مجلة الرسالة/العدد 707/من الأعماق
→ الذي قال أنا ربكم الأعلى | مجلة الرسالة - العدد 707 من الأعماق [[مؤلف:|]] |
يا ليل. . .! ← |
بتاريخ: 20 - 01 - 1947 |
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
هاأنذا هارب من الدار، ياتوت، لأبعد عن مواقع خطاك، وأهرب من رؤى مصرعك؛ ولكن كيف أهرب من نفسي؟
الصور، والخيالات، والمشاعر المكنونة، والرؤى الحية. . . أولئك أعدائي. . . وهم معي بين جنبي يا توت - وأنت معنا!
رصاصة صماء، ويد بلا قلب. . . وتنطفئ الشعلة، ويطوي سفر، وينطوي عالم. . . وبأيسر من هذا تتم تلك النقلة التي تدير الرءوس هولاً. والأحياء مع ذلك تعيش، وترجو، وتأمل. . . ألا ما أقسى السخرية البلهاء!
كلب!
ما أيسر ما تلوكها الألسن، وما أهون ما تتلقاها المدارك، وما أقل ما تحفل بها المشاعر! ولكن حين يستحيل هذا اللفظ إلى عشرات من الصور والذكريات، وعشرات من الرؤى والطيوف، وعشرات من الاهتمامات الوجدانية والمشاعر الحية. هنا يستحيل كل حرف فيها وكل صوت من مقاطعها، إلى أفاعي مسمومة تنهش القلب، وتجرح الضمير، وتقتات من دماء الأحياء.
دماء! ويحي! ما الذي دس هذه اللفظة في تعبيري الآن؟ دماؤك أنت - يا توت - تلك التي خضبتك وعقرتك! ويحي! لم أنكأ نفسي هكذا، وأتكئ على جرحي بقسوة؟ إنها صورتك الأخيرة يا توت لا تبرح تواجه خيالي، حين يفري جوانحي ألم ضار مسموم.
لقد تماسكت؛ وقد تماسكت، وحاولت أن أغلف المسألة كلها بغلاف من عدم المبالاة. ولكن حين حملتك - يا توت - بين يدي جثة جريحة دامية، لأواريك المقر في جوف الثري، خذلتني قواي كلها. وبدا لي التماسك سخافة كبرى!
ونمت هناك - يا توت - في مقرك الأبدي الذي سويته لك بيدي الراعشة. . . ولكن أنى لي أن أطيق تلك الصورة الواقعة المستحيلة: إن عيني لن تعود فتراك أبداً. إن أذني لن تعود فتسمعك أبداً. إن هذا الجسد الهامد لن يعود فيتحرك أبداً. . . إن شيئاً مما كان كله يكون أبداً. . . مستحيل مستحيل ذلك الواقع الذي لن يزول!
توت. توت. توت!
سأقولها، وأقولها، وأقولها. فلا تجيب أيضاً. وسأعود فلا أجدك في الحديقة، ولا في الشرفة، ولا في الردهة، ولا في حجرتي، ولا في المطبخ، ولا في المكتب، ولا في مأواك، ولا في مكان ما على ظهر هذه الأرض الدوارة. . .؟
وحينما يحين موعد انطلاقك من مأواك في الصباح، وموعد غدائك في الظهر، وموعد لعبك في الغروب، وموعد مبيتك في المساء، لن تنبح، ولن توصوص بعينيك، ولن تبصبص بذنبك، ولن تتواثب على أقدامنا وأحضاننا، ولن تزوم احتجاجاً ولن تزق شكراناً، ولن (تصوصو) شكوى. ولن يكون شيء من ذلك أبداً. . .؟
وحين أشتاق إليك كالطفل الحبيب، وحين أذهب لأطل عليك في مخدعك قبل أن أمضي صباحاً. وحين أتوقع أن تطلع لي من حيث لا أعلم عند عودتي ظهراً وحين أجلس للطعام فأسرع لأخلص لك العظم المحبوب. وحين أخشى أن تعبث بكتبي وأوراقي التي تحبها حباً جماً. . . عند ذلك تكون أنت - يا توت - هنالك في تلك الحفرة الصغيرة المنعزلة التي سويتها لك بيدي!
وكرتك النطاطة ستظل هامدة على الأرض، ليس فيها من حراك. وصحفة طعامك، وآنية شرابك، وبيتك الخشبي الصغير كل أولئك لن يعود أحد يسأل: أهي مليئة أم خواء؟!
ويدخل الليل، ويلفنا الظلام، وتغمرنا الوحشة. . . وبين فترة وفترة يشق السكون (نباح) هنا أو هناك، فأنسى أنك هناك وأتلفت بنفسي المتطلعة إلى هجمتك الحبيبة على أطراف ثوبي أو قدمي بأنيابك الصغار؟
ويصبح الصباح، ويمتع الضحى، ويميل الأصيل، ويدخل الليل. وتكر الأيام وأنت أيضاً هناك. ساكن في ذلك المأوي القريب، تفصلني عنك الآباد؟
يا دنيا!
لم كانت هذه السخرية الكبرى سخرية الحياة. . . للفناء؟!
- 2 -
لن أصدق. . . لن أصدق! لقد مضى أمس الأول. ثم مضى أمس. ونحن هؤلاء اليوم. فلم لا تجيء يا توت؟
إن قد مت! أعرف ذلك. ولكن! لم لا تجيء؟!
اليوم هو الجمعة. وأنا هنا في الدار - يا توت - ألا تعلم؟
لقد ضحوت في النوم، فمالك لم تجيء لتوقظني بهمهمتك؟ مالك لا تحاول القفز إلى سريري، مالك لا تزوم محتجاً لأنني لم أستمع إلى ندائك؟ مالك لا تملأ الحجرة نباحاً وقد يئست من إصغائي إليك، فإذا تحركت حركة واحدة عدت تزق فرحاً وابتهاجاً بصوتك الودود الجميل؟
أم لعلك جئت وهمهمت واحتججت ويئست، ثم انصرفت - لتعود - إلى المطبخ، لتتناول نصيبك اليومي من العظام وقد أحضرته لك في الميعاد صديقتك - رقية - التي تحبها وتحبك، وتلاعبها وتلاعبك، وتملأ أوقات فراغها وأوقات خدمتها كذلك مرحاً ووثباً وصياحاً وزياطاً وحيوية، كما تملأ حياة الدار جميعاً!
لا. لست في المطبخ. فها هي ذي شقيقتي هناك وحيدة، ساهمة، كئيبة، مفردة، موحشة. . . هي لا تحاول اليوم أن تحسم الخلافات التي تقع بينك وبين (سوسو) في توزيع الجلد والعظام وزوائد اللحوم. أنت لا ترفع صوتك احتجاجاً لأن زميلك قد عدا على نصيبك، وهو لا يموء صارخاً لأنك عدوت على نصيبه. إنه هادئ ساكن. أم لعله حزين!
ألا تكون في الحجرة الأخرى - يا توت - تعابث صديقتك الأخرى شقيقتي الصغيرة؟ تشد منها كرة الخيط المدلاة وتختفي بها تحت السرير فلا تحس بك ولا بها إلا أن تشد خيطها فلا ينشد فتعلن سخطها عليك، وتحذيرها إياك. حتى إذا نظرت إلى عينيك الجميلتين، ورأت فيهما كل معاني الشيطنة والبراءة، داعبتك باللفظ الذي تعرف، وبالصوت الذي تفهم، وبالإيماءة التي تجيب؟
هأنذا يا توت في حجرة المكتب. . . يا توت! تعال يا توت! ألا تجيء أيها الشيطان الصغير؟ تعال فالشمس التي تحبها تملأ الحجرة، والورق الذي تهيم به ينتظرك للشد والتمزيق.
أوه! رحمتك يا الله!
إن آثار فنجانة القهوة التي سكبت من يدي على المكتب، وأنا أضطرب للنبأ الأليم، نبأ مصرعك الوحشي الغادر، لا تزال. لم يزلها أحد منذ ثلاثة أيام! وهل بقيت في أحد هنا بقية يا توت؟
الفراغ! الفراغ!
ذلك الخواء الموحش العميق المترامي الأطراف، ذلك المخلوق الكئيب الهائل.
ذلك الذي نراه على امتداد البصر وآماد الآفاق.
والصور، والرؤى، والأطياف، والأشباح!
تلك الحيات الكامنة في الضمير، تنهش القلب ويضم عليها جوانحه، وتسمم الحياة والحياة بدونها محال.
والذكريات!
أولئك اللواتي يثبن كلما سكن الحس، وساد الصمت. ولفنا الظلام: ظلام النفس أو ظلام الأرجاء.
وإنا لنهرب إلى أنفسنا - يا توت - فنلقاك هناك. ونهرب من أنفسنا فنلقاك هناك. ونهرب إلى الناس فنحدثهم عنك، وحيثما انجر حديث قفزت إليه من بعيد، واندست ذكراك في مجراه.
يا توت! لم اعترضت طريقنا. ما دمت لا تنوي إلا عمر الأزهار؟
العذاب! العذاب في هذه الحياة!
- 3 -
أبداً لست هنا يا توت. ولو كنت هنا ونحن عائدون هكذا إلى الدار جميعاً، لما وسعتك الحديقة كلها من الفرح، ولملأتها جرياً ووثباً ومراحاً، ولجئتنا عن أيماننا وعن شمائلنا، ولأخذت علينا طريقنا وراء وقداما، ولتواثبت على صدورنا وأقدامنا كالبرق الخاطف أو القذيفة المندفعة، ولملأنا الدار حركة وضجيجاً نتابع بهما حركتك وضجيجك، ونهدئ بهما هذه الشعلة المتوقدة في جوارحك. ولكنك لست هنا يا توت.
فلنخرج صامتين لا نتلفت وراءنا لنرجعك إلى الدار فلا تتبعنا. ولندخل صامتين يجلل الأسى وجوهنا، وتغشى الكآبة نفوسنا، ولنتخاطب فيما بيننا همساً من الكمد، ولتتجاذب عيوننا وقلوبنا بالهم الذي يغمرها جميعاً.
أجل يا توت. ولتمت على شفاهنا ألفاظ قاموس كامل كان لك أنت وحدك ألفاظ التدليل والتنبيه والزجر والتخويف والنداء والاسترضاء. فقد انطوى ذلك كله، وعادت ذكراه تلذع أفئدتنا لذعة الجمر كلما هجست في الضمير.
ووددت يا توت - لو أنساك! فقد كدت أفقد كل ما يعرف عن من اتزان وتماسك؛ وتفزعت أعصابي فلست أنام، وفي جوانحي ذلك اللذع الذي لم يعد يطاق. . . ولكن لا أريد أن أنساك - يا توت - لا أريد أن أفقدك كلك. فعزيز على نفسي أن تفرغ من كل شيء حتى من لذعة ذكراك!
- 4 -
كلنا هنا على المائدة - يا توت - فأين أنت؟
لست إلى يميني هنا باسطاً يديك على الأرض في انتظار نصيبك في النهاية، وعيناك تلتمعان بكل ما تريد أن تقول!
عيناك الذكيتان المعبرتان، لقد كانت بيننا وبينهما لغة مفهومة؛ كما كان بينك وبين أعيننا تلك اللغة المفهومة بلا أصوات!
ولكنهما أطبقتا - يا توت - وانطفأت فيهما تلك الشعلة من الذكاء الحاد، والحس المرهف، والإخلاص الودود.
أطبقتا. أطبقتا إلى الأبد. وهذه هي قسوة الموت. . . العدم. العدم المطلق. المطلق إلى غير حد. . . يا للقساوة الصماء!
وأسرع في ازدراد طعامي - يا توت - لا لأخلص لك نصيبك المعلوم، ولكن لأهرب من الخيال المفزع.
لا. لا. لا طاقة لي بهذا العذاب الدائم المتكرر في كل موضع قدم في هذه الدار.
في كل لفتة ذكرى، وفي كل خطوة صورة، وفي كل خطوة عذاب. عذاب قاس ممزق لذاع.
ولكنني أهرب إلى الخارج، فتصاحبني في كل موضع قدم، وفي كل خطرة فكر، وفي كل لفتة بال.
يا توت. يا توت. لم - يا بني! - ألست بنا في الطريق؟! يا رب. يا رب: رحمتك يا الله! سيد قطب