الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 723/من معجزات القران

مجلة الرسالة/العدد 723/من معجزات القران

بتاريخ: 12 - 05 - 1947


تفسير الآيات الأولى من سورة الروم

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

لم ينزل القران للأخبار بانتصار الروم فقط، بل للأخبار بأن المر كله لله وإنه سينصر المسلمين على ضعفهم وقلتهم في بضع سنين كما ينصر الروم. فتبشير المؤمنين بنصر الله لم يأت في الآية تبعا كما يوحي كلام المفسرين بل كان الأخبار بانتصار الروم تمهيدا للتبشير بنصر الله المؤمنين. والأخبار بغلبة الروم وحده فيه معجزة واضحة، وبيان لصدق النبوة ولكنه مع هذا لم يكن القصد الأول من نزول الآية الكريمة.

وينبغي إن نذكر هنا إنه حينما تمت الغلبة للروم وذهب هرقل إلى بيت المقدس في أعقاب ظفر توالى من القسطنطينية إلى بيت المقدس في ذلك الحين ذهب جيش إسلامي صغير إلى البلقاء - التي تسمى اليوم شرق الأردن - فحارب جيشا من الروم والعرب، وتلكم الوقعة المعروفة في التاريخ الإسلامي باسم غزوة مؤته. وقعت في السنة الثامنة من الهجرة، وهذه الغزوة التي يبال بها هرقل ولعله لم يسمع بها كانت فاتحة الغزوات الإسلامية التي نزعت الشام من سلطان هرقل وجعلته يقول وقد يئس من الشام: سلام يا سورية سلاما لا لقاء بعده. ولم يكن بين تمام الظفر لهرقل وبين تمام الهزيمة عليه في الشام وتسلط المسلمين عليها إلا بضع سنين، فبين غزوة مؤته وبين واقعة اليرموك ست سنوات من السنة الثامنة من الهجرة إلى السنة الرابعة العشرة.

لله الأمر من قبل غلبة الفرس على الروم ومن بعدها بل له الأمر قبل كل شيء وبعده لا شريك له في سلطانه. وبأمر غلب، الفرس على الروم عشرين عاما ولاء، ثم أديل للروم في بضع سنين ثم أديل للمسلمين على الروم في بضع سنين أخرى.

عل إن الله الذي له الأمر قد وضع للبشر سننا للنصر والهزيمة من سار على سنن النصر انتصر ومن أخذ بسنن الهزيمة هزم. ليس الأمر متروكا للفوضى أو الاتفاق.

ويومئذ يفرح المؤمنون - إلى - لا يعلمون.

في هذه الآية أخبار بأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله حينما يغلب الروم الفرس. فهل نصر الله الذي يفرح به المؤمنون هو انتصار الروم. هذا بعيد، وما للمؤمنين يفرحون بانتصار الروم وهم عدو لهم كسائر أمم الأرض التي كرهت هذا النور الجديد حفاظا على تراثها من أديان وأباطيل، ثم في الآية: وعد الله لا يخلف الله وعده. فهل هو وعد الله المسلمين أن ينتصر الروم. لا. بعيد كل البعد أن يقال إن المسلمين يفرحون بانتصار الروم وقد الله المسلمين، انتصار الروم، إنما الوعد لمن يعود إليه الخير من الواعد، ولم يكن للمسلمين في انتصار الروم خير.

بين جدا أن الآية تبشر المؤمنين بنصر قد وعدوه، وأنهم سيفرحون بهذا النصر في السنة أو السنين التي يغلب فيها الروم فما هذا النصر؟

رجحت من قبل أن هزيمة الروم التي اهتم بها العرب فنزلت هذه الآيات وقعت حوالي سنة 615، فالنصر الذي يفرح به المسلمون حين يغلب الروم في بضع سنين من هذه الهزيمة، هو انتصارهم يوم بدر، وكانت وقعة بدر في السنة الثانية في الهجرة أي سنة 624 من الميلاد وبين 615، 624 بضع سنين.

