الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 706/القَصصُ

مجلة الرسالة/العدد 706/القَصصُ

بتاريخ: 13 - 01 - 1947


القبر تحت قوس النصر

مأساة عن الحرب العظمى في ثلاثة فصول

للكاتب الفرنسي بول رينال

نحن في منزل بإحدى القرى الفرنسية أثناء الحرب العظمى، وقد جلس رجل في الستين من عمره مع فتاة في العشرين تدعى أود وشاب يرتدي الثياب العسكرية. وسرعان ما تفهم أن هذا الجندي هو ابن الهرم وخطيب الفتاة وأنه قدم من ساحة القتال ليرى أسرته وليقوم بعقد زواجه على خطيبته (اود) فقد حصل من أجل ذلك على إجازة أربعة أيام. ولا يكاد الحديث يدور بينهم حتى يعلم من أبيه الشيخ أن خطيبته قد تكلفت إظهار السرور بعد أن غادرها وذهب إلى ساحة القتال. وأنها فعلت ذلك لكي ترضى والده. ولكنها بعد ذلك أخذ القلق يساورها فبدأت تستفسر عن نشأة ابنه الغائب وعن طفولته وشبابه. كان ذلك عزاءها في غيبته. ويسأل الجندي عما إذا كانت قد وصلت رسالة باسمه إلى المنزل فينكران ألوا ثم يحضران له الرسالة فإذا بها من مركز القيادة التابع له وفيها يأمره بأن يلغي إجازته ويعود إلى خط القتال. ولا يكاد يقرأ تلك البرقية حتى يضحك كما لو كان قد فوجئ مفاجأة سارة، ثم يسأل خطيبته: لماذا ثم تخبريني عند حضوري؟ فتجيبه: لقد كنت مبتهجا. فيذكرها بالواجب الملقى على عاتقه، وكيف استشهد من فرقته ألفان، وأنه لابد أن يكون قد صدر أمر بهجوم جديد ويصمم على السفر في أول قطار يقوم في الفجر إذ أن قائده لم يسمح له بالسفر إلا على شرط الرجوع إذا جد في الأمر شيء. وأن هذا القائد عندما سمح له بذلك كان يقدر الخدمات التي أداها للوطن كجندي باسل.

ولا يكاد الابن يذكر مسألة الزواج التي قدم من أجلها حتى يبدي الأب اعتراضه وتقره (أود) على ذلك فزيارته قصيرة لا تسمح باستيفاء إجراءات الزواج.

ويخرج الجندي ويخلو الأب إلى (أود) فيذكر لها أنه واثق من أن ابنه لم يكن ليفكر في الأخطار الكبيرة التي كان معرضاً لها بقدر ما كان يفكر فيها هي. وفي تلك السعادة الجميلة التي قضت الظروف بحرمانه منها. فتسأله: - وماذا أفعل لكي أعيش؟.

- سأعينك

أتحميني من الشجن والشقاء؟

وتتطور المناقشة بين الاثنين، فتذكر له العروس أن واجبه نحو ابنه قد انتهى وأن عاطفته نحوه إنما هي استمرار آلي لما كان يشعر به عندما كان ابنه لا يزال طفلا. أما هي فواجبها لم يكد يبدأ بعد. وعندئذ يقول لها في تأنيب خفيف:

- إنه ابني. . . فتجيبه بك روحها: - إنه حياتي

ثم تنبهه إلى أنه ما دام قد حضر فمن غير اللائق أن يدور الحديث على شيء آخر غيره. وأن واجبها الأوحد هو أن تحبه وتذكره بالضحكة التي ضحكها عندما قرأ البرقية الواردة باستدعائه، وكيف أن هذه الضحكة الرهيبة قد أرعدتها وهي تشرح ذلك فتقول إنه يحمل طابع الحرب على شخصيته. ولقد أحست هي نفسها بكل هول الحرب عندما رأت كيف تقلصت عضلات وجهه المحبوب واستحال إلى عنف مخيف بمجرد أن نظر إلى البرقية.

