مجلة الرسالة/العدد 706/داود باشا ونهضة العراق الأدبية
→ يا ليل. . .! | مجلة الرسالة - العدد 706 داود باشا ونهضة العراق الأدبية [[مؤلف:|]] |
الناحية العلمية من إعجاز القرآن ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1947 |
في القرن التاسع عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
تذهب طائفة كبيرة من الأدباء والكتاب إلى أن العراق لم يكن له نهضة أدبية علمية في القرن التاسع عشر كما كان في ديار مصر وسورية، وهذه فكرة خاطئة لأن تباشير تلك النهضة المباركة كانت بادية في حواضر العراق كبغداد والموصل والبصرة والحلة وكربلاء والنجف. غير أن الأدباء الذين دونوا كتباً ورسائل عن النهضة العربية في ذلك الزمن أغفلوا ذكر العراق وما كان عليه من النهوض في العلم والأدب والاجتماع. ومصداقاً لقولنا أن الأستاذ أنيس زكريا النصولي لما وضع كتابه (أسباب النهضة العربية) الذي نشره عام 1926 لم يشرك القطر العراقي في تأليفه بصحيفة واحدة.
إن ما يؤاخذ به واضع ذلك السفر أنه لم يكتب كلمة واحدة تشير إلى ما كان عليه العراق في أوائل القرن التاسع عشر من النهضة الأدبية والعمرانية مع أن عنوان الكتاب: (أسباب النهضة العربية)، وقد اقتصر المؤلف على ذكر أسباب النهضة في القطرين السوري والمصري.
لقد استاء فريق من أدباء العراق وامتعض بعضهم وعدوا ذلك الإهمال والسكوت التام إهانة كبيرة لإقليم عربي كانت تباشير تلك النهضة بادية في معظم حواضره ومدنه، وقد انتقد المؤلف الأستاذ سليم أفندي حسون محرر جريدة (العالم العربي) والأب أنستاس الكرملي في مجلته لغة العرب.
وفي نظري أن صاحب الكتاب المشار إليه لم يكتب صحيفة واحدة عن أسباب تلك النهضة في ديار العراق لسببين، إما لجهله ما كانت عليه بلادنا من النشور الأدبي والعلمي أو لتجاهله، فإن كان الأول فهو معذور، وإن كان الثاني فلا يعذر إذ قد سكت عمداً عن قطر عربي أنجب طائفة كبيرة من العلماء والأدباء والشعراء والمصلحين والمجددين.
وعلى ذلك رأيت أن الواجب يحتم على كعراقي يهمه سمعة بلاده أن أدون بضع مقالات تتناول تلك النهضة في فجرها، ولكن يليق بي قبل الخوض في هذا الموضوع أن أنشر ترجمة داود باشا والي بغداد في القرن المنصرم المعدود من أكبر أركان النهضة الحديث في العراق.
ولد داود باشا عام 1774م في تفليس قاعدة ديار الكرج، وكان مملوكا نصرانياً اشتراه أحد النخاسين وجاء به إلى بغداد وعمره لم يتجاوز يومئذ الحادية عشرة ليهديه إلى أحد أمرائها، فاشتراه منه مصطفى بك الربيعي وباعه لسليمان باشا الكبير والي الزوراء منذ سنة 1193 - 1217هـ، 1779 - 1802م، وقد ظهرت على محياه مخايل الذكاء وشمائل الفطنة، فلقنه العلم والأدب وأصول الديانة الإسلامية واعتنى بأمره أشد الاعتناء، فشب داود محباً للعلوم والمعارف مغرماً بالفقه والشريعة شهماً فاضلا صادق اللهجة والعمل. وصفوة القول بذل سيده غاية جهده في تثقيفه وتهذيبه، ليكون له في شيخوخته ركناً مكيناً ومعواناً صادقاً إذا تفاقمت عليه الخطوب والرزايا، وقد تمتع في حياته بغرس يمينه إذ رآه نابغة عصره فكان كاتباً تحريراً، وسياسياً محنكاً، وقائداً مدرباً، وبطلاً مغواراً، ذا مقدرة عظيمة في فك المعضلات وحل المشاكل العويصة وأفاد الزوراء فوائد جمة حينما تولى إدارتها كما ستراه فيما يلي:
بعد أن تضلع داود من آداب اللغة العربية أخذ يتردد على أدبائها الكبار ويناظرهم في المسائل المبهمة، وكان أيضاً يناضل علماء الدين فيما وراء الطبيعة والقضاء والقدر والثواب والعقاب والخلود والحشر ونحوها من المسائل التي أرتجت عليه أبوابها، وهكذا صرف شطراً من حياته، ملازماً للعلماء الأعلام منزوياً للمطالعة، وقد أيتح له أن يقرأ بعض المسائل الفقهية العويصة على يد السيد زين العابدين جمل الليل.
