الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 712/القصص

مجلة الرسالة/العدد 712/القصص

بتاريخ: 24 - 02 - 1947


من الأدب الروسي الحديث:

بعد المعركة

للكاتب الروسي الكسي تولستوي

بقلم الأديب فريد وجدي الطبري

كان صديقي إيجور دريموف شخصا متزنا يسود عليه الجد. أحب والدته ماريابوليكا ديوفنا ربوفنا ووالده إيجور إيجونوفتش فكان يقول، (أبي رجل يحترم نفسه، وكثيرا ما علمني أن أفتخر بروسيتي) وخطب فتاة في تلك المدينة الصغيرة. وكثيرا ما يتحدث الجنود في الميدان، وبين فترات القتال عن الزوجات والحبيبات، يتحدثون في الملاجئ، وهم في مأمن من البرد القارس، ومعدهم ملأى، ونور الشمع يوحي بالحديث. فتسمع كل ناحية من ذلك الموضوع، مثلا (أساس الحب الاحترام والحب مجرد عادة، فالإنسان يوزع حبه بين زوجته ووالديه وحيواناته) ويقول آخر (يبدأ الحب عندما يفور دمك، وشعور المحب كشعور المخمور والجذل المرح) ويستمر الحديث ساعات، ولا ينتهي إلا بكلمة أوامر من أحد الضباط.

أما إيجورد ريموف فلم يشترك كثيرا في مثل هذه الأحاديث وإذا أشار إلى خطيبته كان ذلك بأسلوب غير مباشر، فتراه يقول مثلا (فتاة طيبة تنتظر صديقها حتى ولو جاء على رجل واحدة)

ولا ينقاد إلى التحدث عن مغامراته الحربية. وعندما يمتدحه أحد أصدقائه يقول (الأفضل أن لا تتحدث عن هذه الأشياء) وكل ما عرفناه عنه كان من أحاديث زملائه؛ كنا نتوسل إلى سائقه تشفيلوف ليقص علينا أخباره، فيصف لنا مثلا كيف كان ينقض على العدو في المصفحة مطلقا عليه ألسنة اللهيب، فلا يكاد يصل إليه حتى يصرعه. وكم من معركة خاض غمارها وعاد سالما بعد أن يكون فقد عددا من رفاقه وقد أبلى بلاء حسنا دائما وقصص شجاعته عديدة.

وعلى هذه الحال حارب الملازم إيجور دريموف إلى أن أقعده الحظ. كان ذلك في معركة كيسرسك بحيث كان النصر في بادئ الأمر للألمان، واشترك فيها بدبابته، وما كاد يدخل المعركة حتى قتل اثنان من رجاله. ثم اشتعلت النار في الدبابة. أما السائق (تشفيلوف) فقد تمكن من مغادرة الدبابة المشتعلة، وسحب الملازم الذي كانت ثيابه تحترق وهو مغمى عليه وأخيرا انفجرت الدبابة وتناثرت قطعا إلى مسافة تزيد على 150 قدما وأقبل تشفيلوف على الملازم ليطفئ النار المشتعلة في ثيابه وجره إلى مكان أمين. ويقول تشيفيلوف (إنما فعلت ذلك لأني شعرت أن فؤاده ما زال ينبض بالحياة) عاش إيجور دريموف حتى ولم يخسر بصره لكن تشوه وجهه جدا حتى أن العظم ظهر في بعض الأماكن، وبقى في المستشفى ثمانية أشهر، وأجريت له عدة عمليات متوالية لإعادة أنفه وشفاهه، وأجفانه وأذنيه. وعندما نزعت عنه الأربطة بعد الشهور الثمانية، وكانت معالم وجهه قد تغيرت تماما حتى لم يعد فيه شبه للصورة التي كان عليها قبلا. ولما ناولته الممرضة المرآة ليرى وجهه أدارت وجهها بسرعة كي لا يلاحظ الدموع في عينيها من شدة تأثرها بمنظر وجهه. وأعاد إليها المرآة قائلا (كان من الممكن أن تكون المصيبة أكثر مما هي الآن، على كل حال يكفي أني بقيت حيا) ولم يطلب المرآة مرة أخرى، بل اكتفى بلمس وجهه الجديد كأنه يعود نفسه أن تألفه. وسرح من الخدمة العسكرية بناء على تقرير طبي. لكنه ذهب إلى قائده ورجاه أن يسمح له بالالتحاق بفرقته ثانية. ودارت هذه المحادثة بينهما.

(لكنك أصبحت غير قادر على الخدمة) (لا يا سيدي بل لقد أصبحت مخلوقا غريب المنظر ولا أرى كيف يجعلني ذلك غير صالح للقتال) ولاحظ أن القائد كان يتجنب النظر إليه أثناء الحديث، فابتسم بشفتيه الاصطناعيتين الرقيقتين. أعيد إلحاقه وأعطي أجازة مدتها ثلاثة أسابيع، فذهب ليقضيها في البيت، وكان ذلك في الأول من آذار. ولدى وصوله اقترب محطة من قريته، حدثته نفسه أن يستأجر عربة تقله إلى البيت لكنه عاد فقرر أن يقطع المسافة وهي اثنا عشر ميلا مشيا.

كان الثلج كثيفا والهواء الرطب يهب باردا جدا، فيتخلل أطراف معطفه محدثا صوتا كله حنين إلى البيت، ووصل القرية عند الغروب.

رأى وطنه الصغير بخير والطيور على الأشجار تغرد؛ أمامه الآن بضعة بيوت، والبيت السادس يسكنه أبواه. اقترب من البيت ووقف عند الباب لا يجرؤ على الدخول ثم ذهب إلى جانب البيت ونظر في النافذة وكان الثلج يصل إلى ركبتيه. رأى أمه على ضوء المصباح الخافت تعد المائدة للعشاء. وبدت أمه كما يعهدها تماما - طيبة القلب، هادئة، وعلى رأسها تلك القبعة الصغيرة نفسها وقد تغيرت عما كانت عليه عندما رآها لآخر مرة، إذ انحنى ظهرها قليلا. (ليتني كتبت لها قبل مجيء، ليتني كتبت بضعة أسطر كل يوم) كانت تضع الحليب وقطعا من الخبز الأسمر والملاعق والملح، ثم وقفت مكتفة الأيدي وساد عليها التفكير أو الحيرة؟!

شعر إيجور دريموف وهو يراقب والدته من النافذة أنه لا يستطيع أن يوجه إليها هذه الصدمة إذا عرفت أن هذا المخلوق المشوه هو ابنها! ووطد العزم على ألا يعرفها بنفسه، وقرع الباب. سألت الوالدة (من بالباب) فأجاب (أنا الملازم جرينوف أحد أبطال الاتحاد السوفيتي). ووجد أن خفقات قلبه قلت وزال عنه القلق عندما رأى والدته لم تميز صوته. حتى هو نفسه أخذ يلاحظ أن صوته قد تغير بعد تلك العمليات ومن جراء الأهوال، فقد أصبح صوته خشنا وحادا. وقالت الأم (ماذا جرى؟) فيجيب (أحمل رسالة إلى ماريا بوليكا دبوفنا من ابنها الملازم الأول دريموف) ولما سمعت ذلك ضمته بإحدى يديها وصافحته بالأخرى بحرارة قائلة (إذا ولدى ايجور مازال حيا؟ تفضل ادخل وحدثني عنه) جلس إيجور دريموف إلى المائدة حيث كان يجلس وهو صغير يوم كانت رجلاه لا تصلان الأرض وأمه تخاطبه - (قل يا أعز الناس لدى) - أخذ يحدثها عن ولدها أنه بخير وصحته جيدة وأنه سعيد. لكنه لم يذكر لها المعارك التي خاض غمارها بدبابته. وتقاطعه قائلة - (قل لي الحياة في الجبهة فظيعة رهيبة، أليس كذلك؟). (نعم أيتها الوالدة، إن الحرب كلها يظائع وويلات، ولكن الإنسان يألفها مع الأيام).