ويلاحظ الأب الشيخ أنها لم تعد تتحدث إلا عن خطيبها، وأن ابنه لا يتحدث إلا عنها. ويبدو له أنهما يشعران بأنه ليس بين الأحياء سواهما. وهو يحس لذلك بغضاضة على نفسه، ويشعر بشيء من الغيرة إذ يسيطر الشباب هذه السيطرة على منزله. ويتحداه كما كان الظافرون يتحدون خصومهم المغلوبين بالسيوف فيما مضى! وهو يخشى أن يكون عقبة بين ابنه وبينها. وتدهش (أود) لذلك وتصارحه بأنه جد مخطئ إذ يفكر في ذلك كله ولكنه يقول برغم هذا: - ما أسعد هؤلاء الشبان. إن الحرب لم تغير كل شيء! مهما حدث على الأرض فلا يوجد دائما إلا مصيبة واحدة. تلك هي الشيخوخة!.

ثم يعود الابن في ثياب مدنية ويخرج الأب بد أن يحاول استصحاب الفتاة معه فيرجو منه ابنه أن يتركها له قليلا. ولا يكاد العروسان يختليان حتى تلتمس منه (أود) أن يصفح عنها، فإذا سألها عن أي شيء تطلب الصفح، أجابته عن أنها استطاعت العيش بعده. ثم تقول له: - إنك تمثل لناظري كل الأمور. إنني لا أملك من حطام الدنيا إلا التفكير فيك إنه غذاء كياني ونار نفسي، وهدف عيني، وطابع صوتي، ومجرى دمي. إنه كل شيء. إنه أنا!.

ثم تذكره بمنشأ علاقتها به، وكيف أنها طالما زهت وفاخرت بمعرفته وكيف تمنت أن تكون زوجته، فإذا قال لها

- ستكونين زوجتي يوماً ما.

أجابته بعد مجهود كبير: - كنت أود أن أكون زوجتك هذه الليلة.

فيذكر لها أنه ليس من حق أحد في فرنسا أن يكون سعيداً في هذا العام، وأنه يود أن يدعو كل أصدقائه وزملائه في الجيش إلى حضور حفلة زواجه، ويشعر أنهم جميعا يشخصون اليه، ويمدون إليه أيديهم الرقيقة سواء منهم الأحياء والأموات.

هي - الأموات؟

هو - أصدقائي الذين استشهدوا والذين لو بقوا لكانوا هنا الآن. أين هم؟ إنني أدعوهم. فلو ظلوا أحياء لكانوا الآن في مراكزهم بساحة القتال. ولكنهم ماداموا قد ماتوا ففي مكنّهم الحضور! إنني أنتظرهم. سيظهرون، ليحضروا، فلن أتمتع بكل بهجتي وسروري بدونهم. إنني أناديهم.

ثم يبدأ في مناداة أصدقائه من المحاربين الأموات إلى أن يصل إلى اسم صديق تعرفه خطيبته (أود) فيذكر لها كيف أن ذلك الصديق قد سقط مضرجا بدمه في أحد الحصون وكيف أنه طلب إليه أن يرفع تمنياته الصادقة إليها وأن آخر كلماته له وهو يحتضر بين يديه: (كونا سعيدين) وتعجب (أود) بهذه العظمة التي تتجلى في شخصية خطيبها. وتشعر أن نفسها عاجزة عن مجاراته فيها فتقول له: - إنني بجانبك أحس في نشوة بعظمتك. وفي اضطراب بشقائي. . أنت توقن بأنك عظيم فيجيبها في حزم وزهو: - أجل.

- هذا ظاهر! إن هذه الروح التي لا تتجلى إلا في جبهة القتال جعلتك مختلفا عنا وأسمى منا، إننا لا نستطيع أن نفهمك.

ثم تطلب إليه أن يرفعها إلى مرتبته وأن يسمو بها إلى درجة البطولة، أن يرفعها إلى تلك السماء التي تخضبت بدم الشرف الحربي فيقول لها: - إن من يطلب ذلك بهذه اللهجة فلاشك إنه يحصل عليه.

- كلا.

- إنك أنت تلك البطلة التي ترغبين فيها.

