مجلة الرسالة/العدد 713/القَصَصُ
→ البَريدُ الأدبيَ | مجلة الرسالة - العدد 713 القَصَصُ المؤلف: ليو تولستوي المترجم: مصطفى جميل مرسي |
الخير والشر Вражье лепко, а божье крепко هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1855. نشرت هذه الترجمة في العدد 713 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 3 مارس 1947 |
أسطورة من الأدب الروسي:
الخير والشر. . .!
للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي
(مهداة إلى أستاذنا الفاضل محمود الخفيف)
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
(من الهدى والتوفيق أن ننقل هذه القصة الرفيعة إلى العربية
في الحين الذي يقوم فيه الأديب الكبير الأستاذ محمود الخفيف
بترجمة رائعة لحياة ذلك الفيلسوف الذي ذاعت شهرته الأدبية
وشاعت عبقريته الفلسفية في جميع أنحاء العالم، وترجمت
كتاباته وقصصه إلى معظم اللغات في مختلف البلدان. . . وقد
سبق لنا أن قدمناه إلى قراء (الرسالة الغراء) في قصة
(الملاك) التي نشرناها تباعاً على صفحاتها في شهر أغسطس
سنه 1946.
وفي هذه القصة التي تتنازعها عوامل الخير والشر، وتضطرب فيها دوافع الحق والباطل. . . نلتقي بعبقرية تولستوي الفذة وعقله الجبار في خير ما سطره يراعه في تمجيد الفضيلة ورفعتها.! فهو يجلو لنا في ثنايا هذه القصة صفحة بارعة من الحلم والتسامح والعفو وضبط النفس التي تنزع بالمرء إلى ركوب متن الشطط والغي. . . وقد رأينا أنه من الأفضل أن نتناول عنوان هذه القصة بالإيجاز والتحوير لطوله. . . فهو في الأصل الذي نقلنا عنه , (م. جميل)
حدث في الأيام التي خلت وطوتها صفحات الدهر منذ القدم. . . أن كان ثمة رجل رضي النفس طيب القلب جليل الشأن عظيم القدر. . . أقبلت عليه الدنيا وأتاحت له وفراً من ماله فملك الضياع والديار. . . وراح يعيش في ثراء ورغد، ومن حوله جمع من العبيد يقومون على خدمته ويتولون قضاء حاجته. وقد بثهم سيدهم من الود وأخلص لهم من العطف ما جعل أفئدتهم تخفق بحبه وألسنتهم تلهج بحمده.!
وراحوا يتيهون بسيدهم فخراً وزهواً، يغبطون أنفسهم على هذا الفضل وهذه النعمة ويعربون لجيرتهم عن مبلغ هناءتهم قائلين:
(لم تطلع الشمس على من يضاهي سيدنا في طيبته ورقة عاطفته. . . فهو يطعمنا إذا ما أدركنا الجوع، ويخلع علينا من الثياب كل طريف ومن الأبراد كل جميل، ويهيئ لنا أعمالا تتفق ومقدرتنا وقوتنا. . . وما تلفظت شفتاه يوماً بكلمة سوء يرمينا بها ولا بيت لنا حقداً ولا ضغناً. . . فما هو كالسادة الآخرين الذين يذيقون عبيدهم هول العذاب ويقسون في عقابهم سواء أحق عليهم أم لم يحق.! ولا يحنون عليهم بكلمه عطف ولا يواسونهم إذا ما مسّهم الضر. . . أما سيدنا فقد وهبه الله قلباً يتمنى لنا الخير ونفساً ترجو لنا السعادة. . . نحن لا نأمل في حياة أهنأ ولا أرغد من هذه.!).
فضاق الشيطان ذرعاً بذلك الحب والود الذي يكنه العبيد لسيدهم، فعمد إلى واحد منهم يدعى (ألب) فسخره ليوغر صدورهم ويشيع بينهم الفتنة والعصيان ويسرب إليهم الفساد. . .
وبينما هم جلوس ذات يوم يتناقلون حديث العطف والكرم الذي يسبغه عليهم سيدهم ويحوطهم بفضله. . . رفع (ألب) صوته قائلا في خبث ودهاء: (إن من الغباء والحمق أن نغرق سيدنا بهذا الحمد ونحيطه بتلك الهالة من المديح. . . وهو لا يستحقها. فالشيطان قدير وكفيل بأن يكون كيساً رقيق الحاشية معكم إذا ما أديتم له كل ما يروم!. فنحن نخدم سيدنا في وفاء وإخلاص ونحقق له كل ما يساور نفسه ويراود فؤاده من بغيات. . . فما الذي يسعه سوى أن يكون رحيماً كريماً معنا؟!. دعونا نحاول أن ندفع إليه ضرراً ما ثم ننظر ما يكون من جلية أمره. . . وإني لعلى يقين من أنه لا يفضل أقرانه السادة. فلسوف يلقى إساءتكم بمثلها بل وأشد منها. . .).