بعد قليل جاء والده وقد بدا أكبر مما كان وذقنه بيضاء وكأنما اعتراها غبار أو طحين مسح الثلج عن رجليه وخلع معطفه المصنوع من الفراء وصافح الضيف. في هاتين اليدين الكبيرتين يلمس الإنسان الأبوة اللطيفة! وإيجور دريموف يعرف هاتين اليدين فطالما لمسهما! جلس والده ليستمع إلى ذلك الجندي الذي غطى صدره بالأوسمة دون أن يسأله أي سؤال. وكلما طال الوقت على دريموف وأهله لم يميزه كلما ضاق صدره ويهم أن يقول (ميزوني تتعرفوا إلى، بعد أن أصبحت إنسانا غريب المنظر)، لكنه يتراجع.

مما يبعث السرور في نفسه، أنه يجلس على مائدة أبيه غير أنه في نفس الوقت كان كمن خاب أمله والآن حان وقت الطعام، فهل لديك ما نقدمه لضيفنا أيتها الأم؟) قال الأب هذا، وفتح جارورا في طرف الطاولة لا تزال فيه سنارات لصيد السمك في علبة كبريت فارغة تخص ولده. وفاحت رائحة مألوفة، هي رائحة البصل والخبز. وأخرج زجاجة خمر صغيرة بقى فيها ما يملأ قدحين صغيرين فقط. وبينما كانوا يأكلون، لاحظ دريموف أن أمه تحاول أن ترى كيف يمسك المعلقة ولما التقى نظرهما غضت طرفها وعلى وجهها مسحة من الحزن والشفقة، فابتسم. طرقوا مواضيع عديدة. المزورعات والحاصلات، الأمل بانتهاء الحرب في الصيف (ولماذا تعتقد يا سيد إيجورفتش بأن الحرب قد تنتهي في هذا الصيف؟).

فأجاب الأب (الشعب هائج، بعد هذه المصائب التي سببها لهم الألمان، لن يقف في وجههم شيء، وهنا قالت ماريا (لم تخبرنا متى يأتي ولدنا في أجازه بعد أن مضى ثلاث سنوات على غيابه عنا؟ ربما تغير شكله كثيرا الآن وربما كان له شاربان ويعيش كهؤلاء الذين يقطنون في جوار الموت. قد يكون صوته تغير؟) (ربما لا تعرفينه متى عاد)

وضعوا له فراشا في إحدى زوايا الغرفة، قريبا من الموقدة؛ في تلك البقعة التي يعرف كل حجر فيها وكل ثقب وعقدة في السقف، ورائحة الخبز، ورائحة البيت، الرائحة التي لا ينساها الإنسان حتى ساعة الموت. وهبت رياح شديدة في الخارج. وكان يسمع شخير والده من وراء الحاجز وكان سهلا عليه أن يتصور أمه مسهدة تصعد الزفرات والملازم مضطجعا على جانبه ورأسه على يده وقد أخذ يقول في نفسه: أحقا يا أماه لا تستطيعين أن تعرفيني؟ واستيقظ في الصباح على صوت طقطقة الحطب وهو يحترق في الموقدة، ورأى أمه منهمكة في عملها قرب النار وجوربيه قد غسلا وعلقا على الحبل وحذاءه نظف ومسح؛ وسألته والدته إذا كان يحب الجبنة مع البسكوت. وبعد أن جلس إلى المائدة قال (طلب إلى دريموف أن أبلغ سلامة إلى كاتيا ابنة أندري سيفانوفتش، فهل لا تزال تسكن قريبا منكم؟) (نعم وقد أنهت المدرسة في العام الماضي وهي تعلم الآن. سأدعوها لك) ثم خرجت تدعو كاتيا مانيشفا، وما كاد الملازم يلبس حذاءه حتى جاءت كاتيا تركض ووقفت أمامه، وها هي عيونها الواسعة اللامعة وحاجباها وقد ارتفعا في دهشة واستغراب، وزاد احمرار خدودها المتوردة عندما ألقت بالشال الصوف الذي كان في يدها. وتمنى لو يقبل هذه الشفاه اللطيفة. بدت أمامه كما كان يتصورها: عروس المستقبل، نضرة مرحة، ناعمة، تكسوها العافية وقد أضاءت الغرفة عندما دخلت.