ثم يطمئنها بعد ذلك ويخبرها أن الحرب قد وضعت أوزارها وأنها لن يندلع لهيبها بعد.

ويتجاذبان أطراف حديث قصير. ثم يهبط الستار وهما يضحكان.

فإذا كان الفصل الثاني فنحن في غرفة العرس التي قضى فيها العروسان ليلتهما. وهما يتحدثان عن تلك الليلة فنفهم أن (أود) قد وهبت خطيبها الجندي أعز ما تملك الفتاة العذراء! وهي تذكر له أن هناك أشياء كثيرة لا يزالان يجهلانها ومن بينها ما هو في منتهى البساطة. وهي تعطي مثلا على ذلك أنها لم تره من قبل، ذلك أنها لم تره قط وهو مغمض العينين. ولذا تطلب إليه أن يغمض عينيه، فيفعل. ثم يخبرها أنه قد فهم ما تريده من وراء ذلك فإن عينيه المغمضتين تذكرانها بموته! فتنكر ذلك في ضعف. ولكنها تعود فتسأله ثانية عما إذا كانت الحرب قد انتهت حقا كما كان قد أخبرها. وتلح في سؤالها إلحاحاً شديداً وعندئذ يصارحها بأن الحرب لم تنته وبأنه لا يزال أمام النصر النهائي مدة طويلة؛ وهي تذعر من هذا النبأ وتلومه على أنه أطاعها وصارحها بالحقيقة، وتخبره بأنه ما كان يجب أن يعبأ بإلحاح امرأة مفتونة! وهو يلحظ مبلغ وقع النبأ عليها. وكيف أنها أحست بشبه خيبة في حبها له. فسوف تضطر مرة أخرى إلى انتظار مدة طويلة وهي تتوسل إليه أن يبقى إلى جانبها ولكنه يجيبها أنه وحده دون باقي زملائه في الثكنة قد استطاع الحصول على إجازة. وأن قائده قد اشترط عليه وجوب العودة بمجرد استدعائه. وها هو قد استدعى. ولابد أن يكون الجيش في خطر. فقد أخبره قائده أنه لن يستدعيه إلا إذا كان هناك خطر داهم. وهو بناء على معلوماته وبعد ورود تلك البرقية أصبح يوقن بأن المعركة الفاصلة ستدور رحاها يوم الأحد القادم، ولذا يجب الرحيل عند الفجر. وهو ينتقل بعد ذلك فيلقي كلامه كما لو كان ينطق بلسان كل جنود الجيش الفرنسي. فيذكر لها كيف يحب أولئك الجنود نساء فرنسا. وكيف يموتون وهم يذكرونهن ويتمثلون ابتساماتهن الساحرة. وتتملكه فجأة نوبة يأس وأسى فيخبرها أن هذه الحرب لا تعدو أن تكون كسابقاتها من الحروب، لا تكاد تضع أوزارها حتى يكتفي الشعب بأن يلبس الحداد في استهتار وعدم اكتراث مدة ما. وتلقى بعض الخطب بجانب التماثيل المقامة للشهداء. ثم سرعان ما ينسى كل شيء ويعود الجميع إلى السرور والمرح واللهو والعبث. وهو لا يغار من السعادة التي سوف يفوز بها الذين سيبقون بعد موت أولئك الشهداء، فهو يعلم أنه يفني حياته لكي يمهد السعادة للباقين ولكنه يرجو على الأقل أن تحتفظ فرنسا بذكريات أولئك الشهداء، وهو يربأ بذلك التمثال الذي شادوه من حطام آلامهم وأحزانهم أن يدفن في رمال الأجيال والقرون، وهو يرى أنه يجب على فرنسا أن تستمر على معرفتهم وأن ترثي لهم وتترحم عليهم! وتنصت (أود) إلى قوله في صمت ثم تؤكد له أن الأموات من جنود الوطن يسمعونه، فيناديهم بأسمائهم، ويخبرها أنه قد تبين أصواتهم فقد أجابوه وقالوا له جميعاً: (كونا سعيدين).

