مجلة الرسالة/العدد 697/علوم البلاغة في الجامعة
→ الذي عطل الدين | مجلة الرسالة - العدد 697 علوم البلاغة في الجامعة [[مؤلف:|]] |
من غرائب النسيان. . .! ← |
بتاريخ: 11 - 11 - 1946 |
للأستاذ علي العماري
- 4 -
انتهينا في المقال السابق من مناقشة آراء الأستاذ الخولي فيما يتعلق بعلم البيان، وقد أغضينا عن أشياء استكثرنا على علم الأستاذ وفضله أن تكون من آرائه وتوجيهاتة، نفحن هنا لا ننقد إلا ما يتأكد عندنا أنه من رأيه بمراجعة النسخ المختلفة لمذكرات الطلاب، أو بأن يشيع الرأي في فصل من الفصول فيتكرر فيه مرات. ولقد عملنا بالحكمة المأثورة (ما استقصى كريم قط) فأنكرنا بعضاً وأعرضنا عن بعض. وحديثنا اليوم عن آرائه في باب القصر، وهذا باب تعرض منه لثورة عنيفة فناله من حرائها شر مستطير، نرى من الحتم علينا أن ننصفه، وأن نرد إليه كرامته، فأن مسائل العلم عند دارسيها كرامة تعلو على كرامة عظماء الرجال، والأستاذ بدأ أولا فمزق هذا الباب إرباً إرباً، ورمى بكل شلو منه في ناحية. فذهب بقطعة إلى علم النحو، ومضى بثانية إلى علم البيان، أما سائره فأبقاه في علم المعاني ولكن بعد أن هاض جناحه، وتحيف أطرافه، ورأيه أن القصر الجدير بأن يبحث عنه البلاغي هو القصر الادعائي، أما القصر الذي يعبر عن الواقع فيجب أن يبقى في علم النحو لأنه يؤدي به أصل المعنى المراد فقط، والبلاغي إنما تعنيه المعاني الثابتة، وهي المعاني التي يومئ إليها الكلام وراء المعنى الأصلي: (القصر صيغة من صيغ التعبير العربية التي يحتاج إليها في أداء المعاني الأصلية، وتأتي المرحلة الثانية وهي أن القصر الحقيقي ما دام حقيقياً بمعنى أنه مطابق للواقع فهو مرحلة لا تتجاوز أصل المعنى وصحته، أي أن معناه النحوي هو دائما معناه الوحيد ولا يخرج عنه إلى أغراض أخرى. أما القصر الادعائي فبخلاف ذلك له وراء المعنى الأول لصيغة القصر معان أخرى يرمي إليها المتكلم ومن اجلها لجأ إلى هذا الادعاء فأسقط من حسابه كل شيء غير المتكلم فيه وأثبت المعنى الذي عنده له).
ثم يقول: (القصر الادعائي إذا توسعنا قليلا في فهمه وتطبيقه فأننا نستطيع نقله من باب المعاني إلى أسلوب من أساليب التعبير الأدبي، فلا نقصر المسألة على البحث اللفظي والدلالة على جزء المعنى الذي هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال. إذن نخرج من القصر بأسلوب يدخل في البيان لا في المعاني)، ويؤكد هذا الرأي في موضع آخر: (القصر عندي معنى نحوي لا بلاغي، أي أنه من الصيغ العربية لازم لصحة المعنى لا لحسنه؛ فهو يساق لتقوية المعنى لا لجماله، وأنه لا احتراز فيه ولا نفي فيكون معناه أنه تعبير قوي، يتلخص من هذا أن للقصر استعمالات ثلاثاً:
1 - القصر طريق من طرق التعبير العربي فهو صيغة نحوية لأصل المعنى.
2 - القصر صنيع بلاغي قوي لتقويه المعنى.
3 - القصر أسلوب من الأساليب البيانية).
هذا كلامه. ولأناره هذه المسألة نقول: أن بعض العلماء يرى أن مباحث النحو يجب أن تفصل عن مباحث البلاغة، والحد الفاصل بينهما أن البلاغي لا بد أن يكون له ملحظ وراء المعنى الأصلي، فإذا لم يكن له غرض من الكلام غير أداء المعنى الأصلي فلا يدخل أداؤه في مباحث البلاغة. مثال ذلك ذكر المسند إليه فأنه إذا قامت قرينة تجوز حذفه كان المتكلم بالخيار بين أن يذكره أو يحذفه، والحال هو الذي يرجح عنده أحدهما فالشاعر الذي يقول:
بالله يا ظبيات القلاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
كانت له مندوحة أن يحذف المسند إليه (ليلى) ولكنه آثر ذكره بعد دلالة القرنية عليه لو حذف لغرض في نفسه، فإذا لم تكن قرنية تدل عليه أن حذف كان الذكر واجباً، وحينئذ لا يعلل هذا الذكر بغرض بلاغي وهكذا.
على هذا الضوء ننظر فيما ذهب إليه الأستاذ الخولي فنرى أنه غفل عن أمور أربعة حين رأى أن بعض القصر يجب أن يبعد عن دائرة البلاغة، ويبقى في مباحث علم النحو:
1 - فاصل الجملة الواحدة في العربية أن تؤدي حكماً واحداً مقصوداً لا تتعداه سواء أكانت حقيقة أو مجازاً، وغالباً ما يتبع هذا الحكم غرض يسمونه وأمثاله مستتبعات التراكيب، وهذه الأغراض هي التي يلاحظها المتكلم ويقصدها من كلامه. فإذا أدت الجملة حكمين مختلفين خرجت عن أصل الجمل العربية، وكان هذا الاختصار من المقاصد التي يلجأ إليها المتكلم، وهو مقصد وراء الأداء الأصلي. يقول الشاعر:
وليس أخي من ودَّني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب
فنجد هذا المعنى أدى على طبيعة الجملة، فأن أردت أن تسوقه في أسلوب مختصر قلت: ما أخي إلا من ودني وهو غائب، فتلجأ إلى القصر لغرض الاختصار.
2 - من المعروف لدى كل من يشدو شيئاً من علوم البلاغة أن القصر في كل حالاته يفيد التوكيد والتقوية، والأستاذ لا يخالف في هذا ولا ينفعه بل يذكره في غير موضع من مذكراته ويراه أدل على إفادة التوكيد من الاختصاص فيقول أن ما نعبد إلا إياك أكد من إياك نعبد، وبدهي أن التوكيد ليس غرضاً أول بل هو من أوليات الأغراض البلاغية.
ولهذين الأمرين المتقدمين لم يعد العلماء من أدوات القصر الألفاظ تدل عليه من مثل اختصر وقصر وما إلى ذلك؛ فمثل قوله تعالى والله يختص برحمته من يشاء، وقوله: حور مقصورات في الخيام لا يعد من القصر؛ لأن الجملة لم تؤد غير معنى واحد مقصود ولا اختصار فيها؛ فلا يرتبون شيئاً من أحكام القصر على هذه الألفاظ، ولذلك نحن لا نرى رأى أستاذنا الشيخ سلمان نوار حين يرى أنه يجب أن نعد من القصر كل أسلوب ينحدر منه الذهن إلى معنى القصر وأن لم توجد أداة من أدواته المعروفة، ويعرف القصر بأنه دلالة جملة واحدة على اختصاص أمر بآخر سواء كان منشأ تلك الدلالة الوضع أم العقل أم الذوق فيشمل نحو:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ونحو:
أروني أمة بلغت مناها ... بغير العلم أو حدَّ اليماني
ثم يعجب قائلاً (لماذا يجعلون شبه ومشبها من صيغ التشبيه ولا يجعلون نحو احتص من صيغ القصر) وأظن الفرق واضحاً بين دلالة شبه على التشبيه ودلالة اختص على القصر الذي رتبوا عليه الأحكام البلاغية الكثيرة؛ والذوق شاهد عدل في هذا. فأين قولك قصرتك على الشعر من قولك: إنما أنت شاعر؟ وكذلك لم يجعلوا من صيغ القصر الاستثناء التام المثبت لأنه يؤدي معناه الأصلي لا غير. قال صاحب الأطوال: (إذا الاستثناء من الإيجاد ليس القصد فيه إلى الحصر بل إلى تصحيح الحكم الإيجابي، فهو بمنزلة تقييد طرف الحكم؛ فكما أن جاءني الرجال العلماء ليس قصراً كذلك جاءني الرجال إلا الجهال ليس قصراً بخلاف نحو ما جاءني إلا زيد، فأن المقصود منه قصر الحكم على زيد لا تحصيل الحكم فقط وإلا لقيل جاءني زيد) ونحن نريد أن نبسط القول في أدوات القصر لنقطع كل حجة على من يتهم العلماء بأنهم ضيقوا دائرته، وأنهم غفلوا عن مزاياه، وأنهم وضعوا في علم البلاغة ما كان يجب أن يوضع في علم النحو، وسنقتصر على الطرق الأربعة التي ذكرها الخطيب القزويني في الإيضاح وهو الكتاب الذي يشرحه الأستاذ في الجامعة ويعلق عليه.
(التقديم) قد كفأنا الأستاذ مؤونة القول في هذا الطريق وأنه لا يؤدي به أصل المعنى فحسب بقوله: (أما التقديم فمادام الأصل فيه التأخير أي أن الحالة الطارئة هي التقديم فلا يكون إلا لملحظ بلاغي).
(العطف) ومن المسلم به عند العلماء والذي لا يعارض الأستاذ فيه أن هذا الطريق لا يؤدي به إلا القصر الإضافي، وأنه (لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب) وهذه عبارته، وطبيعته القصر الإضافي تقتضي ذلك فهو إما لبيان خطأ المخاطب في اعتقاد الشركة بين الأمرين أو في اعتقاد العكس، وإما لإخراجه من ظلمة التردد والحيرة في قصر التعيين، فهذا الطريق أيضاً لا بد يلاحظ فيه حملظ بلاغي.
(النفي والاستثناء). (إنما) قد فات الأستاذ فيهما أن يرجع إلى الشواهد العربية، ونظر إلى الموضوع من ناحية القواعد الجافة مجردة عن شواهدها، ولو أنه نظر من هذه الناحية لرأى عجباً، كما يرى أن المرجع الأول للبلاغة وهو كلام العرب يدل بوضوح على أن هذين الطريقين لا يجيئان حين يراد أصل المعنى أبداً، وإنما يجيئان حين يقصد المتكلم غرضاً من الأغراض. فالأصل في الأول أن يجيء فيما بجهلة المخاطب وينكره، فإذا جيء به فيما يعلمه لوحظ تنزيل العالم منزلة الجاهل أو تنزيل المعترف منزلة المنكر (وأما الخبر بالنفي والإثبات فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه، فإذا قلت ما هو إلا مصيب قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته، وإذا كان الأمر ظاهراً لم تقله كذلك فلا تقول للرجل ترققه على أخيه وتنبهه للذي يجب من صلة الرحم ومن حسن التحاب: ما هو إلا أخوك. ومتى رأيت شيئاً هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي لذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه).
وأما (إنما) فتجئ فيما يعلمه المخاطب ولا ينكره ولكن مع ملاحظة غرض غير ما تضمنه أصل الكلام (أعلم أن موضوع (إنما) على أن تجئ لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل هذه المنزلة، تقول للرجل إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب. وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله:
إنما مصعب شهاب من اللَّ ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنها ثابتة لهم وأنهم قد شهروا بها وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يجهله أحد. واعلم أنه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق).
لعل القارئ يتبين بعد ذلك أننا نخطئ الخطأ الأكبر حين نعتمد على القواعد جافة مجردة عن شواهدها، أو نلجأ إلى الشواهد التي وضعها المتأخرون ثم نحاول هدم القواعد جملة. والذي قلناه في هذه الطرق المشهورة يمكن أن نقوله في كل طرق القصر، وبذلك نجد أن العلماء حين وضعوا القصر في علم المعاني لم يخطئوا.
4 - أجاب بعض العلماء عن مثل هذا الاعتراض بما أعده (أضعف الإيمان) ولكنه على كل حال جواب صالح. وذلك أن المتكلم قد تدعوه الحال أن يؤدي الكلام مقتصراً على المعنى الأصلي، وما زال العلماء يرون أن خالي الذهن يجب أن يلقى إليه الكلام مجرداً عن التوكيد، وبذلك يطابق الكلام مقتضى الحال. قال التفتازاني في المطول: (أن المقتضى أعم من الواجب والمرجح، ولا نسلم المنافاة بين وجوب الذكر وكونه مقتضى الحال، فأن كثيراً من مقتضيات الأحوال بهذه المثابة) وهو جواب عن المسألة التي ذكرناها في أول هذا المقال.
