الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 69/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 69/العلوم

بتاريخ: 29 - 10 - 1934


فكرة النظام الشمسي الحديثة

تغلب النظام الكوبرنيكي على النظام البطليموسي

بقلم فرح رفيدي

من البدهيات التي لا تستلزم حيرة الإنسان كثيراً هي أنا نرى الشمس تدور لأن الأرض تدور، ولولا ذلك لما كان ليل ونهار، ولكانت الأرض أبداً نصفين ثابتين، نصفاً مظلماً قاتماً، ونصفاً مستنيراً أبداً بشمس ثابتة

وهذا الذي قد نعتبره أمراً بدهياً اليوم، كان بالأمس سبب الشقاق وموضوع الحوار، وقبلة أنظار الباحثين من الفلكيين وغير الفلكيين. ومنذ مئة وخمسين سنة فقط كان الحوار قائماً على منبر جامعة هارفرد بأمريكا في إذا ما كانت الأرض تدور أو لا تدور، وكان من برنامج الجامعة نفسها أن تدرس الفكرتين المتناقضتين في وقت واحد. وقبلها بوقت قصير كانت جامعة باريس تؤيد الفكرة القائلة بأن حركة الأرض حول الشمس فكرة مناسبة إلا أنها خاطئة. فحداثة هذه الفكرة تدل على أن الفكرة اليونانية عن نظامنا الكوني لم تزل من قلوب الناس بإعلان كوبرنيكس لفكرته الجديدة، بل ظلت الفكرتان تتحاربان في عقول الناس إلى أن تغلبت إحداهما على الأخرى. وكان الانتصار الذي أحرزته الفكرة الجديدة انتصاراً نهائياً للحقيقة، وموتاً أبدياً للفكرة الباطلة التي شغلت عقول الناس بتناقضها وكثرة تعقدها

قبل أن يبزغ نور الفكرة الحديثة بألفي سنة كان فيثاغورس اليوناني يعتقد بحركتي الأرض اليومية والسنوية، غير أن هذا الاعتقاد قد قضى عليه أرسطو، ورفضته الكنيسة لمنافاته للدين المسيحي في العصور الوسطى، فمات قبل أن ينشر أو ينتفع به أحد، والكنيسة لم تقف عند حد رفض الفكرة وتحريم الاعتقاد بها، بل تعدته إلى تضحية كل نفس جاهرت بمعتقدها الحر، فأحرقت جيوردانوبرونو سنة 1600 لاعتقاده بعوالم عديدة في الكون غير عالمنا، وقاسى غاليليو ألواناً من العذاب لتأييده ما أقره كوبرنيكس. وكوبرنيكس نفسه كان محجماً طول مدة حياته عن أن يجاهر بعقيدته خوفاً من الكنيسة ومن أن يهزأ بفكرته، ولم ينشر كتابه عن النظام الشمسي إلا بعد أن مات

أول شئ جعل كوبرنيكس يطرح النظام البطليموسي جانباً ويجاهر بنظامه الحديث هو صعوبة الأول وتعقده، وعدم مطابقة الحجج الكثيرة للظواهر المشاهدة في الكون، وذلك ما يفقده ميزة الجمال والبساطة الطبعية. وليس بالأمر الغريب الذي جعل الفونس العاشر ملك قشتالة يقول لما رأى النظام اليوناني كما شرح له. (لو استشارني الله يوم خلق هذا العالم لكان الكون أبسط وأجمل مما هو عليه الآن). وقد أصاب شيشرون الروماني بوصفه الكواكب بأنها لم تكن سهلة التعبير، إذ هي تارة متأخرة، وتارة متقدمة بين النجوم. وقد نراها في بعض الأوقات سريعة، وفي غيرها بطيئة، وأحياناً في المساء وأخرى في الصباح، فهي لا تبقى على حال واحدة أبداً. واليونان أنفسهم أقروا بفظاعة أفكارهم وعسر تحليلاتهم، ولم يقدروا أن يتصوروا كوناً طبيعياً من صنع الإله الأكبر وفيه هذه المتناقضات والصعوبات الجمة التي شاهدوها في حركات الكواكب السيارة. فكان عندهم الكون ظاهره وباطنه وما فيه من أجرام مختلفة الحجم متباينة الضوء مثالاً للتكامل والتلاؤم. فشكل الكون كان كروياً كشكل أجرامه التي تحدث بدورانها دوائر مستقيمة متعادلة. ولأن الدائرة كانت أتم الأشكال الهندسية تلاؤماً، والكون متلائم ومتسق مثلها، كانت صفة تابعة لحركات النجوم ومداراتها. على أن محاولاتهم هذه من تفسير الكون كنظام يسير لتطبيق قواعد هندسية سطحية، لا كنظام خاضع لنواميس طبعية أصلية، أفسدت عليهم الأمر وكانت سبباً في تعقيد الفكرة وإخراجها بصورة يصعب على العقل تصويرها أو إدراكها. فكانت النتيجة أن قام كوبرنيكس بفرض نظرة أسهل على الفهم وأقرب للمنطق من الفكرة القديمة. فجعل فكرته سهلة التعبير، بسيطة خالية من الدوائر أو شبه الدوائر الموجودة في النظام البطليموسي

في سنة 1507 آمن كوبرنيكس بدوران الأرض حول الشمس، وكاد يذيع ذلك لولا خوفه من أن يتهم بالهرطقة والكفر. وذلك لأن الكنيسة حينئذ كانت تدعي أن الإنسان مادام أعظم المخلوقات في الكون، وغاية ما أبدع الله على صورته، وأن كل مخلوق ما عداه وجد له وله وحده، وما دامت الأرض هي موضع ذلك المخلوق العظيم ومكان الجبلة الممتازة المنفوخ فيها من روح الإله، فهي بلا شك مركز الكون، ومحور دورانه، ومركز انعكاس أضوائه من مختلف الجهات حولها. وإن من أخذته أدنى ريبة في ذلك فقد أهان الإنسان وحط من مقامه الرفيع بين المخلوقات ونال من كرامة الإله وقوته وجبروته، لأنه هو والإنسان صورة واحدة

رأى كوبرنيكس أنه إذا كانت الأرض ثابتة فإن كل شيء ما عداها يتحرك. أي أن الكون من كواكبه السيارة وغير السيارة في حركة دائمة حول نقطة ثابتة في مركزه، ونقيض ذلك هو دورة الأرض وثبات ما حولها، وإذا قابلنا بين الفرضين وجدنا أن الظواهر الناتجة من الثاني هي كالنتائج الظاهرة من الأول، بل إن الفكرة الثانية، أي دورة الأرض، أسهل للعقل وأخف على الفكر من الفكرة الأولى. لذلك افترض كوبرنيكس دورة الأرض كشيء أقرب للحقيقة وأصدق للتعبير عن مظاهر الكون من فرض ثباتها ودورة الكون حولها. وقد رأى مما يبرر اعتقاده بدورة الأرض، أن للكواكب السيارة شذوذاً في حركتها، وأن اختلاف هذه الحركات يبين أن الكواكب تدور حول مركز غير الأرض. فبما أنها تارة قريبة وتارة بعيدة عن الأرض، ليست مركزاً لدوائر حركاتها

أكد لبطليموس ثبات الأرض اعتقاده لأن الدوران يهدمها ويفتتها فتتناثر في الفضاء قطعاً. فهاجم كوبرنيكس هذا بقوله: إن دورة الكون السريعة حول الأرض يجب بناء على ذلك أن تفتت الكون كله في الفضاء، ولو سلمنا بدورة الكون بدون تفتيت، أليس من نتيجته أن يتسع الكون ويتمادى في الاتساع حتى تبتعد أجزاؤه عن مركزه؟ وهذا الابتعاد عن المركز يزيد بسرعة الكون وقوة دورانه؟ وذلك لاتساع حلقته ولزوم دورتها في مدة أربع وعشرين ساعة؟ ثم إن قوة الدوران أن تدفع بأجزائه أكثر عن المركز فيتسع وتزيد بذلك سرعته التي تعود فتزيد بتوسيعه وهكذا إلى ما شاء الله. وعلى ذلك تصبح السرعة متناهية ويمتد الكون إلى ما لانهاية له؛ فإذا كان كذلك غير محدود الأطراف فالحركة ليست من صفاته لعدم وجود متسع في الفضاء لإتمامها، ثم لو كان الكون محدودا ومتحركا فماذا يكون وراء الجليد؟ فإذا كان لاشيء فهل يمكن أن يكون شئ محاطاً بلا شئ؟ هكذا احتار كوبرنيكس في أن يعتقد بكون محدود متحرك، أو بكون متحرك غير محدود. والتناقض جلي بين الفكرتين. لم يدر كوبرنيكس ما إذا كان الكون محدداً أم غير محدود، ولكنه كان متأكداً من حد الأرض وإحاطتها بسطح كروي، وقد عرف أن الاعتقاد بحركة شئ محدود أسهل من الاعتقاد بشيء متناه غير معروف الحدود. فالأرض إذن حقيقة تدور، ونتيجة هذه الدورة في هذه الحركة الظاهرية في السماء التي نشاهدها ليل نهار.

قبل أواخر القرن السادس عشر سمع بالفكرة الجديدة (ثيخو ميراهي)، ولاشتياقه لمعرفة صحتها اعتزم عمل زيج جديد دقيق لحركات الكواكب، فبنى مرصداً ذا قبة متحركة، وعمل ربعاً قطره 19 قدماً، وكرةً تمثل الكون قطرها خمسة أقدام، فحصل بذلك على أرصاد دقيقة جداً. على أنه لم يتم ما أراد تحقيقه إذ مات في سنة 1601

أتى بعد ميراهي رجل ألماني اسمه يوهنس كبلر، وكان هذا بعكس ثيخو تنقصه الموهبة الميكانيكية. ولكنه كان ذا مقدرة كبيرة في الاستنتاج والتمييز بين حالة وأخرى، وجمع الحقائق بعضها إلى بعض لتكون نتيجة حقيقية واحدة. فما كان منه إلا أن أخذ نتائج أرصاد ثيخو في الكواكب، وصار يتأملها ويبحث فيها ويقابلها، حتى توصل إلى ثلاث حقائق أساسية في بناء فكرة الكون الحديثة:

الأولى: توصل إليها كنتيجة لسبعة أرصاد للمريخ في موضع واحد، وهي أن الأرض تدور حول الشمس، ليس بشكل دائرة كما أعتقد اليونان، بل بشكل منحرف قليلاً عن الدائرة يسمى قطعاً ناقصاً والشمس تقع في إحدى بؤرتيه

الثانية: المستقيم الذي يصل الأرض بالشمس يقطع في الفضاء مساحات متساوية في أوقات متساوية.

الثالثة: نسبة مربع زمن دورتين لكوكبين هي كنسبة مكعب المسافتين من الشمس. أي إذا كانت مسافة الكوكب الأول من الشمس م1 ومسافة الكوكب الثاني م2، وكان زمن دورة الأول حول الشمس س، وزمن الثاني ص فهذه الحقيقة هي كالمعادلة م1 2: م1 2: س3: ص3. وقد دل نيوتون فيما بعد بمعادلات رياضية وبالمقابلة أن هذه الحقائق الثلاث تنطبق لا على الأرض وحدها، بل على كل كوكب من كواكب المجموعة الشمسية، وقد عرفت بقوانين كبلر نسبة لمكتشفها العظيم

في العصر الذي كان فيه كبلر يجرب أن يوحد أجرام النظام الشمسي بقوانين أساسية ثابتة، ويحكم ظواهر الكون لمسبباتها الطبيعية، كان بعيداً عنه وفي بلاد بعيدة، رجل إيطالي منهمك في صنع تلسكوب جديد لينظر به سطح القمر، وليرى قوانين كبلر تعمل عملها بين المشتري وأقماره. في سنة 1609 صنع غاليليو أول تلسكوب، وفي سنة 1610 استطاع أن يرى سطح القمر ويميز الأماكن المرتفعة من المنخفضة فيه، وأن يظهر حقيقة المجرة كمجموعة كبيرة من النجوم الصغيرة المتقاربة من بعضها، والتي ترى لكثرتها كأنها جسم واحد

في مساء ليلة من ليالي يناير سنة 1610 أحرز غاليليو أعظم نصر عرفه النظام الكوبرنيكي على النظام البطليموسي، إذ رأى حينئذ المشتري وحوله أقمار أربعة تحوم حوله. وهذا ما يؤيد أن الأرض ليست هي وحدها صاحبة الكون ومركزه، بل هناك أجرام أخرى لها ذات الميزة التي اختصها بها اليونان الأقدمون. واستطاع غاليليو بذلك أن يسقط أهم دعامات النظام البطليموسي الذي يقول: إن الأرض وهي - أهم الأجرام في السماء وأقدمها وموطن أرقى المخلوقات والمسرح الذي مثلت عليه مأساة المسيح ابن الله - لابد أن تكون مركز الكون ومحور دورانه

ومن جملة الأسباب التي كان يحتج بها أرسطو في تأييد النظام القديم، وهو أنه لو فرض دوران الأرض حول الشمس، فإن عطارد والزهرة يجب أن يظهرا بأوجهٍ كأوجه القمر، وبما أنا لا نرى شيئاً من ذلك فدورة الأرض حول الشمس فكرة فاسدة، ولكن غاليليو لم يجب على ذلك قبل أن رأى في تلسكوبه أوجه الكوكبين واختلافها بحسب موقعها من الأرض، وهكذا سقطت دعامة أخرى من دعامات النظام البطليموسي، ولم يبق لذلك النظام إلا أن ينهار من أسسه التي لم تقدر على احتمال ضغط التجارب الشديد

منذ تلك الاكتشافات كان غاليليو سبب ثورة عاصفة من النقد والبحث والشك في أوربا. وكان الناس يتساءلون فيما قد تكون حقيقة هذا الكون الذي خدعهم ظاهره مدة طويلة من الزمن؟ وماذا عسى أن يحدث من حط عظمة الأرض والإنسان والخالق من مكانها الأول؟ وما الذي تجيبه عليه الكنيسة والتوراة دحضاً لهذه المظاهر الجديدة وتطميناً للنفوس الحيرى المضطربة. ذلك ما زاد قلق الكنيسة والبابا على ضياع النفوس من حظيرتها، فهبت تناصر القديم بالتوراة والدين، وتشددت في تعاليمها ورفضت كل معتقد غريب عنها، وحاكمت من الشعب كل من عصى أمرها أو أهان قدرها. وكان غاليليو أول من صبت جام غضبها عليه، فصادرت كتبه وأرغمته مرات على رفض معتقده والتمسك بما تقول الكنيسة، وحوكم وعوقب من أجل ذلك. غير أن وقفة الكنيسة هذه لم تخفه ولم يهب سطوتها، وقد جرب إقناع مناوئيه ببراهين منطقية وعملية على فساد فكرتهم، حتى أنه كثيراً ما كان يناقضهم بحجج من التوراة، وكان يقول لرؤساء الدين عن عملهم هو تعليم الناس كيف يذهبون إلى السماء لا كيف تدور السماء. بيد أن الكنيسة لم تعر ذلك سمعاً، وأبت عليه أن يقارعها الحجة بالحجة خوفاً على هيبتها ووقارها أمام الشعب

وأخيرا في سنة 1616 التأم المجمع المقدس في روما، وقرر رفض حركة الأرض رفضاً باتاً من تعاليمها وعد الاعتقاد بها هرطقة وعصيانا. وبعد ذلك بسنة أصدر البابا بولس الخامس أمره لغاليليو بألا يعتقد ولا يعلم ولا يدافع عن فكرته الجديدة. ومن بعض أتباع البابا وأصدقاء غاليليو من نصح له أن يفرض ما يعتقد به عن حركة الأرض فرضاً بدون أن يجزم بحقيقته. غير أن غاليليو ظل يشتغل حتى سنة 1632 عندما أظهر كتابه وفيه الحوار بين رجلين عن النظامين البطليموسي والكوبرنيكي، فسمعت الكنيسة به ومنعت بيعه، وأوعزت إلى محكمة التفتيش جلبه لروما، وهناك حوكم وهدد بالتعذيب إن عاد وجاهر بإنكاره، وحكمت عليه المحكمة أن يتلو كل أسبوع أمامها مزامير التوبة السبعة لمدة ثلاث سنوات، ولولا أصدقاؤه الكثيرون في روما لذهب ضحية أفكاره الجريئة

لكن برغم كل ما فعلته الكنيسة من إرهاب وتشديد، وبرغم كل ما أصدره البابا من أوامر تحريم وتعذيب، فأن الحقيقة ظلت سائرة في طريقها إلى الأمام، وما كانت لتختفي مرة إلا لتظهر للملأ بصورة أوضح وأروع من الأولى. وبدأت فكرة النظام الحديثة تتحقق تدريجياً في عقول معتنيقها، وتكبر وتتسع حول أساس جديد متين. وما زرع البذرة الأولى كوبرنيكس ونمت حتى أتى كبلر وغاليليو بعده وزادا في نموها وتحكيم أصولها في النفوس. ثم جاء نيوتون وربط أجزاء النظام الجديد بقانون الجاذبية العام. وأثبت صحة الحقائق التي استلمها عن غاليليو وكبلر ببراهين رياضية دقيقة، وظلت الفكرة تنمو وتتسع، والنظام الشمسي يكبر باكتشاف سيارات جديدة فيه كأورانوس ونبتون، حتى اكتشف نهائياً بلوتو في سنة 1930 وهو أبعد الكواكب السيارة عن الشمس. وكان ذلك خاتمة النمو المطرد في فكرة النظام الشمسي الحديثة، الذي ابتدأ من كوبرنيكس وبقي نحواً من ثلاثة قرون.

فرح رفيدي