وقد روى أن خبر انتصار الروم بلغ المسلمين وهم في غزوة الحديبية، وكانت الغزوة سنة ست من الهجرة، وهذه الرواية مردودة بدليلين:

الأول أن بين الحديبية وبين هزيمة الروم في الشام أكثر من اثني عشر عاما ولا يقال لهذه المدة بضع سنين.

والثاني أن الحديبية لم تكن نصرا فرح به المسلمون بل كانت صلحا رأى فيه الرسول الله صلوات الله عليه وسلامه خيرا للإسلام وكانت عاقبته خيرا، ولكن المسلمين حزنوا له حيثما وقع ورأوا فيه ذلا لهم إذ رجعوا عن مكة وقد خرجوا لدخولها والاعتمار بها.

على أن انتصار المسلمين، وظهور الإسلام قد بدأ بالهجرة وتوالى انتشار الإسلام، وانتصار المسلمين في الوقائع من بعد. فجائز ألا نخص النصر الذي يفرح به المسلمون بوقعة واحدة أو حادثة معينة، بل نقول قد وافق انتصار الروم أول عهد ظفر فيه المسلمون وعز دينهم وأول انتصار للروم وقع سنة الهجرة سنة 622 م كما أسلفت.

تضمنت الآيات خبرين عن المستقبل صادقين، انتصار الروم وانتصار المسلمين، وتضمنت كذلك أنهما يقعان في وقت واحد.

(ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) ولكن مشيئته جرت على أن ينصر من يأخذ بوسائل النصر، وفي القران الكريم: (ولينصرن الله من ينصره). (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللهينصركم ويثبت أقدامكم).

فنصر الله لا يؤتاه من أساء عملا، أو قعد عن التوسل إلى النصر بوسائله، أو أخذ بأسباب الهزيمة، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا.

(وعد الله لا يخلف الله وعده).

هذا هو الوعد الذي في قوله: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وهو مطابق لوعد الله العام وسنته الدائمة أن ينصر المؤمنين ويؤيد المجاهدين، ويمكن الصالحين، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات - إلى - فأولئك هم الفاسقون). (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). (الذين إن مكناهم في الأرض - إلى عاقبة الأمور).

فلا يقعد أحد ويرجو ثواب الساعين، ولا يفرط وينظر جزاء المجدين ولا يقصر ويبغ أجر المجاهدين، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى - إلى - الأوفى.

(ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى - غافلون).

أكثر الناس لا يعلمون سنن الله في خلقه، ونصره المؤمنين وتمكنيه الصالحين وهم غافلون عن القوانين الإلهية، والسنن التي يسير الخالق عليها عباده. وما قدره لأهل الخير وأهل الشر، وأنصار الحق، وأنصار الباطل. غافلون عن أن لله وعداً وأن وعده لا يخلف وسنته لا تبدل. عليها سارت الأمم، وتعاقبت الدول، وتقلبت الأمم، وتغيرت الجماعات، ولم تتبدل أو تتحول. أكثر الناس في غفلة عن هذا. (لم يتفكروا فيها ولم ينعموا النظر وأخذوا الأمور بالظن، وقاسوها بالوهم)، (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).

(إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).

أكثر الناس لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، أمور من المحسات عرفوها بالممارسة، والتعود، أدركوها بالتقلب في المعاش، والتجربة. وهم في غفلة عن الحقائق الكبرى، التي تتصل بالمبدأ والمنتهى والقوانين التي تسير الناس في الحياة، والتي تقضي بين الحق والباطل والخير والشر، وتفصل بين أمة مصلحة وأخرى مفسدة، وجماعة يغلب فيها الحق، وأخرى يسود فيها الباطل. وهم في غفلة عن الآخرة وما فيها من جزاء عادل، وقصاص حق.

عبد الوهاب عزام