أما الذهاب بالقصر الادعائي إلى علم البيان فأمره أشد غرابة. وذلك أن علم البيان وضع ليحترز به عن التعقيد المعنوي، فهو يبحث في الجملة من حيث أداؤها للمعنى، فينظر في ألفاظها ومدلولاتها وتركيبها، فمرجع مباحثه إلى اللفظ التركيبي ومدى تأديته للمعنى، فلتشبيه والمجاز والاستعارة والكناية كلها طرق يمكن البحث في صورها من حيث دلالتها على ما سيقت له، وليس كذلك القصر الادعائي فأن المزية التي فيه ليس لها مظهر في صورة الكلام، وإنما مظهرها في اعتبار المتكلم، فتناسى المتكلم لكل حالة غير الحالة المتكلم فيها أمر في نفسه هو ولا مظهر له في أجزاء تركيب الجملة، وإنما جعلت الجملة مشيرة له، ففرق بين أن تقول: ما شوقي إلا شاعر، وبين أن تقول: شوقي بلبل غرد ثم سكت، فأنت تبحث في الثانية عن الكلمات وأدائها للمعنى، وأما في الأولى فأول مرجعك قصد المتكلم وغرضه، والحال التي ألجأته إلى هذا التعبير، وهذا هو مبحث علم المعاني. على أن العلماء قالوا أن الجملة يمكن النظر إليها من جهات مختلفة فهي من حيث مطابقتها لمقتضى الحال تكون من مباحث المعاني، ومن حيث أداؤها للمعنى تدخل في مباحث البيان، ولا شك أن القصر بجملته يلاحظ فيه الأحوال الداعية. وقد يمكننا على هذا أن ننقل كثيراً من الأساليب إلى علم البيان؛ فالالتفات بأقسامه الكثيرة، والتعبير بالخبر عن الإنشاء، والأسلوب الحكيم، والتعبير عن الأمر بطريق الاستفهام وما يتصل به من هذه المباحث الطويلة العريضة كل أولئك مما يمكن التلمس لها فتدخل في مباحث البيان، ولكن أهي غريبة عن علم المعاني؟
أهناك داعٍ إلى هذا التمزيق؟ لا.
المسألة يجب أن تقتصر على التجديد في قواعد الفن والزيادة عليها أو النقص منها؛ أما أن نجدد فننقل قطعة من مكان إلى مكان ثم لا نفعل شيئاً أكثر من ذلك فلا.
وأحب أن أهمس هنا همسة في آذان الذين ينتقصون القدماء من غير مبرر وهي أن علماءنا الأعلام لم يكونوا أصحاب أذواق مريضة، ولم يضعوا القواعد وهم مغمضو الجفون عما وراءها من الشواهد، ولكنهم درسوا تراث العرب الأدبي وفهموه وتذوقوه ثم وضعوا بعد ذلك قواعدهم - أليس السكاكي وهو مقَعِّد هذا الفن ومفلسفة هو صاحب الرأي القائل بأن إعجاز القرآن لا يدرك إلا بالذوق. وفي ذلك يقول: (واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا). ويقول في موضع آخر بعد أن ذكر وجوهاً أربعة للأعجاز (يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا استبعاد في إنكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ثم ضممنا الذيل ما أن ننكره). أو ليس السكاكي هو الأعرج الثاني الذي قيل فيه وفي صاحبه الزمخشري: (لولا الأعرجان لضاعت بلاغة القرآن)؟ أفبعد هذا يقول قائل أننا لا نثق في ذوق المتقدمين (وأنهم شملهم كغيرهم ذوق العصر، ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضه طرية عطلا من زينة وحلية، ومن ثم كانت تفاهة الاستشهادات والتخريجات، وكان لجوئهم إلى الفلسفة هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، ولم تظهر لهم زينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصبغ والألوان والشعبذة اللفظية).
بخ. بخ. . . لقد قال شوقي على لسان أحد أبطاله:
تهددني زياد وأنت ظل ... لمجنون وراوية لهاذى
وتزعم أنني نِدُّ لقيس ... رضيت من المصائب غير هذى
فهل كان يقول على لسان السكاكي والخطيب وغيرهما من أساطين البالغة والأدب؟!
(يتبع)
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة