مجلة الرسالة/العدد 717/حديث عن دمشق
→ منطقة إنطاكية وخليج الاسكندرونة | مجلة الرسالة - العدد 717 حديث عن دمشق [[مؤلف:|]] |
الشاعر خليل مطران ← |
بتاريخ: 31 - 03 - 1947 |
للأستاذ علي الطنطاوي
دخلت مخزناً أمس أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ هم كان هناك، أبيض الشعر كأن رأسه ولحيته الثغامة، فإلتفت إلي وقال:
- أنت من دمشق؟
- قلت: نعم.
فسطع على وجه نور، وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة، مرت في رأسه، وأخذ بيدي هاشاً لي باشاً بوجهي، فأقعدني معه، وقال لي:
أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تشرفنا يا ولدي، فتعال. تعال حدثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي، وزاد إليها اشتياقي، حدثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن (الميزان). ألا يزال الميزان مثابة الطهر، ومعبد الجمال، وجنة الدنيا؟ ألا يزال السراة والتجار يصلون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حق النفس بالتأمل، كما قضوا في المساجد حق الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين، ويعطيهم نعيم الدارين؟ ألا يزال زاخراً بحلق الأحباب، وجماعات الصحاب، عاكفين على (سماورات) الشاي الأخضر (وسكى) المسلمين، يشرفون على (قنوات) و (باناس) وهما يخطران على العدوة الدنيا متعانقين متخاصرين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمين خلال الورد والفل والياسمين، كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة، فيلقيان عليها حجاباً من زهر المشمش والدراقن والرمان، وعلى العدوة القصوى زوجان آخران حبيبان، يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل: (يزيد) و (تورا)؟ وبردى! ألا يزال يدب في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره، وينطلق في طريقه لا يبالي. عاف الحب ومل الغرام، وعلمته تجارب العمر، إن كل ما في هذه الحياة باطل، إلا ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو متاع زائل؟ وقاسيون الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وما أنفك شاباً، وشاخ أبن أخيه بردى ولم يشخ، ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة ملك جبار، قد رفع رأسه ومد ذراعين له من الصخر، فأحاط بهما دمشق وغوطتها، من الربوة إلى برزة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها، كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب، واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس! ألا تزال الشمس تضحك لبردى وأبنائه، وتستخم أنوارها في مائة، وتسبح أشعتها في سمائه؟
و (صدر الباز) و (مصطبة الإمبراطور) و (الصوفانية) و (الشاذروان)؟ حدثني عنها. . . حدث عن دمشق، ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر، فيغلقون دكاكينهم ويمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم، ثم يتعشون المغرب، ويؤمون المساجد فإذ صليت العشاء خرجوا، فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى الدرس ومنهم من مشى إلى (الدور). . .
قل لي: ألا يزال (الدور) يجمع الإخوان المتآلفين، والأحبة المتصافين، يسمرون كل ليلة في منزل واحد منهم ينشدون الأشعار ويسوقون النوادر، ويروون المضحكات، ويطالعون الكتب، ويتجاذبون الحديث، ويأكلون أوان الحلويات؛ ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم، وقد استمعوا أو في ما يكون الاستماع، وسروا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة، ولا أمسوا ملهى، ولا جالسوا غريباً، ولا أتوا محرماً، ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟
ألا تزال منازل المشايخ غي (زقاق النقيب) و (حمام أسامة) و (القيمرية) معاهد إرشاد، ومدارس علم، ودارات ملوك؟ قل لي: من بقى من تلك الأسر العلمية؛ آل حمزة وآل عابدين والطنطاوي والعطار والخاني والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام أم تنكب الخلف طريق السلف، واستبدلوا الدنيا بالدين، والمال بالعلم، والمنصب بالتقوى؟ والعلماء ألا يزالون أعزة بالدين، يعرضون عن الملوك فيسعى إلى أبوابهم الملوك، ويزهدون الدنيا فتقبل عليهم الدنيا، ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلا الله والدار الآخرة، يثنون لذلك ركبهم ويحيون ليلهم، ويكدون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما سد الرمق، وحمل الجنب، وستر العورة، لا يسألون عما غاب من ذلك أو حضر، قد فكروا في غيره، وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملهم، وكانت المطالعة شغلهم، وكان ثواب الله مبتغاهم، قد صغرت الدنيا في أعينهم حتى إنهم لم يروها ليتكالبوا عليها، ويذلوا من أجلها، و (يضربوا) عن التعلم إن لم يصلوا إليها؟ ألا تزال هذه المدارس عامرة، يجيئها الطالب؛ فينام في غرفها، ويستمع من مشايخها ويأكل من أوقافها، ويجعلها دنياه لا دنيا له وراء جدرانها: العمرية والمرادية والنورية والبادرائية والقلبقجية ودار الحديث وجامع التوبة وباب المصلى والدقاق ومدرسة الخياطين وأمثالها. ألا تزال زاخرة بالطلاب عامرة بالعلم، عاملة للإصلاح؟
ومنازل دمشق! ألا تزال تلك المنازل الواسعة الصحون، ذات الظل والماء، والبرك والنوافير، والأشجار والزهور، والدواوين والمجالس، والصيانة والستر، فهي من خارجها مخازن تبن، ومن داخلها جنات عدن، وهي مصيف ومشتى، وهي مسكن وملهى، وهو دار وبستان.