كان مجلس المترجم حافلا بوجوه الأدباء والشعراء ومشاهير الكتاب، فكان يطارح هذا ويناقش ذاك، وينظم القصائد ويذكي شعلة المنافسة والمباراة بين شعراء قطره، ويحث الأدباء على التأليف والتصنيف ويجزل العطاء لمن يفوق أخدانه حتى قيل إنه لم يقو على مفارقة الأصحاب ساعة واحدة. وكان يصحب معه فريقا من خواصه في رحلاته، يجلس وإياهم في وقت فراغه، ويتناول المباحث على أنواعها من سياسية وإدارية وأدبية، وقد اشتهر عند الخاص والعام بحب العلم والعلماء، حتى لقب بعالم الوزراء ووزير العلماء، وكانت ترد عليه القصائد الرنانة والرسائل البليغة في مدحه والثناء على أعماله المجيدة، وقد أناط بعهدة جماعة من أدباء بغداد أن يضعوا الكتب الأدبية والعلمية للقطر العراقي فامتثلوا أمره ومنهم من جمع ديوانه وقد فقد، وله غير آثار أدبية وكان عالماً شاعراً وإدارياً محنكا وقائداً مدرباً.
جلس داود باشا على منصة ولاية بغداد في 5 ربيع الآخر سنة 1232هـ - 22 شباط 1817م، فقرت به العيون، ووفد عليه العلماء والشعراء من كل فج عميق يهنئونه ببلوغ المراد، وما كاد يجلس على منصة الحكم حتى أجرى إصلاحات عديدة، منها إصلاح طريقة تعليم العربية. وقد رُوي أنه أراد أن يتقن العربية ويتفنن بأساليبها، ويقف على شواردها ونوادرها، فأحضر أحد لغوييها الفطاحل في عصره وطفق يتلقن عنه آدابها مدة. ففي أحد الأيام بينما كان أستاذه يقرأ عليه نبذة من علم النحو ويفسر له قواعده وشوارده بأمثلة قديمة مستطرفة سئم تلك الأمثلة البالية كضرب زيد عمراً وقتل خالد بكراً، وخطر له إذ ذاك أن يسأل شيخه على سبيل المداعبة عن الجناية التي جناها عمرو ليستحق أن يضربه زيد كل يوم، وينكل به هذا التنكيل الشديد مع أنه ربما لم يأت أمراً فرياً. وهل كان عمرو جباناً أو رجلا ساقط الهمة ذليل النفس إلى هذه الدرجة حتى أنه يغض الطرف عن الإهانة الملحقة به في كل لحظة، ويتجرع غصص الآلام المبرحة عن طيب خاطر، وهو ساكت لا يبدي أقل حراك.
أستغرب الأستاذ ذلك الكلام كل الاستغراب وعدّه من قبيل الأوهام، ولم يتمالك أن استلقي على قفاه من شدة الضحك، ثم قال لدولة الوالي ليس في الواقع يا مولاي ضارب ولا مضروب بل اعتاد النحاة من قديم الزمان أن يأتوا بأمثلة لتقريب القواعد النحوية والصرفية من أذهان طلاب العربية. فلم يرقه ذلك الجواب وعده أو هي من نسيج العنكبوت؛ فلما طلب منه المزيد استاء الشيخ من لجاجته في مسألة تافهة جداً فسكت ولم ينبس ببنث شفة، فاستشاط الوالي غضباً وأخذ يحرق الأرم وعد ذلك السكوت احتقاراً لشأنه وإهانة ليس وراءها إهانة، ثم قال للأستاذ بلهجة المتهكم والشرر يتطاير من عينيه: أيها الشيخ الوقور ما كان يدور في خلدي أن بضاعة علمك خفيفة هذا الخفة، وكنت أظنك أجل من أن تعجز عن الجواب في مثل هذه المسألة البسيطة التي ربما أجاب عنها أولاد المكاتب، ثم أمر الحاجب بأن يأتي بنفر من الشرطة، ويقاد إلى السجن ذليلا صاغراً ليلقي هناك جزاء جهله وغباوته. ثم استحضر نحوياً آخر وألقى عليه ذلك السؤال بعينه، فأجابه بنحو ما أجاب الأول، فغضب عليه وأمر بسجنه أيضاً. ومازال يأتي بالنحويين واحداً بعد واحد ويسجنه حتى أتى على أخرهم، فأقفرت المدارس والكتاتيب من النحويين، وضاقت بهم غرف السجون على رحبها، وأصبحت هذه القضية الشغل الشاغل له ولبطانته عن جميع شؤون الدولة ومصالحها. فلما ضاق ذرعاً ولم يدر ما يعمل فتق له عقله أخيراً أن يبث العيون في اقتفاء خطوات النحاة، ليعرض عليهم ذلك السؤال الذي أصبح لديه أعقد من ذنب الضب.
وبينما هو غائص ذات يوم في بحر تلك الأوهام إذ بلغه أنه في المدينة نحوي بارع طاعن في السن قد تنحى عن منصه التعليم منذ بضع سنوات وهو ملازم داره، فأمر في الحال بإحضاره، فلما مثل بين يديه أعاد عليه السؤال واستطلع رأيه فيه. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وإمارات الفوز بادية على محياه الجليل وقال: إن الجناية التي أتاها عمرو يا مولاي لجسيمَة جداً، ولا أراني مبالغاً إذا قلت إنه يستحق أن ينال من القصاص أضعاف ما نال. فتنفس صاحب الترجمة الصعداء وذهبت عنه كربته، ثم سأله بلهجة المتلهف: وما هي تلك الجناية يا عماه؟ قال الشيخ بكل هدوء إن عمراً القليل الحياء هجم على اسم دولتكم بدون إذنكم واغتصب منه الواو، ولما كان ذلك منافياً لحكم العدالة رأى النحويون من باب اللياقة والإنصاف أن ينتقموا من عمرو لوقاحته انتقاماً شريفاً، فسلطوا عليه زيداً الصارم، وأمروه أن يذيقه جهاراً كل يوم في ردهات التدريس وغرف المكاتب من العذاب ألواناً، حتى كثيراً ما يغمى على ذلك المسكين من شدة السياط جزاء سلبه وسرقته، فأعجب صاحب الترجمة بذلك الجواب كل الإعجاب وأحله محلا رفيعاً بين أبناء الأعراب، وقال له إنك حقاً لنادرة الزمان وأديب العراق وخراسان والعالم الكبير المشار إليه بالبنان. فأسألك ألا تخرج من هنا ما لم تطلب مني ما تشاء فأمرك مطاع وطلبتك مقضية، فقال له الشيخ إذا كان لابد من طلبتي فأتوسل إليكم أن تطلقوا سبيل زملائي المسجونين الذين تركوا عيالهم ومن يلوذ بهم عالة على ذويهم، فامر في الحال بإطلاقهم وأعاد عليهم رواتبهم التي كانوا يتقاضونها في غرة كل شهر، غير أنه اشترط عليهم أن يصلحوا طريقة تعليمهم العربية وينهجوا منهجاً جديداً، ثم أنعم على ذلك الشيخ الرفيع المنزلة بالجوائز والصلات وقربه من مجلسه، وأمسى من تلك الساعة مرشده الوحيد في الملمات، وساعده الأيمن في حل المشاكل العويصة حتى وافاه الأجل المحتوم فعظم موته على صاحب الترجمة وحزن عليه حزناً شديداً، وقد شيع نعشه بنفسه مع حشمه وأعيان المدينة.
وقد أفاد داود باشا الزوراء فوائد كثيرة، فمن جملة هذه الفوائد تنظيمه الجيش على الطراز المشهور في عصهر وجلبه الصناع المهرة والأساتذة البارعين من ديار الإفرنج وسائر أقطار العالم المتمدين، وإقامته دار صناعة (ترسخانه)، أي معمل لصنع الأدوات الحربية والمدافع والقنابل والبنادق ونحوها من المهمات والذخائر العسكرية وتأسيسه المدارس، وإنشاؤه دوراً للعلم والأدب وتشييده المكاتب العامرة الحاوية من الكتب المخطوطة النفيسة وغيرها من المطبوعات، وإصداره جريدة باسم (جورنال العراق) وكانت تطبع بمطبعة حجرية، وتعميره الجوامع، وشقه الترع والأنهار. ومن بعض آثاره الباقية حتى الآن جامع الباب الشرقي المعروف اليوم بجامع السادة وجامع الثكنة في الرصافة، وهرى السيف الواقع في الجانب الغربي من بغداد (الكرخ) وقد أرخ بناءه الشيخ صالح التميمي بقوله:
أقسم بالله الذي زينت ... سماؤه بالخنَّس الكنس
أن الذي شيد هذا البنا ... ذو همة بالفلك الأطلس
داود ذا الأيدي ومن حلمه ... ما حل في شخص سوى هرمس
فقل لمن يرغب في مكسب ... من ناطق فيه ومن أخرس
أوف إذا كلت ومن بعد ذا ... أرخ وبالميزان لا تبخس
1240هـ
(يتبع)
رزوق عيسى