مجلة الرسالة/العدد 697/الذي عطل الدين
→ من أحاديث الإذاعة: | مجلة الرسالة - العدد 697 الذي عطل الدين [[مؤلف:|]] |
علوم البلاغة في الجامعة ← |
بتاريخ: 11 - 11 - 1946 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ما رأيت شيئاً أضر الحياة وأضر الدين وحال دون شيوعه في الناس مثل ما عطله الإيغال فيه والاستغراق في معانيه حتى يصير بعيداً عن متناول عقول أكثر الناس ومتناول جهدهم المحدود وإحساسهم بالحياة. . .! وينبغي لقواد الاجتماع ألا يخطوا خطوة عامة في رحاب الفكر الاجتماعي إلا وهم مقدرون أن جمهور الإنسانية يستطيع أن يخطوها وراءهم.
وقد كان نتيجة ذلك الإيغال أن حياة أكثر الناس انفصلت عن حياة الدين واتجهت إلى مجرى المادية الصماء - وهو المجرى الظاهري وحده - من غير أن يصحبها الروح السامي الذي يليق بعظمة تفرعاتها المادية وتشقيقاتها.
ولو أن الدين نظر إليه على أنه موقف لازم من مواقف الحياة كالأكل والنوم والرياضة والعلم الخ. . . وساير حياة المجتمع، وفهم على أنه (ركن مادي) فيها لا بد أن تقوم عليه كما تقوم على غيره من دعاماتها كالقانون وحفظ الأمن مثلا، ولم تلتصق به نزعات التصوف والانطلاق الشعري المغرقين، وتصوير موقف الإنسان فيه موقف الفناء والإنكار للنزعات المادية التي تستلزمها الحياة بالجسد، والخروج من الدنيا بالسهر والجوع والزهد واستمراء الآلام قبل الخروج منها بالموت. . . إذاً لسارت الحياة الإنسانية في تناسق بين جانبيها الروحي والمادي.
ولو علمنا أن الحياة صادقة أصدق من تلك النزعات الشاذة التي تجلت في أفراد من المتشائمين، من كل من طلق الدنيا ألماً منها أو زهداً في لذاتها، لتغير الموقف العام، فأن الحياة الإنسانية في مجراها العام أخذت الإنسانية كلها، ونقلتها إلى رحاب الكرامات والتسلط والتسخير عنطريق العلوم الموضوعية ومكارم الأخلاق العملية لا الاستغراقات الذاتية الضيقة.
ولا يغرننا من شذوذ كل أولئك الصوفيين المغرقين ما تركوه من كلام شعري مزوق جميل في طيوف وأشباح وأصداء لوجداناتهم المحرومة المولهة التي تركت طرق الحياة الواضحة، وأرادت أن تدرك الله الأعلى بعقولها المحدودة، فكانت النتيجة الحتمية لذلك المطلب هي بلبلة الخاطر وخفاء البيان واضطراب السير. . .
أن الحياة المادية العلمية الظاهرة هي الحكم لصالح حياة الجماعة، وهي الأفق الأول الذي أراد الله العظيم أن تتجلى فيه أسرارنا ونتائج خلقتنا، ونتائج جهادنا فيها نتائج دائمة ثابتة، يراها أطفالنا وجهالنا كما يراها علماؤنا وفلاسفتنا.
وأنا مؤمن بالإنسانية ذات المنطق الواقعي المستمد من الطبيعة، ناشد كمالها عن طريق تكميل سيطرتها على الطبيعة وإدراكها للنفس إدراكاً علمياً وتحكمها في العمل تحكماً صالحاً.
ومن الذي سار وراء الشذوذ من الصوفية والمتشائمين وأخذ أخذهم في الحياة؟ أنهم أقل عدد، ومن صالح الأرض أن يكون ذلك كذلك، إذ لو طاوعهم الناس لعطلت الأعمال في الأرض، ولم تتحقق الأعمال البارعة التي للإنسان في المادة وأسرار الحياة
غير أن الإنسانية أن كانت طبيعية بسيرها هكذا فقد أساءت بإهمال جانب الروح فيها باعتباره دعامة أساسية في الحياة ذلك الإهمال الشنيع.
وربما يكون ذلك الأمر محتملا في العصور السالفة، عصور القصور والطفولة، ولكن الآن يجب أن تدرك أنها بلغت دوراً لا يصح أن تسكت فيه على إهمال الجانب الروحي في حياتها، باعتبار أنه (ركن حيوي) ودعامة نظامية لحياتها المادية ذاتها، والحمد لله قد تحول كثير من أحلام الروحيين القدماء إلى أخلاق عملية عامة.
