مجلة الرسالة/العدد 724/من أحاديث الإذاعة
→ هي الحرية | مجلة الرسالة - العدد 724 من أحاديث الإذاعة [[مؤلف:|]] |
القفجاق ← |
بتاريخ: 19 - 05 - 1947 |
بين الوحوش والبهائم!
للأستاذ على الطنطاوي
أيها المستمعون الكرام. أنتقل بكم هذه العشية إلى بقعة في مصر، جمعت فيها عجائب البلدان، وغرائب الحيوان، فوضح فيها البحر بحيتانه وتماسيحه، وأفراسه وسباعه، والبر بصحاريه وغاباته، وأسوده وفهوده، ووعوله وغزلانهن وأقيمت بها الذرى المخضرة من لبنان تتفجر منها الينابيع وتتحدر السواقي، وتغني عليها البلابل والشحارير، ومدت فيها القفار والجرداء من الجزيرة تسعى فيها المها وتتسابق العير، والأحراج الملتفة من الهند تمشى فيها الفيلة، والثلوج المبسوطة من القطب تخطو عليها الدببة. وعاشت فيها الحيات والثعابين إلى جنب الحمام والعصافير، وصحبت فيها المعزى الذئاب، والثعالب الدجاج، والسباع البشر. وفيها (الجبلاية) هذا الجبل المسحور، تدخل منه إلى مسارب منحوتة في الصخر ولا صخر، وكهوف تتسلسل فيها العيون ولا عيون، وقاعات في باطن الأرض كأنما أعدت لتكون مخادع للحب أو محاريب للتأمل، وكأنما هي أحلام شاعر قد تحققت، وأمنية حالم قد تجسمت، وطرق ظاهرة وخفية تنقلك في خطوات من حر الصيف إلى برد الشتاء، ومن جلوات الطبيعة في أعراس الربيع، إلى خلوات النفس في نشوات الرؤى، تلك هي (حديقة الحيوانات).
وهي بعد هذا كله معرض للإنسان، ترى فيه طباعه وأزياءه، وخلائقه ولغاته، تسمع فيه أشتات الملاحظات، وعجائب التعليقات، تمشى مع الناس فتجد فيهم من يسير على هدى فيرى كل شيء ويقف عليه، ويخرج وما فاته مشهد، ولا ناله تعب، ومن يدع اللوحات الدالة على الطرق، والحراس المرشدين إلى المسالك؛ ويسيرعلى غير الطريق، فيدور دوران السانية، فيتعب نفسه، ولا يبصر شيئا، ولا يخرج بفائدة، فكأنه الرجل الضال الذي يترك هدى الأنبياء، وحكمة الحكماء، ويتبع عقله الأعوج وهواه، فلا يسعد في دنياه، ولا يسلم في أخراه، وتمر على حراس الحيوانات فتجدهم قد فرقت بينهم الحظوظ إذ ساوت بينهم الوظيفة، فحارس القرد والفيل والدب الأسمر، يلعب حيوانه فيقف عليه الناس، وتلقى عليه القروش، فيتسلى ويغتني، وحارس الخنزير لا يلتفت إليه أحد.
زرت الحديقة، ومشيت مع الناس أنظر كما ينظرون إلى أنواع الحيوان، وأرى فيهم أمثالها، ولكنها قد تلففت بالثياب، ففيهم أسد له بطشته وإن لم تكن له لبدته، وفيهم ثعلب له حيلته وإن لم تكن له فروته، ودب له غلظته، وحمار له غفلته، وطاووس له خيلته وذئب له عدوته، حتى وقفت على الأسد وهو يدور في قفصه متألما في صمت، صابرا في استكبار، كأنه النابغة من الناس حبسوه في (قفص) من وضيفة صغيرة، أو إفلاس شامل، أو قرية منقطعة، يلحظ الناس بطرف عينه يقول: آه، لو كنت طليقاً في البادية يا أيها أل. . . بشر! ورأيت الحارس يخرجه إلى متنزهه، إلى قفص الضيق، بعد القفر الواسع والفضاء الرحيب، يذله بعصاه، ويستطيل عليه بسوطه، كما يستطيل الفرنسي اللئيم على المغربي الكريم، ويذله بسيف العدوان وقوة السلطان، وسمعته يزأر مقيداً، كما يصيح المصلح في أمة أفسدها التقليد، فلا يفزع من زئيره إلا الصبية الصغار، ولو زأر عند العرين لخلع هذي القلوب وزلزلها حتى قفزت من حناجر أصحابها.
ووقفت على الفيل وقد تواضع، حتى غر الناس منه لينه فنسوا شدته، وهان على أحدهم حتى أركبه صبيته، وصرفه الفيال واتخذه لعبته، كما يطيع الرجل امرأته، فيضيع رجولته، ويفقد منزلته.
ووقفت على دبين متجاورين، أبيض كبير، قد اتخذوا له في قفصه من الجبس كهيئة الجليد، ووجهوا مسكنه إلى الشمال حتى يظل باردا لا تدخله الشمس، فيظنه موطنه، وموطنه هناك على حدود القطب الشمالي. . . ولكنهم لم يخدعوه، إنه ينظر فيرى قوماً لا يشبهون قومه، إذا لم تستعبدهم فئة قليلة منهم ولم تظلمهم باسم العدل، ولم تخرسهم حرية الكلام، ولم تملك دونهم كل شيء وتستمتع بكل متعة، بشريعة ماركس ودين لينين!
ودب أسمر صغير. . .
يدور الأبيض النهار كله، غضبان أسفاً لا يهدأ ولا يستريح فلا يصل إلى شئ، ويلعب الأسمر بكرة من الحديد، ويراوغ الحارس، ويضحك النظارة، كلاهما سجين ولكن هذا ينسى سجنه، وذاك يذكره أبداً، كالناس منهم من يذكر المصيبة، ويدنيها من خياله، فيراها أبداً أمامه، ومنهم من (يخادع نفسه في الحقائق) فتصفو له الحياة.
والأبيض على جمال شكله ونعومة جلده، ثقيل سمج، والأسمر على قبحه لطيف خفيف، لأن الجمال جمال الروح، لا جمال الجسد، فرب حسناء تنبو عنها القلوب، وغير ذات حسن تهواها الأفئدة، وتعلق بها العيون.
ووقفت على القردة، وهي تعيشن العمر كله مجلس لهو ولعب تقلد كما يقلد (قردة) البشر، ولكنها تقلد فيما تنفعها وهؤلاء يقلدون فيما يؤذيهم، وعلى الببغاء وهي تردد ما يقال بلا فهم، كهؤلاء الذين يعيدون علينا كل ما يقول الغربيون، وعلى الحيات وهن ناعمات الملمس، ناقعات السم، كالصديق المخادع، يخالك ليخاتلك. ويسقيك من قولة العسل وفيه من قبح مقصده الحنظل
ومررت على فئات الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها، ومطامعها ومشاربها، من كل سائر أو سابح أو طائر، مما يحار بمخلبه ونابه، كالشجاع الأبي، وما يدافع بسمه كالنمام المفسد، وما يقاتل بثقل جسمه كثقال الروح من الناس والقنفذ وسلاحه شوكه كسليط اللسان، بذئ المنطق، والسلحفاة وسلاحها درعها كالمنطوي على نفسه، المعتصم بصمته، والطاووس وهو كالمرأة سلاحه جماله وحسن منظره. . . والذي يعيش في الماء نظيفاً مطهراً كالسمك، والذي يغسل في اليوم عشر مرات كالدب، والذي لا يطيب له العيش إلا في الأوساخ والقاذورات كالخنزير، يلغ فيها كما يلغ المغتاب في أعراض الناس، وينغمس انغماس الفاسق في حمأة الفجور، وسبع البحر وهو أعلاها صوتا، وأضخمها زئيراً وأقلها غناء، وأضعفها قوة، كالجبان الفخور، والجاهل المدعي، وما ينحط على فريسته من عل كالنسر، وما يأخذها قوة واقتداراً في وضح النهار كالأسد، وما يسلك إليها المسالك المظلمة، ويتسلل صامتاً خلال الحجارة وفي أصول الجدران كالحيات، وعلى الغزلان والعصافير، وهي أبهى الحيوان فلا يقف عليها أحد لكثرتها ويقفون على حيوان قبيح لأنه نادر لأن قيمة الشيء بندرته لا بمنفعته، ولولا ذلك لما كان الهواء أرخص شئ، والألماس أغلاه.
. . . حتى إذا مررت على طائفة من الحمير محشورة في زريبة، طائفة من حمير الشارع تأكل وتهز أذنابها، تتلفت ترقب العصا تنهال عليها كما يرقب الذليل المهانة، ويعجب إن افتقدها، فلما لم ترها وعرفت أنها في أمان منها بطرت بطر حديث النعمة، وترفعت ترفع اللئيم يسود في غفلة من الدهر، ونسيت ما كانت فيه كما ينسى غنى الحرب عهد الفقر، ويأنف من السيارة الفورد وكان لا يجد عربة الكارو، ويدخل أولاده المدارس الأجنبية وكان لا يعرف طريق الكتاب
يستخشن الخزَّ حتى يلبسه ... وكان يبرى بظفره القلم
وفكرت هذه الحمير وقدرت، فانتهى بها التفكير إلى أنها لم تعد حميراً وإنما صارت بشراً، أليس في البشر (حمير)، فلماذا لا يكون في الحمير بشرا؟
ومر حمار مسكين، يجر عربة مثقلة بالحشيش لطعام حيوانات الحديقة فنظر إليها، فلما رآها. . . أجفل وارتد. . .
ما هذا؟ حمير مثله؟ إنه يفهم أن يكون في الحديقة نسور وصقور، وفهود ونمور، وزرافات ونعام، وأن يكون فيها حمير الوحش لأنها غريبة المنظر، بعيدة الموطن، نادرة الوجود، أما أن يكون فيها حمير مثله، تسمن وتخدم ولا تعمل، فهذا ما لا يفهمه أبداً.
ووقف ونهق لها يحييها فترفعت عنه، وتألمت من تطاوله عليها، ومدت شفاهها الرقيقة، وضمت آذانها القصيرة، ولوحت بأذنابها استنكاراً واستكباراً، ونسيت أصلها وتجاهلت أخاها، كما يفعل الموظف الصغير الذي يعيش بمال الأمة إذا وقف عليه أحد أبناء الأمة يسأل حاجة، أنه يظنه يسأل صدقة، أو يطلب إحساناً، أو الشرطي حين يلقى البائع السيار من أهل بلده، وترجمان المستشار حين كان يقابل واحداً من بنى قومه. . .
فلما رأى ذلك منها، بصق ومشي يلعن الحظ الذي جعل (الحمير. . .) سادة، وأقام (الناس) لهم خدما وخولا وبكى على خلائق الجنس (الحماري)، لقد ضاعت تلك الخلائق، وهبطنا حتى صرنا مثل بنى أدم، لا نعرف أقدار أنفسنا ولا أقدار إخواننا.
وجعلت أعاود الحديقة، وأكرر زيارتها، فأرى هذه الحمير محشورة في الزريبة، تأكل وتشرب، وتتعجب لماذا لا يقف عليها أحد! إنها لا تلعب لعب القردة، ولا تغنى غناء البلابل، ولا تملك هيبة السبع، ولا ضخامة الفيل، ولكن لها فنها وجمالها، وما الفرق بينها وبينها، ألا يقرأ الناس لأدعياء الرمزية ولصقاء الأدب، ولصوص البيان، كما يقرئون لأئمة البلاغة، وملوك الكلام؟ ولكن هذه (الفلسفة) لم تقنع أحداً فظل الناس معرضين عنها، لا يحفلون بها. وماذا يبتغون منها؟ وهل قلت الحمير حتى ما تشاهد إلا بقرش صاغ؟ إن الحمار يبقى حماراً ولو وضعته في القصور، وأركبته السيارات، وكسوته الحرير، وأطعمته الفستق المقشر. . .
حتى كان أمس فرأيت القائمين على الحديقة، قد عزموا على إخراج هذه الحمير منها، كي يوفروا على بنفسهم ثمن طعامها، وينتفعوا بجهدها وعملها، ويجملوا الحديقة بأبعادها عنها. . . فعلمت أن هذه آخرة كل (حمار) يتجاوز قدره، وينسى أصله، فليعتبر سائر (الحمير)!
يا سيدات ويا سادة. العفو إذا لم أجد ما أحدثكم به إلا حديث الوحوش والحمير، فالحديث عنها، أكثر فائدة وأسلم عاقبة من أحاديث الناس.
والسلام عليكم ورحمة الله.
على الطنطاوى