مجلة الرسالة/العدد 706/الناحية العلمية من إعجاز القرآن
→ داود باشا ونهضة العراق الأدبية | مجلة الرسالة - العدد 706 الناحية العلمية من إعجاز القرآن [[مؤلف:|]] |
إلى السماء. .! ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1947 |
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
نعم! إن الله منزل القرآن ينبئنا في كتابه العزيز أن هناك أرضين أخرى مثل أرضنا. وفرق ما بين الأرض والكواكب الأخرى أن على الأرض حياة، وإلا فالأرض أيضاً كوكب سيار كغيره من السيارات.
وأول ما نجد آيات في سورة فصلت تتعلق بالموضوع: تلك الآيات هي:
(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً؟ ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام، سواءً للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً: قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها؛ وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا؛ ذلك تقدير العزيز العليم!)؟
هذه الآيات الكريمة الأربع فيها فنون من الإعجاز العلمي نكتفي منها بما يتصل مباشرة بالنقطة التي نحن بصدد بحثها. وأول ما نلاحظ من ذلك أن الآية الأولى نصٌّ في صحة ما استنبطنا من أن العالم في آية الفاتحة ليس هو مجرد عالم الإنس والجن، أو عالم الحيوان والنبات، ولكن هو العالم الفلكي الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ. ووجه كونه نصّاً في ذلك أن الآية والتي تليها تتناولان خلق الأرض على شطرين. ولما كان الشطر الثاني في الآية الثانية متعلقاً بتطورات خلق الأرض الضرورية للحياة فيها فإن شطر خلقها في الآية الأولى متعلق بتكوين أرضنا أول ما تكونت عند ميلادها، وتكون خاتمة تلك الآية (ذلك رب العالمين) متعلقة على الأخص بالمعنى الفلكي الذي هو موضوع الآية. ومن لطيف ما ينبغي الانتباه إليه كمثل للإشارات القرآنية العلمية أن يومي الخلق المذكورين في الآية الأولى داخلان طبعاً - في الأربعة الأيام المذكورة في الآية الثانية، إشارة إلى أن طوري الخلق متداخلان كما هما في الواقع. وهو مثل رائع للإعجاز في الإيجاز
فإذا انتقلنا إلى الآية الثالثة وجدناها تنبئنا أن السماء عندما تم خلق الأرض كانت دخانا، وأن السموات السبع لم يكنّ خلقن بعد، بل كن كلهن سماء واحدة بدليل قوله تعالى ف الرابعة: (فقضاهن سبع سموات في يومين). وإذن فقد كان هناك قبل خلق السموات السبع أرض واحدة تم خلقها، وسماء واحدة كانت دخانا. وهذا عجيب من أسرار خلق السموات والأرض لا يعرف العلم منها إلى أن السماء كانت يوماً ما دخانا. ولا تزال كتل هائلة مما سماه الله دخاناً يشاهدها الفلكيون بمراقبهم القوية اليوم في السماء وان تكتّل داخلُ أكثرها نجوما، ويسمونها سُدُماً، ما تكتل منها وما لم يتكتل. وهذا مثل عجيب من الإعجاز العلمي للقرآن: هذه الدخانية التي كانت عليها السماء.
وواضح أن تخلق السماء إذ ذاك سمواتٍ سبعاً المشار إليه في الآية الرابعة كان طاعة من السماء لنصيبها من الأمر: (ائتيا) إذن فما هو نصيب الأرض وقد قالتا (أتينا طائعِين)؟ هل الأرض في قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً) هي نفس الأرض التي نحن عليها؟ إن الجواب المتبادر هو نعم. لكن القرائن تمنع من هذا المتبادر. وأول هذه القرائن وأهمها أن أرضنا هذه كان قد سبق تشكيلها، وتم خلقها وخلق جبالها وخلق الحياة على ظهرها قبل أن يصدر الأمر، بدليل (ثم) الترتيبية في أول الآية الثالثة، بعد تمام خبر خلق الأرض في الآيتين الأوليين. والأمر أمر واحد: (ائتيا)! فإذا كان أمرَ خلقٍ فيما يتعلق بالأرض المخاطبة. فهل يمكن أن تكون الأرض المخاطبة بذلك الأمر هي الأرض التي تم خلقها؟ أليست هذه قرينة قوية جداً على أن الأرض في الآية الثالثة غير الأرض في الآية الأولى، أي غير أرضنا هذه؟ بلى! وتكن أل للعهد في الآية الأولى، وللجنس في الثالثة. فهل هناك قرائن أخرى على هذا الاستنتاج تؤيده وتزكيه؟
إذا تذكرنا أن المقابلة تامة في اللغة بين كلمتي أرض وسماء، وكذلك هي تامة في الآيات الثلاث الأولى حين لم يكن إلا أرض واحدة وسماء واحدة، كان في ذلك إشارة مغنية إلى أن السبع السموات المذكورات في الآية الرابعة يقتضي وجودهن وجودَ سبع أرضين يقمن بازائهن: أرض تقابل كل سماء. ولما كانت إحداهن موجودة تامة الخلق بالفعل حين صدر الأمر، كان المخاطب المعني بالأمر في (ائتيا) هو الأرضين الست الأخرى المقابلة للسموات الست الجديدة: خلقهن - سبحانه - كلهن من السماء الدخانية الأولى. وتكون أل في لفظ الأرض في الآية الثالثة هي للجنس كما استنتجنا.