فانطلق بقية العبيد ينكرون هذا القول، ويدرءون الشبهات عن سيدهم وولي نعمتهم. . . بيد أنهم ما لبثوا أن عقدوا فيما بينهم رهناً مع (ألب) الذي أخذ على عاتقه أن يثير حفيظة سيده ويلهب غضبه. . . وقد تعهدوا بأن يدفعوا إليه بالثياب التي يحرمه منها سيده، ويقوموا مدافعين عنه أمامه أو يعمدوا إلى إطلاق سراحه أن حبس أو غل بالقيد!.
كان (ألب) راعياً مسئولا عن فِرْزِ من الغنم النادرة الغالية التي يعتز بها سيده. . .
وفي اليوم التالي حينما أقبل سيده في صحبة من أضيافه ليريهم ويمتع ناظرهم بتلك الأغنام الكريمة. . . غمز (ألب) بحاجبه لرفاقه وكأنه يقول لهم (انظروا الآن إلى أي حد سأثير غضبه وحنقه!.).
وتجمّع العبيد يمدون طرفهم من فوق سياج المرعى! وتسلق (الشيطان) شجرة سامقة حيث استقر فوقها وراح يرقب ما سوف يعمله (ألب) خادمه ورسوله.!
وتهادى السيد مع صحبه يعرض عليهم شياهه وحملانه. . . وانثنى يقول لهم وقد رنّ في صوته جرس الإعجاب والزهو: (إنها جميعاً كريمة نادرة، ولكن بينها كبشاً أصوف أعقص القرن - لا يقدر بمال - أعتز به كما أعتز بمقلتي.!).
وشاع الاضطراب بين حشد الأغنام، فانطلقت تعدو إلى جهة أخرى من المرعى، فلم تنهز للزائرين سانحة لرؤية ذلك الكبش الذي نوه صاحبه بجلال قيمته وعظم شأنه. . .
ولم تكد تستقر الشياه في مكانها حتى أثارها (ألب) من جديد فعادت تجري إلى كنف آخر، وهي تضطرب فيما بينها، وفوَّت على الزائرين نهزة اجتلائها وتبيُّن الكبش. . فلم يجد السيد بداً - وقد أدركه العناء وبرح به الإعياء - من أن يدعو (ألب) قائلاً: (أرجوك أن تحول بين ذلك الكبش الأعقص القرنين وبين الهرب وأمسك به معتنياً حتى تتاح لنا رؤيته)!
ما كاد السيد يقول ذلك، حتى انطلق (ألب) بين الشياه كالأسد الذي يسعى بين رعيل من الظباء!. وقبض على صوفة الكبش في عجلة وتناول رجلاً من أرجله فلواها في شدة حتى تهشمت عظامها وصارت له قعقعة الغصن اليابس حينما بطؤه الإنسان. . لقد حطم ساقه وجعله يخر على الأرض وهو يثأج ويثغي في ألم. . ثم لم يلبث (ألب). أن أمسك برجل أخرى وحاول أن يلحق بها ما أصاب سابقتها!
فصاح الزائرون في جزع، وهتف العبيد في هيعة وفزع. وطرب الشيطان وهو قابع في مكانه على الشجرة، وهلل فرحاً لما رأى من نجاح خادمه وهو يسعى لإثارة سيده! وتقطَّب جبين السيد وعلتْه كآبة سوداء تنذر بعاصفة هوجاء، وزمهرت عيناه وقد اتقد فيهما لهيب الغضب والحنق والسخط. . وقد كاد أن ينشق من الغيظ. . بيد أنه طأطأ برأسه ولم ينبس ببنت شفه. .
ران الصمت - ولكنه صمت رهيب - على الأضياف وعلى العبيد وقد تعلقت أنفاسهم يترقبون ما سوف يتمخض عن هذه الجناية على الكبش المسكين الذي لا يُلفى له نظير!
وبعد هنيهة من السكون، هز السيد كتفيه وكأنه قد تخلص من حمل ثقيل كان يجثم على قلبه. . . ثم لم يلبث طويلا حتى رفع رأسه ومد بصره إلى الأفق البعيد مستغرقا في فكره لا يريم.!
وبغتة.! غاب التقطب عن صفحة جبينه وانفجرت أسارير وجهه وهدأت نفسه وقد عصف بها الاضطراب. . . ونظر إلى (ألب) في عطف وعلى ثغره ابتسامة عذبة. . . وقال في صوت رقيق شاعت فيه الوداعة والطمأنينة:
(إيه. . . يا ألب. . . لقد أغواك صاحبك الشيطان بإثارة غضبي ولكني سوف أخيّب مسعاه وأثير غضبه هو. . . فلست بحانق عليك ولا ساخط منك. . . إنك لتخشى عقابي ويداعب نفسك أمل في أن أعتق رقبتك!. فاعلم - إذن - أني لن أمسّك بسوء، كما أني - أمام هؤلاء الأضياف وتحت سمعهم وبصرهم - أطلق حريتك. . . فاذهب أينما شئت. . . فأنت حر من هذا اليوم. ولك أن تحمل معك ما تود من ملبس وطعام.)
وانثنى السيد عائداً مع رفقته إلى داره في هدوء وبشر أما الشيطان - وقد باء مسعاه بالخسران المبين - فقد هوى من فوق الشجرة. . . وغار في الأرض. . .
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي