مجلة الرسالة/العدد 707/الذي قال أنا ربكم الأعلى
→ أشهر الرسائل العلمية | مجلة الرسالة - العدد 707 الذي قال أنا ربكم الأعلى [[مؤلف:|]] |
من الأعماق ← |
بتاريخ: 20 - 01 - 1947 |
للأستاذ علي الطنطاوي
لبس ثيابه واستعد ولكن الباب لم يفتح، فوقف وراءه يصغي فلم يسمع صوتا، فضاق صدره حتى أحس كأن مرارته ستنشق، وأن أعصابه ستتمزق، فجعل يدور في الغرفة وساعته في يده ينظر إليها، حتى فتح الباب وأقبل الحراس ليقودوه إلى المحكمة. . .
وكان يرقب هذه الساعة ويعد لها الدقائق والثواني، لا حباً بالحكمة ورغبة فيها، بل هرباً من الوحدة وخوفاً من لياليها، فقد كان يمر عليه الليل طويلاً ثقيلاً، وهو وحيد في حجيرته (زنزانته) لا رفيق له إلا ذكرياته وأفكاره، ولا مسرح لنظره إلا هذه الغرفة الضيقة، يحدق في جدرانها التي يسيل عليها هذا الضوء الأصفر الشاحب، ويوهمه طول تحديقه فيه أنه يرتجف ويضطرب، وتتراءى له ظلال غامضة لا تلبث أن تضح فيرى فيها صورة مشنقة منصوبة، فيغمض عينيه عنها ويحاول أن ينام فتلاحقه هذه الصور وتزداد بشاعة وهولاً. . . فيحس أنه مشرف على الجنون، ويقوم إلى الباب يشده ويعالجه حتى تكل يداه، فيسقط إعياء وبأساً. . . . ولم يكن يتمنى إلا إنساناً يحدثه، عدواً أو صديقاً يجد عنده صدى خواطره، ورجع أفكاره، ليقنع نفسه أنه لا يزال عاقلاً لم يجن!
لذلك كان يجد هذه الساعة نعمة سابغة، لأنه يلقي فيها أولاده وصحبه، راكبين معه السيارة مقيدين مثله بالسلاسل والأغلال الثقال، ولكن ألسنتهم طليقة فهو يستطيع أن يكلمهم ويكلموه، وهو يلمس من خضوعهم له وإكبارهم إياه ما يثلج صدره، ويعيد له ثقته بنفسه وإنه لا يزال (رباً) معبوداً، وإن قيد وسجن، ولا يزال له عباد مخلصون. . . لم تذهب المحنة سلطانه عليهم، ألم تلق امرأة من أتباعه نفسها تحت سيارة السجن لأنها لا تطيق أن ترى الرب. . . أسيراً مغلولاً؟ ألم يشهد عليه واحد من عبيده غاضاً بصره. فلما قال له الرئيس: أنظر في وجهه. صاح: لا أستطيع، لا أستطيع.؟! فهل يسلمه هؤلاء ويدعون يساق إلى الموت؟ لا. واطمأن ووثق من النجاة، ورأى الدنيا لا تزال على العهد بها، فالشمس مشرقة، والبلد يعج بأهله، والناس يذهبون ويجيئون، ويبيعون ويشترون، ويضحكون ويمرحون، وكان يخيل إليه في وحدته أن الدنيا قد شملها الظلام الذي ملأ نفسه، وإنها فقدت رواءها، وغاضبت منها بهجتها.
وسأل ولده: كم مضى من الشهر؟ فلما أخبره نظر فرأى أنه قد مر على سجنه شهران. شهران فقط وقد كان يحسبهما عمراً طويلاً؟! وجحظت عيناه دهشة وسبح بنظره في الفضاء، لقد أنساه هذان الشهران حياته الماضية كلها، ومحوا منها أيام الحرية والعز والربوبية، فكأنه ولد سجيناً مقيداً، لم يكن قط السيد الذي يطاع، والرب الذي يعبد، وكأنه لم يكن له شعب يعيش به وله، ويبذل الروح في سبيله. ولا يريد من الدنيا والآخرة إلا رضاه.
وأيقظه من ذهوله صوت الجندي يدعوه إلى النزول من السيارة، فقد بلغت المحكمة، فرأى الناس مزدحمين لينظروا إليه ويتسلوا برؤيته، وكان يعرف أكثرهم ويعرفونه، فأغضى وامتلأت نفسه حنقاً على الحكومة لأنها جعلت محاكمته في اللاذقية حيث قام عرش ربوبيته ليراه الناس، ويعلموا مصيره، ولم تجعلها في دمشق المدينة الكبيرة التي لا يعرفه فيها إلا القليل ورأى الناس متلهفين على إشباع أبصارهم منه، والشماتة به، كأنهم في رواية تمثل على المسرح، يريدون أن يأخذوا بحظوظهم من المتعة بها ليعودوا إلى دورهم، ويصلوا ما انقطع من أعمالهم، الحملة هكذا: والرواية رهان على رأسه بين النائب العالم والمحامي أيهما أبلغ مقالاً، وأطول لساناً، وأقدر على سرد مواد القانون. نعم سيعود الناس إلى دورهم، إلا الرب، فل تبقى له دار يعود إليها!
وكان في جلسات المحاكمة الأولى ممتلئاً أملاً، واثقاً بنفسه وبقيام شعبه بنصرته، ولكنه سمع في هذه الجلسة شهادات أتباعه عليه، والوثائق تنهال على عاتقه كأنها ضربات معول صلد على جدار من اللين. . . تضيق عليه باب النجاة، وتسد طريق الخلاص، فتضعضع وأوشك أن يموت في نفسه الأمل.
وسمع النائب العام يتكلم، ويطلب له الموت، ففكر أن يثب إلى عنقه، فيضع يديه على رقبته فلا يرفعهما حتى يخنقه وليصنعوا بعد ذلك ما يريدون، أيقدرون على أكثر من الموت؟ وتصور الموت ففزع منه وخافه، لا، إنه لا يريد أن يموت. . . وسمع محامي الدفاع يقول كلاماً سخيفاً، فأعرض عنه، وأبغضه، وماذا يقول المحامي وهو نفسه لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما اتهم به؟
ودنت ساعة الحكم.
تلى كلام طويل، لم يستطع أن يتفهمه، لأن ذهنه كان معلقاً بكلمة واحدة، هي التي تحدد مصيره، قد حبس لها أنفاسه، ووقفت لها دقات قلبه، وخال كل ثانية في انتظارها دهراً، فلما سمع هذه الكلمة خارت قواه، ووهى عزمه، وسقط على كرسيه لقد كانت هذه الكلمة: الإعدام!
ورأى الناس يثبون إليه، ويتدافعون ليحدقوا في وجهه، والمصورين يوجهون إليه آلاتهم ثم شعر كأنه انفصل عن هذه الدنيا ثم ابتعد عنها، حتى رآها وهي تدور من حوله، وقد تداخلت مشاهدها، وخفيت معالمها، ورأى الناس كأشباح تتحرك خلال ضباب الأوهام، وأحس بالقيود توضع في يديه، وبأنه سيق إلى السيارة فألقي على مقعدها، وسمع قهقهة كأنها صاعدة من جوف جب عميق، ولغطاً فيه ذكر اسمه وذكر المشنقة. ثم أخذه الدوار، ولم يعد يدرك شيئاً.
ولما احتوته حجيرته أحس أنه انحطم وسحقت عظامه، كأنما مشت عليه المسالف. . . لقد حكم عليه بالإعدام. . . ولكن الليل قد انقضى وطلع الصباح، ثم نزل الليل مرة ثانية، وهو حي كما كان من قبل الحكم، إلى إن لم يعد يخرج إلى المحاكمة، ولم يعد يرى أولاده ولا صحبه، وكانت الأيام والساعات تمر به فارغة واسعة كأنها أبهاء قصر مهجور، وقد كانت له أعمال يفكر فيها كما يفكر الناس فينسى بها مر الوقت وكر الزمان، فأمسى وليس في حياته إلا الانتظار، وإذا كانت ساعة انتظار النعمة تبدو طويلة مملة، فكيف بمن ينتظر الموت؟ وكان يود لو يتحقق الأمل بالعفو الذي وعده به محاميه، أو يعجل عليه بالموت ليستريح من هذا القلق الذي هو شر من الموت، إذ كان يجهد خياله أبداً ليتصور ساعة الإعدام، حتى ليحس كل لحظة شدة الحبل على عنقه، وحرارة الرصاص في صدره، فأكنه كان يموت في كل لحظة مرة. . . وكان أشد ما يزعجه من الموت هذه الفضيحة، وأن يراه ذليلاً مهيناً من كان يراه بالأمس سيداً ورباً، ولو جاءه الموت طبيعياً كما يموت الناس لما آلمه هذا الألم، أما أن يتحكم فيه بشر مثله، وأن يملك نزع حياته من بين جنبيه وهو لا يملك منحها ولا ردها، فذلك ما لم يستطع حمله. . . وفكر في العفو فرآه سهلاً قريباً، أن في يد رجل مثله مخلوق من لحم ودم، لا يكلفه إلا أن يكتب بقلمه ثلاث كلمات في ذيل العريضة التي قدمها محاميه، فهل يضن بها؟ وهل تهون حياته هذا الهوان حتى لا تساوي مشقة كتابة ثلاث كلمات؟
وتنبه ضميره فذكر كيف كان يستهين هو بحياة الناس، وذكر كم أزهق من أرواح، وكم أهلك من نفوس، وكيف كان يدع طعامه فيقتل الرجل ثم يعود ليتم طعامه كأنه لم يصنع شيئاً، وكيف كان يقتل وهو يتحدث ثم يرجع إلى حديثه لا يقطعه، ولقد كان فيمن قتل أزواج عاشقون لهم نساء، وآباء لهم أولاد، وشباب لهم أمهات، فما فكر في نسائهم ولا أولادهم ولا أمهاتهم فهل يفكر أحد اليوم في زوجاته وأولاده؟
ومرت به الأصباح والعشايا وهو يرتقب وما من جديد وانحصرت حياته في النوم والطعام والتفكير وما ينام وإنما يهده اليأس فيلقي جنبه على الفراش يرى مروعات الأحلام، وما يأكل وإنما يضعفه الجوع فيدس في فمه لقيمات تقيه الموت، وما يفكر وإنما يرى صور ماضيه ماثلات على جدار الغرفة، فينظر إليها كما ينظر المرء إلى فليم في سينما.
فجعل ينظر إليه. . .
رأى (جوبة البرغال) هذه القرية التي تغلغلت في جبال العلويين حتى وجدت أقفر بقعة فيها وأوحشها وأبعدها عن العمران، في فجوة من الصخر، يطيف بها جبل قائم فيطوقها من جهاتها الثلاث، كأنه حصن حربي فلا يدع لها إلا بابا ضيقاً يطل منه جبل آخر، يمد إلى (خشمه) فينحدر إلى الفجوة حتى إذا توسطها اضطجع وتمدد، فاستقرت الجوبة على عنق هذا الجبل النائم، يحميها كتفه من هنا ومن هناك قلعات الصخر الراسيات من الجبل المستدير، وذراه الشامخات الأعالي، هذه هي عاصمة ملكه، ومعقله ومثوى عرشه الرباني. . . التي ظن أنها ستعصمه من جبابرة الأمس ومن عفاريت الجن، ومن القنابل الطائرة والنازلة والذرية. . . ثم تمده بالقوة والأيد حتى يقرأ منها على الدنيا، مرة ثانية، كتاب الذعر والخوف والاغتيال، الذي كتبه من قبل في هذه الجبال وهذه التلاع اتباع الحسن بن صباح وسنان شيخ الجبل. . .
وتبدل المشهد وعاد به إلى الماضي، إلى أول عهده بالدنيا يوم كان فتى غراً يرعى الأغنام في هذي التلاع، لا يحمل هما، لأن الهم يحتاج إلى فكر ولم يكن له رأس يفكر، ولا يطمع في شيء إلا لقيمات تسد رمقه وتشد صلبه؟ وفراشاً من القش يريح جنبه ألا ليت هاتيك الأيام قد دامت، ودام الفقر والبؤس، ولم يعرف طريق المجد الذي يوصل إلى المشنقة، وذرفت من عينه دمعة، فأسرع فمسحها وتلفت يخشى أن يراه أحد وهو يبكي، قد كان أشد شيء عليه أن يسخر منه اليوم عباده بالأمس، فلم ير أحداً فاطمأن وعاد يستعرض (فلم) حياته على مهل، فرأى أول فصل في كتاب مجده، وأول صفحة من شعر بؤسه. . .
وكان ذلك في يوم بارد من أيام الشتاء، أقفرت فيه الأدوية وسدت المسالك، وبدت الدنيا كلها في ملاءة بيضاء من الثلج، ورجع الرعاة إلى القرية، وعكف الناس على البيوت، وهبط فيه القرية شيخ علوي ذكي مشعبذ، فمر به فرآه مغمى عليه، وكان به داء الصرع. . . فحصاه وأخذه معه، فعلمه فنون الشعوذة، وأقنعه أنه المهدي المنتظر، وطفق يمخرق به على العامة من أهل الجبل، وأهل الجبل كلهم من العامة، وهم أجهل من الأنعام، وأوحش من الوحوش، يفكرون بالله ويؤمنون بالمهدي، وينكرون الوحدانية ويقولون بالتقمص، ويتسلون بالقتل، ويدينون بالنهب، ويتبعون شريعة الذئاب، فسرعان ما آمنوا به وصدقوه والتفوا حوله، كان ذلك سنة 1933.
ويتغير المشهد فيراه وقد قبض عليه وعلى شيخه وحوكما وسجنا، ثم نفيا من الأرض. . . ثم يعود وكله حنق على الشيخ وعلى الحكومة وعلى الفرنسيين وعلى الدنيا كلها، فبدأ بالشيخ فقتله، وأراد أن يمد يده إلى الفرنسيين فإذا هم يمدون إليه أيديهم يعرضون عليه المال والعتاد والألوهية في الجبل على أن يكون عبداً لهم. . .
فصار المهدي رباً. . .
وكر الفلم فرأى هذه الليلة التي أعلن فيها ربوبين ماثلة أمامه: هذا هو القائد الفرنسي، يزوره متذللاً خاشعاً ويقول لقومه: (هذا هو ربنا وربكم)، ثم يطلب إله أن يطلع الشمس في نصف الليل، فيأخذ الرب الجديد مصباحاً في يده فيلوح به، فيرى الجبليون الشمس ساطعة على الجبل الغربي، أطلعها الجنود الفرنسيون بالأنوار الكاشفة، و (البطاريات) القوية، لما رأوا المصباح يتحرك.
وتتابع الصور، أمام عينيه، فيرى (الرب) يتخذ أنبياء وملائكة، ويتزوج النساء بالعشرات ويأخذ ما يطيب له من الأراضي، ومن يستحلي من البنات، ويقتل ويضرب ويحبس، حتى إذا انتهت الحرب، وأحس الفرنسيون أن أجلهم قد دنا، أقبلوا عليه يحالفونه أن يمدوه بالمال والسلاح، ويجعلوه ملكا على الشام كله كما يجعلوه رباً على الجبل، وتمت المحالفة، وصار ملك الشعب الحيدري الغساني (؟!) يسن له القوانين، ويشرع له الشرائع، ويجبي الضرائب، ويولي الولاة. . . ويفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل!
وتمر به صورة أخرى من حياته، فيرى الوطنيين يقبلون عليه يسألونه أن يقبل عليهم، وأن ينفض يده من الفرنسيين، فيأبى ويمتنع. أيدع أحلافه الأقوياء لقوم لا حول هم ولا قوة، أيعود واحداً من هذه الأمة ضائعاً وقد صيره الفرنسيون رباً؟ أيرد ما اغتصب من الأراضي ويحمل وزر ما اجترم من الجرائم؟
كلا. إنه لن يصافح اليد الوطنية، إن الفرنسيين لا يمكن أن يخرجوا من الشام أبداً. . .
(لها بقية)
علي الطنطاوي