ويزداد هذا المعنى والتخريج تأييداً فوق تأييد، وتوضيحاً فوق توضيح، بالآية الأخيرة من سورة الطلاق (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلَهن، يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.)
إن ال في الأرض هنا هي حتما للجنس لا للعهد، بدليل قوله تعالى (مثلهن). والسموات السبع متعددة، ليس في ذلك شك فلابد أن تكون الأرضون السبع متعددة أيضاً على نفس النحو والنمط لتتحقق المثْلية المنصوص عليها في الآية، لا أنهن سبع طبقات في أرضنا هذه كما فهم الناس ويفهمون. فأرضنا واحدة وليس يفهم العلم ولا الناس من لفظ الأرض إذا أطلق إلا أرضنا هذه جملة، بحذافيرها وطبقاتها كلها. فتفسير الأرضين السبع بطبقات سبع في هذه الأرض تفسير لا يتفق مع اللغة، ولا العلم، ولا القرآن، ولا مع الحديث الكريم (اللهم رب السموات السبع وما أظْلَلْن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن) لمن يدقق في تفهم الحديث وتوجيه على المعنى المألوف.
هذه النتيجة التي تتفق مع حرفية القرآن وحمله على الحقيقة اللغوية لا على المجاز تحل لنا وللإنسانية مشكلة السموات السبع حلا حاسما. فقد عجز الناس إلى الآن عن الوصول إلى فهمٍ للسموات السبع ليس عليه اعتراض. قالوا إنها السيارات السبعة فظهر من السيارات عشرة ليس من بينها القمر كما كان يقول اليونان. وقالوا إنها سبعة عوالم في السماء فكانوا كأن لم يقولوا شيئاً، إذ ليس هناك ما يحدد معنى عوالمهم هذه، والعوالم والأكوان أكثر من سبعة بكثير. لكن تعال الآن إلى المعنى القرآني المتبين آنفاً، وتذكر الارتباط والمقابلة بين أرض وسماء في اللغة لفظا ومعنى، وطبِّق ما تفهم من السماء بالنسبة لهذه الأرض على كل أرض من الأرضين الست الأخرى، يتحدد معنى السماء وعددُها بتحدد معنى الأرض وعددها؛ أو إذا جئت المسألة من الطرف الآخر، يتحدد معنى الأرض وعددها بتحدد معنى السماء وعددها. (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلَهن)! سبع سموات وسبع أرضين، كل أرض تحدد سماءها! وأكبر الظن أن مرقب المائتي بوصة الجديد المنتظر إتمام صنعه قريبا سيكشف مع الزمن عن بعض هذه الارضين فتتجدد بذلك آيات أخرى من آيات إعجاز القرآن.
بقيت نقطة واحدة لعل من الخير استيفاءها. أخبرنا الحق سبحانه أن السموات السبع كن قبلُ سماء دخانية واحدة وهذه الأرض مخلوقة، فهل أخبرنا سبحانه في القرآن شيئاً عن هذه الأرض أين كانت قبل أن تخلق؟ نعم. في آية الأنبياء:
(أوَ لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رَتْقاً ففتقناهما؟)! وإذا تركنا المجاز ولزمنا الحقيقة اللغوية طبق قاعدتنا نتج حتما من هذه الآية الكريمة أن السموات والأرض كانتا شيئاً واحداً متصل الأجزاء. وهذه عجيبة كبرى من عجائب إعجاز القرآن العلمي يؤيد القرآن بها العلم الحديث في قوله بأن الكون كله شيئاً منبثاً واحداً قبل أن توجد فيه أرض أو نجم أو سديم.
وتأمل ان شئت واعجب ما شئت من إعجاز القرآن في التعبير عن هذا السر الحق الهائل في الآية الكريمة آية الأنبياء! تأمل كيف لم يسم ذلك الكون الرتق سماء إذ لم تكن أرض، وإذ كانت السموات والأرضين شيئاً واحداً منبثاً لعله كان دون الدخان
لكننا نكتفي الآن بهذا القدر من الأمثال التوضيحية لما أشرنا إليه في صدر هذا المقال.
إن فيها على الأقل ثلاث معجزات يقينية يستيقنها العلم الآن: تعدد العوامل فلكيا؛ ودخانية السماء في البدء؛ وانفصال الأرض عن السماء بعد أن كانت متصلة بها اتصالا في الأول.
وتبارك اله فاطر الفطرة ومنزل القرآن.
محمد أحمد الغمراوي