والتصوف بمعناه العملي شيء سام عظيم في رياضة الخلق وتطبيع الأعصاب على السمو والخير وإيقاظ الضمير، ولكنه بمعناه الشعري الذي نراه في شعر بعض القوم ليس أخلاقاً، وإنما هو أحلام وتأملات مستغرقة حادة للخلاص من الجسد لرؤية الحقيقة العظمى والخروج من نطاق الأرض لرؤية ما وراءها، وهؤلاء لا يهتمون بالإعمال والأخلاق كالحلاج وغيره؛ فواجب أن ننظر إليهم لا كرجال دين يسنون طرقا ليسير الناس عليها، وإنما كشعراء استهوتهم المعاني الدينية فأسرفوا فيها، واستغرقوا وأنطلق وجدانهم فيها كما استغرق أبو نواس في الخمر وبشار في الملذات الحسية. . .
وقد ينظر إلى معانيهم على أنها انطلاقات في (فن الدين) أو موسيقى في جوه ليست ذات محصول. . . وقد ينظر إليهم رجل الدين العالم العملي على أنهم صناع أحلام استهوتهم إلى غير الطريق الجمعي. وكل فتح عظيم لهم وتستطيع الإنسانية أن تنتفع به ينتهي إلى (صواب الأحكام) عن طريق البيأن؛ لأنهم أطالوا التأمل وأدمنوا تقليب النظر في وجوه الأشياء المختلفة. وهذا لا يتيسر لكثير غيرهم.
ولم يأت وصف لله تعالى على لسان أي مخلوق بما يخرج عن نطاق عمله تعالى وصفاته الممثلة في الطبيعة التي تدرك بالقوى الواعية وبالحواس.
نعم قد تشرق عليهم لمعات من الأذواق الغريبة عن الحياة ومن المشاهد الغيبية، ولكن لا يستطيعون إظهارها، لأنها يضيق عنها نطاق النطق كما يقرر الغزالي.
وأني ما قرأت بيان صوفي إلا وجدته خيالا شعرياً جميلا، أن كان صاحبه قديراً، ورديئاً أن كان صاحبه قاصراً كليل الذهن، وكثيراً ما أظفر بمثله من بيان أهل الدنيا السائرين على ظاهرها.
وتظهر قيمة القرآن العظيم حين أراه يأخذ المجتمع كله بمنطق وسط صالح للجماعات، وحين أراه كتاب العدل والاتزان والاعتراف بالحياة المادية والحياة الروحية كأساس واحد لازم للحياة الإنسانية.
والعمل هو روحه، لا الأماني الشعرية، ولا الأغاني الدينية ولا التماس (حسن التعليل) ولا الأماديح التي تتملق ويتهرب بها صاحبها أو يتشفع بها ويعتذر في مسئولية إهمال الأعمال، كتلك المعاذير التي يتخذها الناس مع رؤسائهم الدنيويين.
والثواب والجنة الحسية والحسنى والرضا والرحمة والاحترام والخير لذي الخير هي من أدواته كذلك في الدعوة ومجازاة الفضائل والطبائع الكريمة لأنها منطق الغرائز الصالحة والأخلاق المثلى. وكل أخلاق القرآن هي أخلاق أبناء الحياة بجزأيها العاجل والآجل، الصالحين لعمارة الأولى ونموها والعاملين لحيازة الأخرى والرفعة والرفاهة الخالصة فيها.
وكل عقائد القرآن واضحة مأخوذة من منطق الانفصال بين الإنسان والله تعالى؛ فلا حلول ولا وحدة ولا اتحاد، وبين الله والطبيعة، ومن موقف الخلافة في الأرض خلافة واسعة والتدخل في شئونها جميعاً، لا التقليل من شأنها والهرب من مجابهة فتنتها كدار امتحان وكفاح وابتلاء. موقف الاعتراف بقيمة الجسد الإنساني وسمو الروح الإنساني ووجوب الجمع بينهما لصلاح الحياة والفكر.
فلندن لله بالحياة، ولنتعبد بها هي ذاتها، ولنتخذ منطقنا من سننها التي لا تتبدل وحقائقها التي لا تلتوي، لأنها منطق الله ربنا وربها، وما عرفنا الله إلا منها. فكيف نهملها؟ وكيف نجهلها أو نجهل عليها؟ فيها قِوامها، ومنها دينُها!.
ولنعرض أقوال الرجال على موازينها قبل الأخذ بها في تسليم وغرور. . . ولنحذر أن نعكس الأمر فنعرض أمر موازينها على أقوال الرجال، فأن أقوال الرجال متغيرة متناقضة وأقوالها هي ثابتة لا تتبدل!
ولكل عقل موهوب الحق في الاتصال بها والاحتكاك بقوانينها ليكون من وراء ذلك اتصال مباشر بعقل الوجود، وقلب الطبيعة. . .!
وقد صارت الحياة تغرز بصدقها قلب الإنسان وتستهويه وتبعده عن الخوف والوجل من القرب منها، وجعلت أبناءها المجاهدين الشجعان هم السادة، وتركت الفارين منها في خوف ووجل يئنون تحت أثقالها وهم يحبسون أن أنينهم هذا شعر ونشيد وحكمة. . .! وما ظفر فيها بالحق إلا من أحس بها وتقرب إليها وبعد عن أساطير الأولين من المرضى والفارين الذين حرموا من الإحساس بعنفوان شبابهم يفيض في كيانهم. . .
عبد المنعم خلاف