ألا تزال في دمشق الأسرة كلها تعيش في المنزل الواحد: الجد والأب والأعمام والأولاد، ونساؤهم وأولادهم، ثم لا تجد خلافاً ولا شقاقاً، ولا دساً ولا كيداً، الصغير يوقر الكبير ويطيعه والكبير يرحم الصغير ويحبه، وكل يؤثر على نفسه، ولا يحب لغيره إلا ما يحب لها؟
ألا تزال المرأة لبيتها ولزوجها، لا تقيس الطرقات، ولا تقصد الأسواق، ولا تعتاد منازل الخياطات. إن احتاجت شيئاً اشتراه لها بعلها، وإن أرادت زيارة أهلها ذهب معها، وإن اشترت ثوباً خاطته بنفسها، والحجاب سابغ، والشهوات مقموعة، والزواج شامل. لا يبلغ الولد عشرين إلا وله ولد، ولا تصل البنت إلى الثامنة عشرة إلا ولها ولدان؟
والبوابات! هل زالت البوابات، التي كانت تغلق كل ليلة بعد العشاء وتسد الطرقات في وجوه لصوص الأموال والأعراض فلا تفتح إلا لقاصد بيته، أو ذاهب في حاجة مشروعة؟
والأحياء! ألا يزال في كل حي عقلاؤه وسادته، يسعون لخيره، ويعينون عاجزه، ويسعدون فقيرة، ويأخذون من فضل مال الغني ما يسد خلة المحتاج، وإذا رأى أحدهم غريباً في الحي سأله من هو وما يكون، فلا يدخل الحي إلا رجل شريف. وإن شاهد امرأة متبرجة نصحها وزجرها، وبحث عن وليها ليحميها. وإن علم بأن داراً ترتكب فاحشة، عقد مجلساً فدعا المؤجر والمستأجر وكانت المحاكمة التي لا تؤدي إلا إلى منع الفاحشة في غير ظلم ولا عدوان، فكان الحي كله كالأسرة الواحدة، وكان البلد مجموعة أسر كلها خير فاضل نبيل؟
ألا يزال الناس على وئام وسلام، فلا نزاع ولا خصام، يعرف كل منهم حقه فلا يطلب إلا أقل منه، ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه، وإن اختلفوا رجعوا إلى العالم ورضوا بحكمه لا يعرفون المحكمة إلا إن استحكم الخلاف، وقلما كان يستحكم الخلاف؟
ألا يزال القاضي الشرعي مرجع كل خصومة، ومصدر كل حكم، يحكم في كل قضية بشرع الله، فلا تطويل ولا تأجيل، ولا مراوغين ولا محامين؟
ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يصنع في دمشق، فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم، ولا يلبسون إلا نسيج أيديهم، ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم، لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم، ولا يعينونه بها على أنفسهم؟
ألا يزالون سعداء راضين، قد انصرف العالم لعلمه، والتاجر لتجارته، والطالب لدرسه، والمرأة لبيتها، لا يشتغل أحد بغير شغله، ولا يدخل فيما لا يعنيه، قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم، ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعتهم، ورأوهم لا يسرقون مالهم، ولا يمالئون عدوهم، ولا يضيعون مصالحهم، فلم ينفسوا عليه زعامتهم، ولا ضيقوا عليه مكانتهم؟
فقلت للشيخ: منذ كم فارقت دمشق يا سيدي؟
فتنهد وقال: منذ سنة 1897، فارقتها شاباً، ولم أدخلها بعد ذلك أبداً.
فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته، وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته فتلطفت فودعته، ولم أقل له شيئاً، وماذا أقول؟
أأقول له: إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل، لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟
وإنهم هجروا منازلها التي كانت جنات، ليسكنوا كالإفرنج في طبقات كأنها سجون أو مغارات، وإن أبناء العلماء الأتقياء، صاروا من الفساق الجهلاء، وإن مدارس العلم هدمت أو سرقت، وإن غرفها احتلت لتكون مساكن أو قهوات أو مخادع للشهوات، وإن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والأموال والرواتب، وأن الأسر انصدع شملها، وتفرق جمعها، وإن النساء ملأن اليوم الطرقات، وأممن المخازن والسينمات، وعاشرن الشبان في المدارس واللهيات، وإن البنات كسدن في البيوت، لما آثر الشباب اللهو على الزواج، والسفاح على النكاح، وأن الأحياء غلب عليها سفهاؤها، وضعف عن حكمها عقلاؤها. وإن الناس اختلفوا وتنازعوا، وفشا فيهم الغش والخداع، وإن المحاكم هجرت شرع الله وحكمت بقوانين فرنسا. وإن الناس تركوا أشغالهم واشتغلوا بالسياسة. وإن الزعماء طلبوا المال والجاه، وآثروا مصالحهم على مصالح الناس. وأن الموظفين غلبت عليهم الرشوات والبراطيل والسرقات، وإننا تركنا مصنوعات بلادنا وكرهنا أزياءها، وتعلقنا بأذناب الغربيين، وأعطيناه أموالنا. وإنه قد إرتفع الوفاق وحل الشقاق، وذهب الرخاء وجاء السخط، فالرجل يختلف أبداً مع زوجته، والأب ينازعه أبنه، والشريك يسرقه شريكه، وليس فينا راض ولا قانع ولا سعيد، ما فينا إلا شاكٍ باكٍ، كاره الحياة، متمنٍ الموت. . . ثم إننا لم نحس إن هذا كله من لعنة هذه المدنية الغربية، ومن ثمراتها المرة التي لا يمكن أن تثمر غيرها. . .
ولكن لا، فإن في دمشق خيراً كثيراً، لا يعرف خيرها إلا من يعيش في غيرها، إن دمشق التي يصفها الشيخ لم تمت، ولا تزال تتردد ذماؤها، فإما أن تنعشها (رابطة العلماء) ويمدها الإخلاص بالقوة حتى تنقذها، وإما أن يغلب القضاء، فيموت المريض تحت يد الطبيب. . .
ولن تموت دمشق الإسلامية بحول الله أبداً!
علي الطنطاوي