الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 683/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 683/الكتب

بتاريخ: 05 - 08 - 1946


فقه القران والسنة

القصاص

لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت

للأستاذ محمد محمد العزازي

من فترة بعيدة في تاريخ المسلمين، وكل ما يؤلف في الفقه الإسلامي لا يعدو أن يكون شرحاً أو جمعاً أو تلخيصاً لا تبدو عليه مسحة من الاجتهاد، أو حتى من الفهم المستقل، وكان لهذا أثره السيئ من رمي المسلمين بالجمود، ومن قصور التشريعات الحديثة، ومن خفاء محاسن الشريعة الإسلامية على المسلمين أنفسهم. قال الشيخ شلتوت متحدثاً عن (جفوة المسلمين للفقه في العصر الأخير):

(ولقد مضى هذا الزمن، وصار الفقه الإسلامي صناعة علمية مجردة عن المعاني النفسية والقلبية، بل صار الفقه في كثير من نواحي الحياة العملية صفحات تاريخية لا تمت إلى الواقع بأدنى سبب، وانحاز الناس جميعاً في تعاملهم وأحكامهم إلى أحكام أخرى يسيرون عليها في حياتهم، ويضبطون بها شؤونهم غير ذاكرين ما عندهم من فقه ساير أرقى الحضارات التي مرت بالعالم الإسلامي)

وقد نحا أستاذنا الكبير في كتابه هذا منحى جديداً ينعش - بحق - آمال المسلمين في الرجوع إلى فقههم وفي تفهم مقاصده واتجاهاته. وقد كتب كتابه هذا بعقلية المجتهد، وأقر كثيراً من الموضوعات بما أوتيه من استعداد خاص في هذه الناحية لم يستيسر لغيره من علماء المسلمين من زمن بعيد

وللشيخ شلتوت مدرسة خاصة تكونت من تلاميذه في الأزهر، ومن تلاميذه في كلية الحقوق. وإنا لنرجو أن يكون لهذه المدرسة شأنها في العصر الحديث في إنهاض الفقه الإسلامي وعرضه على الناس عرضاً صحيحاً سائغاً مقبولاً. . . وكتاب الشيخ موضوعه (القصاص)، وقد مهد لموضوعه بفصول ممتعة في هذه المفردات: (الفقه، القرآن، السنة) مبيناً معاني هذه الكلمات، وما طرأ عليها على ضوء تاريخ التشريع في العصور الإسلامية، وقد دفع الشيخ دفعاً قوياً رائعاً شبهة القائلين: (ان الشريعة الإسلامية جاءت عن طريق الشرائع القديمة، ولم يكن للعرب قانون معروف، حتى تكون تعديلاً له وتنظيماً لأحكامه). وبيّن أن القرآن جاء وللعرب عادات ومعاملات وعرف، وأنه (أقر كثيراً مما درجوا عليه في هذه الشئون، وهذب فيها وعدل وألغى وبدل، وليس ذلك مما يضير القرآن في تشريعه واستقلاله، فما كان الإسلام إلا ديناً يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق، ولم يأت ليهدم كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناء جديداً لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع). وقد تتبع الشيخ في هذا الفصل كثيراً مما كان عند العرب وكثيراً من التشريع القرآني في دقة الإبداع. وقال في نهايته: (وهذا البحث جدير بالاستيعاب والتتبع، إذ به يتبين مقدار الصلة بين التشريع الإسلامي، وبين ما كان معروفاً عند العرب وقت نزول القران) وللشيخ قدرة على التتبع تظهر للقارئ في كل فصول الكتاب.

وقد ذكر الشيخ عن القران إنه لم يكن في أكثر أحكامه مفصلاً: (ولكنه يؤثر الإجمال ويكتفي في أغلب الشأن بالإشارة إلى مقاصد التشريع وقواعده الكلية، ثم يترك للمجتهدين فرصة الفهم والاستنباط)

وكان هذا شأن القران في الأمور التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا هو سر الخلود في الشريعة الإسلامية وصلاحها لكل زمان ومكان، واتساعها لكل ما يجد من المقتضيات والأحوال. أما في الأمور التي لا تتغير، فإنه يفصلها سمواً بها عن مواطن الخلاف والجدل، ولأنه يريدها مستمرة على الوضع الذي حدده لابتنائها على أسباب لا تختلف. وقد تحدث الشيخ حديثاً رائعاً عن أسباب الاختلاف بين العلماء في الفقه الإسلامي. ومما أعجبني ما تحدث به عن إثبات نسب أسامة بن زيد بقبول القائف: (هذه الأقدام بعضها من بعض). وان العلماء قد اختلفوا في هذا فأستدل بعضهم باستبشار الرسول لما سمع هذا الكلام على إقراره، وانه دليل على ثبوت النسب، وقد رجح المؤلف رأي القائلين بذلك. والذي أعجبني في هذه المسألة قول المؤلف: (وقد كان هذا أصلاً عظيماً في الأخذ برأي الطب الشرعي في الحوادث التي يعتبر القانون نظرها لتبين جهة الحق فيها من اختصاصه، ويمكن أن نلج من هذا الباب إلى الاعتماد في القضاء والحكم على الوسائل الجديدة التي لم يعرفها الفقهاء من قبل كتحليل الدم وكآثار الأيدي والأقدام، وغير ذلك مما يعرفه علماء التحقيقات الجنائية وأهل الخبرة) ثم تكلم عن الحكم بالقرائن، وضرب لذلك أمثلة ختمها بقوله: (بهذا يتبين أن الأخذ بالقرائن في الأحكام ليس من مبتكرات القوانين الحديثة، وإنما هو شريعة إسلامية جاء بها كتاب الله وقررته السنة ودرج عليه حكام المسلمين وقضاتهم في جميع العصور، وإن رمي الشريعة بالقصور أو الجمود في طرق الحكم ناشئ إما عن الجهل أو عن سوء النية) وإن كل ما أورده المحدثون من تقسيم للقرائن موجود بذاته في كتب الفقه الإسلامي. ثم انتقل الشيخ بعد ذلك إلى الحديث عن القصاص، وسبيله في هذا أن يشرح الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع مبيناً مقاصده ومفصلاً أحكامه.

ومما يروع القارئ في هذا الباب قدرة الشيخ على التطبيق واستقلاله في الفهم ووصله الفقه الإسلامي بالحياة الحديثة، وقد مهد لموضوعه بالكلام عن العقوبات في الشريعة، وقسم العقوبة إلى منصوص عليها، والى تفويضية يرجع تحديدها إلى الحاكم، وبين أن العقوبة التفويضية مجال واسع يتسع لكل ما يجد في الحياة، وبعد هذا البيان قال: (ولا يرتاب منصف بعد هذا في أن هذه العقوبة أساس قوي ومصدر عظيم لأدق قانون جنائي تبنى أحكامه على قيمة الجريمة وظروفها المتصلة بالجاني والمجني عليه ومكان الجريمة وزمانها في كل ما يراه الحاكم اعتداء على الحقوق الأفراد أو الجامعات، بل في كل ما يراه ضاراً بالمصلحة واستقرار النظام).

ومما أبدع الشيخ فيه وأمتع حديثه عن حق العفو، وان الشريعة الإسلامية قصرته على ولي الدم، ولم تجعله في يد الحاكم ليكون هذا أدعى إلى اطمئنان النفوس وطهارتها من الأحقاد والأضغان وأمن المحظور والفتنة.

وقد بلغ الشيخ التوفيق غاية التوفيق فيما كتبه عن الشروع في القتل، وعن معنى التحريم في قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). وعن آلة القتل وعن القصاص فيما دون النفس إلى غير ذلك من الموضوعات التي لا بد للقارئ من الرجوع اليها في الكتاب نفسه.

وإذا كان لي رجاء أتقدم به إلى أستاذنا الكبير، فهو أن يقدم لنا (المعاملات) في الفقه الإسلامي على النمط الذي قدم لنا به موضوع (القصاص)، وأن يبين لنا موقف الشريعة الإسلامية من كل ما جد من المعاملات في العصر الحديث، لأن هذا موضوع يشغل بال كل مسلم.

هدانا الله وهداه لخير الإسلام والمسلمين

(أبو حماد)

محمد محمد العزازي

المدرس بالأزهر