مجلة الرسالة/العدد 723/من أحاديث الإذاعة
→ من معجزات القران | مجلة الرسالة - العدد 723 من أحاديث الإذاعة [[مؤلف:|]] |
الذكرى العاشرة للرافعي ← |
بتاريخ: 12 - 05 - 1947 |
السعادة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت أقرأ في ترجمة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر، أنه كان لجاره ديك، قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك، فأزعجه عن عمله، وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقا له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجد بعده من لذة وراحة، ففكر في آمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه. . . .
. . . . ودخل الخادم بالطعام وقال معتذرا، إن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح!
فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح، وسعد به وهو لا يزال يصيح، ما تبدل الواقع ما تبدل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ونلجها من غير بابها؟ إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك، لأن الأرض مملوءة بالديكة، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسد إذ أننا عنها إذا لم نقدر أن نسد أفواهها عنا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهواءنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل الأرض بسيرها على الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تسمع الموتى، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة، وخطوة ثراها خفيفة. فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي. فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي. فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟ ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره، وأن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد أقوى وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت، لأنك وجهت إلى هذا حسك، وأدخلته نفسك فسمعته على خفوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأغفلت ذاك وأخرجته من نفسك فلم تسمعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات فلماذا لا تصرف حسك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك. ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقبلته باختيارك، كما يدخل الملك العدو قلعته بثغرة يتركها في سورها. فلماذا لا نقوي نفوسنا حتى نتخذ منها سورا دون الآلام؟
أيها السادة المستمعون:
إني أسمعتكم تتهامسون. تقولون: (فلسفة وأوهام). نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذيانا. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام:
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني فكأنه ما حمل شيئا، ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد فيتشاءم هذا ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويحكم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكم فكره، فإذا لم تنجه من الموت حيلته، لم يقتله قبل الموت وهمه. . .
وهذا بسمارك رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خل فكره، وساء تدبيره. وكان يوما في حرب فنظر فلم يجد معه إلا دخينه واحدة ولم يصل إلى غيرها، فاخرها إلى اللحظة التي يشتد عليها فيها الضيق ويعظم الهم، وبقى أسبوعا كاملا من غير دخان، صابرا عنه أملا بهذه الدخينة فلما رأى ذاك ترك التدخين، وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. . .
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعبانا، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء فكانوا يدارون الضحك حياء منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين. فلا يصدق.
حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير النفسيات، قد سمع بقصته، فسقاه مسهلا وادخله المستراح وكان قد وضع له ثعبانا فلما رآه اشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس العافية ونزل يقفز قفزا، وكان قد صعد متحاملا على نفسه يلهث أعياء، ويئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبدا.
ما شفي الشيخ لأن ثعبانا كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعبانا كان في رأسه وطار، لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وان في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى فيوقظها الخوف ويوقظها الفرح؛ ألم يتفق لواحد منهم أن يصبح مريضا، خامل الجسد، واهي العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حية تقبل عليه، ولم يجد من يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبا، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هده الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كرسيا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له انه قادم الساعة من سفره، أو كتابا مستعجلا من الوزير يدعوه إليه ليرقي درجته، فأحس الخفة والشبع، وعدا عدوا إلى المحطة أو مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيا عذبا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة.
أيها السادة والسيدات: إنكم أغنياء ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها زهدا فيها، واحتقارا لها.
يصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع الضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة، فلماذا لم يرها لما كان صحيحا بيضاء مشرقة؟ ويحمى عن الطعام ويمنع منه، فيشته لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها، فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنا ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي أو متشحة بضباب المستقبل؟
كل يبكي ماضيه، ويحن إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيا؟
أيها السادة والسيدات:
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، والمال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يؤتى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئا، لما نظر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيا؟
فلماذا لا تقدرون ثمن الصحة؟ أما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من انفه بأموال عبود باشا؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعا وعطشا، لما رأى غدير ماء والى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس بأمل أن يجد فيه تمرا أو خبزا يابسا، فلما رأى ما فيه، ارتد يائسا، وسقط إعياء. لقد رآه مملوءا بالذهب!
وذاك الذي رأى مثل ليلة القدر، فزعموا إنه سال ربه أن كل ما مسته يده ذهبا، واستجبت دعوته، فلمس الحصى فصار ذهبا، ولمس الخشب فصار ذهبا، فكاد يجن من فرحته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل فمس الطعام فصار ذهبا، وبقى جائعا، وأقبلت بنته تواسيه فعانقها فصارت ذهبا. . . فقعد يبكى يسال ربه أن يعيد إليه ابنته وسفرته وان يبعد عنه الذهب.
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة فأنصفق عليه بابها فمات غريقا في بحر من الذهب.
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وانتم تملكون ذهبا كثيرا؟ أليس البصر من ذهب والصحة من ذهب والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلفتني المحطة بهذه الأحاديث الأربعة من شهر، فما زلت أماطل بها، والوقت يمر، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا انتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبقى إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت انتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يوما، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرا وتبرا، واستفدت من كل لحظة حتى إني لأكتب هذا الحديث والله، في محطة (باب اللوق) وإذا انتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك علي من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو إني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا اقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها، لربحت شيئا كثيرا، ولقد كان صديقنا الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب (قواعد التحديث) للأمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب، والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائما، حتى انه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئا من العلم فألف (الحاشية). والسرخسي أملى وهو محبوس في الجب، كتابه المبسوط، أجل كتب الفقه في الدنيا، وأنا اعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يضيق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؟ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا إنه لو قرأ مثله لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة لكان علامة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ، بل خذوا كتابا واحدا كنهاية الأرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل يستطيع واحدمنكم أن يصبر على قراءته كله ونسخة مرة واحدة بخطة فضلا عن تأليف مثله من عنده؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟ آماله ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل لو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا اذكر الفلاسفة والمخترعين. ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم، هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطها وصوابها. والشافعي لما كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه. والمعري لما سمع أرمنيين يتحاسبان بلغتهما، فلما استشهداه أعاد كلاهما وهو لا يفهمه. والأصمعي الذي وحماد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار. وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار. والمئات من أمثال هؤلاء. . . فتعجبون، ولو فكرتكم في أنفسكم لرأيتم إنكم قادرون على مثل هذا ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس والبلدان، والصحف والمجلات، والأغاني والنكات، والمطاعم والمشارب، وكم قصة يروى من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمر به كل يوم من مقروءات والمرئيات والمسموعات فلو وضع مكان هذا الباطل علما خالصا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
أعرف نادلا كان في (قهوة فاروق) في الشام اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شايا أو كازوزة أو ليمونا، والقهوة حلوة ومرة، والشاي احمر واخضر والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة ويرد هذه الطلبات جهرا في نفس واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفا!
فيا سادة، إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن يشاء إن يسعد.
وملاك الأمر كله ورأسه الأيمان، الأيمان يشبع الجائع، ويدفئ المقرور، ويغني الفقير، ويسلي المحزون، ويقوي الضعيف، ويسخي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسا، ومن خيبته نجحا.
وأن تنظر إلى من هو دونك، فانك مهما قل مرتبك، وساءت حالك، احسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهما وعلما، وحسبا ونسبا، وأنت احسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا ملكي الأرض. فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبا يحشوها ويلبسها الذهب، وأنت لا تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة. وكانا يرحلا من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات.
فيا أيها السادة السيدات.
إنكم سعداء ولكنكم لا تدرون. سعداء أن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ولم تطلبوا المستحيل فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم.
أكمل الله عليكم سعادتكم، وأسعد الله مساءكم، والسلام عليكم.
(القاهرة)
علي الطنطاوي