبير، والقدرة على التصوير.

ولعل كبار الشعراء هم صور من عبقرياتهم، أكثر من أن يكونوا صوراً لعصورهم وبيئاتهم، وما تموج به من شتى النزعات ومختلف الصور والتيارات.

فكتاب الأوراق يضعون بين أيدينا إذن مصدراً عظيم الخطر من مصادر التاريخ، ويبصرنا بكثير من الحالات التي سيطرت على الأدب في ذلك العصر، بما يكتبه عن أولئك الذين انطبعوا بحياتهم، وصوروها تصويراً حراً طليقاً من قيود الشهرة.

ومن قبل عني المفضل الضبي بجمع شعر الشعراء المقلين فخدم بذلك الاتجاه التاريخي الذي نتوجهه أجل خدمة، إذ كانت المفضليات أصدق صورة للعصر الجاهلي.

هذه ميزة شديدة الوضوح من ميزات كتاب الأوراق، لها خطرها فيما نقصد إليه من الدراسة الأدبية. ولست أتعرض الآن لشرح هذا الوجه من الخطورة، ولعله يتاح لنا فيما بعد أن ندرسه دراسة مفصلة تتسع لما لا تتسع له هذه الكلمة العاجلة.

ومما يستطرف ويلفت النظر في هذا الكتاب، أنه يظهرنا على أولية ذلك النوع من الشعر الذي يسميه الفرنسيون الشعر التعليمي في الأدب العربي، فنحن نرى أنه قد بدأ بأبان بن عبد الحميد اللاحقي، فقد صنع قصيدة سرد فيها أحكام الصيام على نحو ما نعرفه في منظومات العلوم. والظاهر أن أبان كان مضطلعاً بهذا النوع من الشعر، فقد نظم كذلك كتاب كليلة ودمنة، وكتاب المنطق، وكان ذلك فناً طريقاً. وقد ذكر الصولي أنه عاتب البرامكة على قلة عطائهم مع خدمته لهم وموضعه منهم، فأشار عليه الفضل أن يقول شعره في هجاء الطالبيين، فتذمم أبان، ثم قال قصيدة استطرفها الفضل، وهي لا شك طريفة. فقد سلك فيها مسلكاً عجباً من الشعر، إذ أخذ يجادل الطالبيين في دعواهم جدلاً فقهياً بحتاً مستنداً إلى أحكام الوراثة في الإسلام وما يقرره الشرع في حالات الحجب والهبة وما إلى ذلك. ولما جاء بهذه الأبيات إلى الفضل قال له: ما يرد اليوم على أمير المؤمنين شئ أعجب إليه من أبياتك.

هذا تاريخ نوع من الشعر كثير الشيوع في اللغة العربية، على أن لهذا فيما أحسب، بعض الدلالات الأخرى على بعض العوامل في ذلك العصر.

وعقد الصولي فصلاً عما روى في صحة دين أبان، وعندي أن هذه النصوص التي تروى في هذه الصدد عظيمة الخطورة في تحقيق المسألة الدينية في عصر العباسيين: ذلك الأمر الذي اضطربت فيه الأقوال واشتبهت فيه الظنون، واختلفت فيه منازع الرأي. ولا يزال في حاجة إلى التحقيق العلمي القائم على النقول الصحيحة والنقد المنزه البصير.

وبعد فما نستقصي في بيان قيمة كتاب الأوراق من ناحية التاريخ الأدبي، وحسبنا أن يكون هذا الكتاب زيادة في المادة التي ترتكز عليها أبحاثنا، وأن يكون واضعه أبو بكر الصولي، وهو من عرفنا، وأن ينشر نشراً علمياً خالصاً لوجه العلم والأدب. حتى نحتفي به، ونرحب بظهوره.

محمد طه الحاجري