مجلة الرسالة/العدد 70/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 70 القصص [[مؤلف:|]] |
الشاعر والوردة ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1934 |
ورقة النصيب
للأستاذ محمد سعيد العريان
جلس إسماعيل على المعقد الخشبي بجانب غرفته على السطح، يغني في حنين الواجد ولهفة المشتقات بعض أغنيات بلاده، ويتابع بعينه الشمس الغاربة منحدرة انحدارها اليومي، كأنها جمرة كبيرة تطفأ في النيل.
كان يعيش وحده في هذه الغرفة من منزل كبير في حي (بولاق) يشرف من بعد على النيل فكانت سلوته وانسه أن يجلس ببابها عصر كل يوم، من لدن عودته من المدرسة حتى يعم الظلام؛ ثم ينهض فيسرج مصباحه ويكب على مصوراته ودفاتره
وقد انحدر منذ عام واحد من بلدة في الصعيد الأدنى عقب حصوله على شهادة (الكفاءة) ليطلب العلم بمدرسة الفنون
كم كان مفتوناً بالقاهرة قبل أن يهبط إليها، ولوعاً بها أشد الولع. ولعله لم يمعن في الجد والدأب للحصول على الشهادة، إلا لأنه كان موعوداً أن يرسل إلى القاهرة إن جاز الامتحان!
فلما هبط إليها إذا هي تتضاءل وتتضاءل على الأيام، حتى لم تعد إلا هذا الحي العتيق الذي يسكنه، وهذه الطريق الملتوية التي يسلكها كل يوم بين مدرسة والبيت، وهذا السطح الذي يشرف منه على أطلال الحلم السعيد - أطلال القاهرة التي عرفها في الخيال، واستمتع فيها بلذة المنى ووهم الحب ودنيا الشباب!
وكم كان يتمنى أن يتيح له الحظ ليلةً سعيدة من تلك الليالي العابثة التي عاشها في القاهرة أول ما هبط إليها! ولكن. . . ولكن من أين له المال؟
انه ما يزال يذكر في لهفة وشوق الليالي السعيدة؛ وما يزال يذكر أيضاً في ألم وحسرة انه احتمل مما انفق في تلك الليلات ما لم تكن به طاقة، من ألم الجوع وذل الحرمان، وأبى أن يكتب لأبيه يومئذ انه فارغ اليد مما أسرف على نفسه
وقنع من أحلامه بهذه السكنى الهادئة، وبأن يعيش من الجنة في ظل حائطها الفينان. وعرف فيه بنات الدار شاباً جم الحياء، عفيف اللسان والنظر؛ فألفن الصعود إلى السطح في الأصيل يستمعن إلى ترجيع أغانيه في طرب ونشوة، ثم يتفرقن قبل أن يزحف الظلام وألف إسماعيل أن يراهن كل يوم، وان يبادلهن الحديث البريء في شؤون وفنون. . . وزال الحجاب بينهما على الأيام
وأطال إسماعيل الجلوس يومئذ حتى غابت الشمس، ولم تصعد واحدة. ترى ماذا منعهن الليلة، وقد اعتدن واعتاد منذ شهر أو يزيد - منذ سكن هذا الدار - أن يجالسهن جميعا أو أشتاتا، ساعةً أو بعض ساعة كل مساء؟. . . ومد الظلام رواقه على القاهرة، وعلى قلب المبعد اللهفان
ودخل غرفته فأشعل مصباحه وبسط دفتره، فإذا هو لا يكاد يرى، وإذا الكلمات والسطور تتلوى أمام عينيه، كما تشاهد فرقة زنجية راقصة. . .!
وطوى دفاتره وارتدى ثيابه وخرج إلى الطريق؛ كانت الليلة ليلة الجمعة، فلم يجد حرجا أن يقضيها في السينما. . ووقف ببابها متردداً وهو يحصي النقود في جيبه، وعيناه تتبعان المارة أزواجاً وجماعات، وهو وحده من بينهم لا يتأبط إلا همه! ليته كان يستطيع أن يدعو واحدة من صديقاته في الدار إلى نزهة، فيصحبها ذراعا إلى ذراع في الطريق كهؤلاء الذين يرى! ولكن من أين له، من أين له المال؟
كم يكفيه ليقضي ليلة سعيدة في صحبة فتاة؟ لقد عرف القاهرة الآن عرفاناً تاماً، فلا سبيل إلى أن يخدع سيشاهد معها السينما في شرفة ذات أستار، ويتعشيان معاً في مطعم فاخر، ثم يستقلان سيارة إلى الهرم، ويشتري لها كل ما تهفو نفسها إليه في الطريق، وبعدئذ. . وبعدئذ يعودان إلى الدار
وفرغ من حسبته وهو يبسط أصابعه ويطويها يحصي ما انفق، وعيناه تأخذان كل من يمر به. . جنيه، جنيه واحد سيمنحه سعادة ليلة! وسخر من نفسه حين انتهى إلى ذاك: من أين له الجنيه؟
ومر به غلام يبيع الجنيهات بالقروش؛ يبيع النصيب! ومد إسماعيل يده فأعطى البائع قرشاً، وتناول ورقة فطواها بعناية ووضعها في جيبه؛ كأنما هو يطوي الجنيه الذي سيصل بين يقظته وأحلامه. ثم عاد إلى البيت فلم يشهد السينما
لم يفكر في شيء من أمره تلك الليلة، فنام ملء عينه وملء بطنه! ورأى أباه في الرؤيا بجلبابه الأسود الفضفاض، وعمامته التي تكبس أذنيه وبعض وجهه؛ جالساً بين غرائر الفول على ظهر المركب المبحرة إلى الشمال، يحصي ربحه ونفقاته، وقد اغبرت لحيته وعلا التراب كتفيه. ونهض في الصباح فنسى كل ما كان من أمره. وصعدت إحدى صواحبه إلى السطح لبعض شأنها، فحياها وحيته وهو يبتسم، كأنه يخفي عنها مفاجئة سارة. وعادت الفتاة وعاد إسماعيل إلى شئونه
وأوقد النار وراح يهيئ الفول بيده على طريقة بلاده؛ سوف لا يتغذى في المدرسة هذا اليوم لأنه يوم عطلة، وفي فطوره الفول ما يغني عن الغداء، فلا تختل ميزانيته اليوم!
ومر يومان وراح يكشف عن بخته بين أوراق النصيب. . . وترقب الفتيات أن يسمعن غناءه فيصعدن إليه، ولكنه لم يعد، واستقل أول قطار إلى الصعيد. . .
مائة جنيه! يا للبخت! لم تكن أحلامه لترتفع إلى ذاك! إنها لثروة. وقسم النقود قسمين، واشترى حافظه ثمينة فوضع فيها بعض ما ربح، وخاط جيبه على الباقي. . . لقد دبر أمراً ليخدع أباه، حتى لا يحرمه المال كله!
وخرج الشيخ متولي من المسجد يداعب سبحته بيده ويتمم بالتسبيح والدعاء، وهو في هم لمقدم ولده من غير داعية. . . وقبل الفتى يد أبيه، وقال له وهو يبتسم:
- الحمد لله على سلامتك يا ابي، لقد كنت مشتاقا إليك!
- مشتاقاً إلي! وهل جئت من اجل ذلك؟ حسبتك رجلا إسماعيل!
- نعم. . . ولكن. . .
لكن الرجل يجب أن يكون على قوة احتمال وصبر، ولست ولدي إن لم تكن رجلاً
- بلى، وإنما قدمت لأمر. . .
- أي أمر؟
- لقد ربحت خمسين جنيهاً فرأيت أن أجعلها عندك!
- خمسين جنيهاً؟
- نعم!
وانبسطت أسارير الرجل، وداعبت شفتيه ابتسامة، واتسعت حدقتاه، وعاد يقول:
- ومن أين لك رأس المال؟ لم تخبرني من قبل انك في تجارة! - لقد ربحت ورقة نصيب!
- وي! ورقة نصيب؟ قمار؟ ميسر؟
واستوى عوده، وانكمشت يده واختلجت شفتاه، ثم قال:
- لا لا، ويحك! لا تجمعها في مالي، إنني رجل شريف، إن مالي من عرق جبيني فلا أريد أن يمحقه المال الحرام!
- أبي!
- اسكت! قم فردا إليهم، دعهم يفرقونها على أصحابها المساكين، من يد كم بائس اجتمعت القروش حتى عادت خمسين جنيهاً؟ إنهم يخدعون الجهال البائسين فيسلبونهم القروش القليلة التي يملكونها، ليوهموهم أنهم سيقاسمونهم بعض ما يجمعون؛ بعض ما يسرقون!
- وهل يمكن. . .
- يمكن أو لا يمكن، فلن أجعلها في مالي، إنا ملونة، قذرة، هل تعرف من أين اجتمعت؟
- لا أعرف
- المال الحلال يعرف دائماً مأتاه. . .
كان قلب الولد يضحك ووجهه عابس، ولم تنته المناقشة بينهما إلى حد؛ فقد تحرج الشيخ الورع أن يضم ربح (الميسر) إلى ماله، ولكنه لم يسأل نفسه عما سيفعل ولده بالمال
وعاد إسماعيل إلى القاهره، ولكنه لم يعد إلى داره إلا بعد ليال ثلاث. . وأطل الفتيات من خلف الباب يشهدن إسماعيل عائداً إلى الدار، يصعد الدرج في زهو وكبرياء، وعليه حله جديدة، وفي عينيه فتور ينبئ أنه قضى ليله سهران
وترامى إليهن غناؤه من فوق السطح أكثر حناناًوفتنة، كما بدا هو أكثر مرحاً ونشاطاً مما كان. وتبادل الفتيات النظر، ثم ولجن غرفهن وغلقن الأبواب
لم تحاول واحدة منهن أن تصعد إليه بمرأى صواحبها، فقد بدا لهن مما تغير من هيئته وحركاته كأنه شخص آخر غير إسماعيل الذي يعرفنه ويثقن بعفته وأدبه، وكأنما ألقى اليهن جميعاً معنى واحد، فخجلن أن يبدوا له، وإن أخذت كل واحدة منهن تؤمل أن تجد فرصة من غفلة رفيقاتها لتصعد إليه وحيدة
وسبقتهن (حكمت) إلى ذاك، ولكنها لم تظهر له أو لواحدة منهن أنها تعمدت أن تصعد واستقبلها إسماعيل ضاحكا، وهز يدها بلطف، وجلسا يتبادلان الحدب. ثم افترقا على ميعاد. . . ووجد الفتى تعبير رؤياه، وكان حلماً أشرق عليه الصبح، فأتمته اليقظة التي تصنع الأحلام
ولكنه لم يقنع بسعادة ليلة، وعاد يتعرف القاهرة من جديد، القاهرة التي فتنت قبل أن يراها، والتي ذاق فيها من ألم الحرمان أكثر مما ذاق من لذة الوهم؛ وراح ينتقم لشهوات نفسه التي قمعها على ألم وضيق عاما وبعض عام
ونفذت دراهمة
لم تجر سفينة الشيخ متولي مجراها كما كانت، فركدت ريحه، وأدبرت أيامه، وعادت الحياة تقتضيه مضاعفة الجهد وبذل الموفور
وجلس إسماعيل مع أبيه ذات يوم صائف بباب متجره، ومر بائع النصيب؛ وتحلب لعاب الفتى وطارت أمانيه إلى هناك؛ إلى القاهرة ولياليى القاهرة؛ وإلى حكمت وصواحب حكمت! ولكنه أفاق من حلمه إذ رأى ذراعه إلى ذراع أبيه. . .
والتفت فإذا الغلام واقف، وإذا أبوه يخرج من جيبه أوراقا يكشف بينها عن بخته، ثم يمزقها ويلقيها، وإذا هو يشتري غيرها فيطويها ويجعلها في جيبه، ليضم صدره على أمل جديد. . .! وتباله الفتى فنهض من مجلسه ليخفي ابتسامة ساخرة، وعلى طرف لسانه كلام. . .
لم يعد الشيخ متولي يسأل نفسه: من أين اجتمعت هذه الجنيهات التي يحاول أن يشتريها بالقروش! فلعله كان يعلم أنها اجتمعت من قروشه الكثيرة التي أداها هو إلى بائعة البخت، منذ تعلم أن يحاول شراء البخت بالمال. . . منذ ربح ولده. . .!
وضحك (إبليس) من الشيخ متولي وهو يمزق الأوراق ويشتري غيرها، وقال لشيطان وهو يعلمه:
(أنظر هذا الأبله؛ ما أرسلت إليه ابنه إلا برسالتي، فقد علقته الحبالة. حسب الإنسان الضعيف أن أربه الحرام مرة؛ فهذا أول عملي في طبيعته)
قال الشيطان الصغير (ثم بعد ذلك؟) قال المعلم (بعد ذلك - أيها الأبله - طبيعته. . .!)
محمد سعيد العريان