(هل جئتني بأخبار من إيجور؟ قل له إني أنتظره في الليل والنهار) أدار وجهه من النور ليراها بوضوح؛ اقتربت منه لكنها همت بالتراجع عندما رأت ملامحه. وأراد أن يكشف عن نفسه في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة ولكن لم يفعل: وطلبت إليه أمه أن يجلس ويأكل الكعك مع الحليب.

وتكلم إيجور دريموف ولم يعلق على اشتراكه في القتال وتجنب أن ينظر إلى كاتيا كيلا يرى انعكاس بشاعته في عينيها. واقترح أبوه أن يأتيه بحصان يركبه لكنه فضل أن يعود مشيا كما جاء.

لقد تأثر جدا من تلك الزيارة، وكان في الطريق يتحسس وجهه ولا يدري ماذا يفعل بنفسه!

ولما عاد إلى المعسكر اهتم به أصدقاؤه كثيرا وصار يأكل ويشرب ويضحك مثلهم بنشاط وسرور وكأن لم يحدث له شيء. قرر أن يخفي الحقيقة عن أمه. أما ذكريات كاتيا فرأى أن يخرجها من مخيلته كسن تسبب ألما ويجب خلعها.

وبعد أسبوعين تسلم رسالة من أمه:

(تحيات يا حبيبي. ترددت قبل لأني لم أعد أعرف بماذا أفكر؟ جاءنا شخص من طرفك - شاب لطيف جدا لكن وجهه مخيف. وكأنه كان يرغب أن يمكث قليلا لكنه عدل عن ذلك فجأة. ومنذ تلك اللحظة لم أنم ويبدو لي أن ذلك الشاب هو أنت. أما والدك فيقول بأني مجنونة. وربما أنا مجنونة إذ لو كان ذلك الشاب ولدنا لقال ذلك، ولماذا يخفي ذلك عنا؟ كان له وجه يفتخر به! ويحاول والدك أن يقنعني لكن قلب الأم يقول لي، إنه ولدك! اكتب لي يا حبيبي إيجور بالله عليك أشفق علي وأخبرني هل كان ذلك صحيحا أم أنا مجنونة؟

وأطلعني صديقي دريموف على هذه الرسالة كصديق ولما قص على القصة كانت الدموع تملأ عينيه فيجففها بمنديله. لقد ارتكبت خطأ جسيما أيها الغاشم، اكتب لأمك حالا وأطلعها على الحقيقة واطلب الصفح منها. سيزداد حبها لك وأنت في هذه الحال وفي اليوم نفسه كتب لأبويه: (والدي العزيزين، لقد كان ذلك الشاب ولدكم، أنا. . .) وراح يملأ أربعة صفحات من الحجم الكبير وبخط صغير، فكتب رسالة تشغل عشرين صفحة من الحجم العادي.

وبعد أيام كنا نتدرب في الميدان عندما جاء أحد الجنود إلى إيجور وخاطبه قائلا: يا عزيزي الكابتن يدعوك. وتبعته إلى الثكنة التي يسكنها معا، وهناك سمعته يقول (مرحبا يا أمي هاأنذا) ورأيت سيدة عجوزا قصيرة ضئيلة الحجم تعانقه، وكان هناك امرأة أخرى - لم أر مثل ذلك الجمال حيا يتنفس طيلة حياتي!! رفع والدته عن صدره وخاطب الفتاة. (لماذا أتيت يا كاتيا؟ لقد وعدت ذلك الشاب الذي كنت تعهدينه بأن تنتظريه وليس أنا الذي لم تستطيعي. . .) لكنها قاطعته: (إيجور قررت أن أقضي العمر معك، فلا تبعدني عنك من الآن).

(القدس)

فريد وجدي الطبري