ثم تطلب إليه أن يدنو منها وهي تقول له في لهجة شعرية رائعة أخاذة.

- دع شفتي حتى أستطيع أن أحدثك. . . ضع فمك بقربهما تماما. لا. اعطني إياه. آه كم كنت أود أن أتمكن من إعطائك قبلاتي وكلماتي في آن واحد! أغمض عينيك كما أغمضهما أنا. أطفئ هذا الضوء الشرير (يطفئ المصباح وعندئذ تظهر على زجاج النافذة بشائر الفجر، الفجر الفظيع الرهيب الذي تحدد لرحيل الجندي العاشق. ولكنهما لا يزالان مغمضين عيونهما فلا يرياه) إنني إذ أكون لك أنسى العامل. خذ مني كل ما في من شباب. إنني أعطيك إياه. إنه لك. لك وحدك. لك دائما وإلى الأبد. أنت وحدك الذي سوف يعرف حرارة جسدي، إنني أذوب في حياتك. ثم تتذكر الفجر فتفتح عينيها وتقول وهي مضطربة: أنظر.! لا تنظر.! إنه هو. كلا. إنه ليس هو. قل إنه ليس هو. إنه ليس هو الفجر! فيقف ويحييها في جرأة وإقدام: إنه الفجر.

فتمسك به وهو على حافة الفراش وتقول: ليس هذا هو الفجر، لا شك أنه هو!

ويتأثر الجندي الشاب لذلك الحنان العجيب الذي تظهره (اود) فيذهب إلى النافذة ويسدل عليها الستائر. وهو يقول: إنه ليس الفجر ما دمت تريدين ذلك

- وماذا تساوي إرادتي؟

مادمت هنا فهي التي تسود العالم

- إذن فلا تسافر

- حسن. سأبقى

ثم يطلب إليها أن تنام لتستريح فتبدي له خوفها من أن يغادر المنزل وهي نائمة. فيؤكد لها أنه سيبقى. وتشعر أنها جد سعيدة إذ تراه بجانبها يتحدث إليها وهي في الفراش. فهذا أبدع من سماع الموسيقى. فالموسيقى تدلل الجسد، أما الحديث فهو وحده الذي يدلل الروح.

وتلتمس منه أن يقسم لها بأنه لن يتركها فيقسم وعندئذ تتمتم: إنني سعيدة

وتنقضي فترة ثم يسألها: أتنامين؟

(تجيبه هامسة: (اجل) فيذهب غلى النافذة ويزيح الستار. ثم يرى (اود) نائمة فتخونه شجاعته ويقطع الغرفة ذهابا وإيابا في تهيج واضطراب ويلمس فمها بإصبعه ليتأكد من نومها وهو يتمتم):

- (أتنامين؟)

فاذا وثق من أنها نائمة وضع رأسه على المائدة وأخفاه ثم أخذ يبكي وقد بدا ضوء المصباح يغمر الغرفة وهو يحاول جهد طاقته ألا يوقظ اود. . . ويبكي ويبكي. . . مع أنه لم يكن يعرف البكاء من قبل!

فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في غرفة أخرى من غرف المنزل اجتمع فيها الأب الشيخ بابنه الجندي وخطيبته أود. وأنت تفهم منذ بداءة الفصل أن الجندي قد عدل عن الوعد الذي قطعه على نفسه أمام خطيبته، واعتزم الرحيل من جديد والعودة إلى ساحة القتال. وهو يذكر ذلك لوالده ويلفت نظره في سخرية إلى أن هذا الرحيل سوف يتيح له - أي للأب الشيخ - الفرصة للاستمتاع بذلك النظام اليومي الذي إعتاده في حياته مع (أود). سوف يعود إلى تلقي قبلتها في المساء قبل أن تذهب إلى فراشها، وإلى سماع صرير المفتاح في باب غرفتها، وإلى التلذذ بالسكون الفاتر يسود جو المنزل. وأنت تحس بأن الشيخ يحوم حول معرفة ما فعله الشابان في الليلة الماضية، وهو يرغب في معرفة ذلك، فهو يذكر أنه لم يرضوءا في غرفتهما عندما أغلق نافذته في منتصف الساعة الرابعة ويتساءل عن سبب ذلك وهو يستشف من خلال إجاباتهما ما يثيره ويستفزه، فهو يهاجم ابنه إذ اجترأ على تلويث فتاة عذراء كانت تحت حمايته هو! وأنت تحس من طريقة إلقاء ذلك الشيخ ولهجته أنه يغادر من ابنه غيرة لا يكاد هو نفسه يشعر بها، فهي غيرة تشتعل في عقله الباطن، ويتجاهل أن تلك الفتاة إنما هي خطيبة ابنه وحليلته، وهو لا يستطيع أن يضبط غيرته من الشباب الذي يتمثل في ابنه وخطيبته. ويشعر الابن الجندي بذلك ويجابه أباه به، وينكر أن للأبوة حقاً في أن تتعرض لمثل ما تعرض له أبوه. فلا يمكن أن يحكم على تصرفات جندي إلا من عرض حياته للفناء في ساحة القتال، ويثور الابن فيصارح أباه بأنه إنما ينتقده لأنه لا يريد أن يحرم من التمتع بذلك النظام الذي اعتاده في حياته مع (أود) أثناء غيبته في الحرب، ثم يقول بمنتهى الصراحة: (إنه مما يضايقك أن أظل حياً! ويدهش الأب الشيخ لذلك، ولكن الابن الجندي يعلل هذا بما سبق من أن أباه يغار منه دون أن يشعر بتلك الغيرة، وهو يحس الآن بأن غيرته قد جرحت بعد الذي علمه مما دار بين الخطيبين في الليلة الماضية). ويثور الابن على شيوخ العالم ويقول: (إن الشبان قد اختفوا في هذه الحرب وعاد الشيوخ إلى احتلال مكانتهم كرجال وشبان من جديد. ويتهم والده بأنه يكرهه. وهنا تطلع (اود) والد خطيبها على ما ذكره لها خطيبها من أن الحرب ستطول وأنه أخفى عليهما ذلك. ويدهش الأب لهذا، وتخشى (اود) أن يموت خطيبها في تلك الحرب! وعندئذ يقول الجندي لها:

إذا مت فإنني أمانع في بقائك هنا - ثم يبدي رغبته في أن يصطحبها معه إلى باريس، فتمانع في ذلك، ويظن الأب الشيخ أنها تمانع من أجله فيشكرها. ويلح الجندي في ذلك ويطلب إليها أن تختار بينه وبين أبيه؛ ويدور بينها وبين الشيخ هذا الحوار العجيب!

هي - سيرحل؟

الشيخ - هل طرده أحد!

هي - سيذهب؟

الشيخ - ليذهب

هي - سيعود إلى وطيس المعركة

الشيخ - فليؤد واجبه

هي - إنه يواجه الموت

الشيخ - يتوهمون ذلك دائما!

وفي تلك الأثناء تكون أود بجانب الشيخ فيظهر عليها الاشمئزاز منه وتتراجع وهي تنظر إليه في احتقار وازدراء وتقول في صوت قوي: إنك ترعبني! فيصيح الشيخ: (اود!)

ولكنها تلتفت إلى الجندي وتقول: (خذني!) وتصارح الشيخ بأنها تشمئز منه وأنها لا تريد البقاء. وتؤكد لخطيبها أنها لم تفكر في أحد غيره. وأنها له وحده. تفخر وتزهي بأنها زوجته أو بأنه جعلها زوجته! ويسألها الشيخ عما إذا كانت لم تشعر بحبه لها أو بحبها له.

ولكنه ينتبه إلى وجوب التزام الوقار والحكمة! وتلتفت إلى خطيبها فتعاهده بأنه إذا مات مستشهداً في ساحة القتال فسوف لا تعرف في الحياة بعده إلا ذكراه. . . وينصح لها الشيخ ألا ترتبط بمثل ذلك التعهد فتسخر منه وتكرر قسمها بأنها سوف تقنع بذكرى خطيبها إلى أن تلحق به. . . فإذا عاد الشيخ إلى نصحها غالت في قسمها وعاهدت خطيبها على أنه إذا مات فستلحق به. ثم يشتد بها الضجر من الجو الذي يحيطها فتطلب أن يأخذها معه فيتوسل الشيخ إلى ابنه قائلا: اتركها لي. وعندئذ تلتفت إليه وتقول: أتوجه إليه الكلام!

الشيخ للجندي - قل لها أن تبقى. وتسخر منه اود فيعترف بأنه وهب قلبه لها للمرة الأولى في حياته. فتنبهه أي أنه يجب أن يهبه لابنه وحده. ثم تسأله: هل تعرف شيئا عن الحرب؟

الشيخ - أعرف اليوم للمرة الأولى. ثم يعترف بأنه لا يمكن لامرئ معرفة الحرب إلا بعد أن تدميه وتمزق قلبه. وها هو يشعر بقلبه يتمزق! وعندئذ تشير إلى الجندي قائلة: إذن أنظر إليه الآن!

الشيخ (نعم) - يا صغيري المسكين!

وتطلب إليه أن يحييه ويستغفره فيتقدم الشيخ إلى ابنه ويسأله الصفح وهو يقول: إن البطولة أيها الشبان من حقكم الطبيعي. إنني أتوسل إليك أن تعفو عما ارتكبته من حطة وضعة. لا أطلب شيئا آخر. . . سافرا. . . انسياني. (لابنه) ولكن لا تسافر قبل أن تقول لي أنك عفوت عني. فها أنا ذا والداك أجثو تحت قدميك. عفوك. فيتأثر الابن الجندي ويعفو عن أبيه ثم يقول: إنه لشيء جميل أن يكون رجل هرم مثلك بهذا الحنان. لا تأسف على ما شعرت به من الألم. فإذا تألم الشيخ أصبح شابا. لا وسيلة غير الألم لكي تقترب منا نحن الشبان.

وهذا هو في الواقع محرر القصة كلها، فقد وفق المؤلف توفيقاً تاماً إلى الغرض الذي يرمي إليه. إذ كان واجب الابن الجندي أن يرفع خطيبته ووالده إلى مستوى البطولة، وأن يسمو بهما إلى المثل العليا النبيلة التي وصل إليها حماة الوطن من جنود الجيش الفرنسي أثناء الحرب. . . وها هما قد ارتفعا وسمت نفساهما إلى السماء. . . وها هو الابن يعرض على (أود) أن تبقى مع والده بعد أن صفح عنه، فيأبى الوالد هذه المرة ويرفض. ولكن الابن يلح فيقبل الشيخ في خجل وحياء أن يحمي زوجة ابنه. ويلتفت الجندي إلى خطيبته فيطلب إليها ألا تنفذ ما قالته له من أنها ستلحق به إذا مات في ساحة القتال فهو لا يريد ذلك. بل هو يتوسل إليها أن تبحث لها بعده عن شاب يكون قد خاض غمار الحرب وأدى واجبه القومي. ويجب عليها ألا تترفع عن حبه إذا بادلها هو الحب. فإذا وصلت شخصيات القصة الثلاث إلى هذا الحد من السمو والتطهر اقتربت اود من خطيبها وهي تقول: أحبك. . . ويقول الوالد لابنه في صوت قوي: إبق حيا.

ويظهر الابن الرضى والاطمئنان ويتقدم إلى الباب وهو يقول: حسن.

وتنتهي القصة هكذا.

الشيخ - عد إلينا ناجيا

هي - أحبك

الشيخ - إنني في حاجة إلى يدك لكي تغمض عيني.

هي - أحبك

ويكون الجندي إذ ذاك قد بلغ الباب فيلتفت إليهما ويقول في لهجة مفعمة بالحب: كونا سعيدين!

ثم يختفي ويسمع صوت الباب الخارجي وهو يغلق ثم صوت العربة وهي تبتعد. وتظهر علامات الأسى على (اود) فتسقط على أحد المقاعد ويشترك الشيخ والشابة في البكاء والأنين!

(البصرة)

سهيل