الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 68/بين فن التاريخ وفن الحرب

مجلة الرسالة/العدد 68/بين فن التاريخ وفن الحرب

مجلة الرسالة - العدد 68
بين فن التاريخ وفن الحرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 10 - 1934

4 - خالد بن الوليد في حروب الردة

للفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان الجيش العراقي

(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)

خالد بن الوليد

الحركات الأولية:

والواضح من أخبار الرواة أن مناوشات طفيفة وقعت قبل أن يتسلم خالد بن الوليد قيادة الجيش للقضاء على أهل الردة في بلاد نجد.

والظاهر أن الرواة لم يتفقوا على أخبار هذه المناوشات جرياً على عادتهم، والروايات المنتهية إلى سيف بن عمر وهو الراوي الذي يستند إليه الطبري في ذكر الكثير من أخباره تبحث في قتال عنيف وقع بين المسلمين وأهل الردة قبل أن يزحف خالد بجيشه إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة. أما الأخبار التي يرويها الواقدي والبلاذري فتذكر قتالاً طفيفاً جرى في ذي القصة أو البقعاء بين مقدمة المسلمين وعبس وذبيان انتهى بهزيمة المرتدين بعد أن رأوا أن كوكب (القسم الأكبر) جيش المسلمين وصل لنجدة المقدمة، وإن قسماً من هذا الجيش طاردهم إلى ثنايا العوسجة، ولما لم يلحق بهم عاد إلى المعسكر.

ولم يتفق الرواة على هذا القتال أجرى قبل عودة جيش أسامة بن زيد أم بعد عودته من بلاد الشام.

ومن الأخبار ما تروي أن كبار الصحابة أشاروا على أبي بكر ألا يرسل جيش أسامة بعد أن وردت الأخبار بارتداد العرب، إلا أن أبا بكر لم يقدم على تغيير ما أمره الرسول به في حياته. والذي اتفق عليه الرواة أن جيش أسامة لم يغب عن المدينة أكثر من شهرين، وكان الجيش متجمعاً في الجرف في شمال المدينة لما توفى الرسول. ومع أن أكثر الرواة يزعم أن أخبار الارتداد في الشرق وفي الشمال وفي الجنوب الشرقي وردت قبل حركة جيش أسامة - وذلك ما جعل كبار الصحابة يشيرون على الخليفة بإبقاء الجيش ليعتز المسلمون به في محاربتهم أهل الردة - إلا أن الواقع لا يؤيد ذلك إذ لا يعقل أن يصل نعي النبي إلى بلاد عمان والبحرين فيرتد أهلهما ويصل ذلك النعي إلى المدينة وجيش أسامة قاعد لا يحرك ساكناً. وإذا كان الخليفة يريد أن ينفذ أوامر الرسول فلماذا يؤخر حركة هذا الجيش طول هذه المدة؟ وتدل الأنباء على أن أول من أنبأ بالارتداد عامل مكة وأعقبه عامل الطائف بالخبر، ثم ورد عمرو بن العاص إلى المدينة بخبر ارتداد أهل عمان والبحرين ونجد، وكان الرسول بعد حجة الوداع قد أوفده إلى عمان، فلما بلغه نعي النبي قفل راجعاً إلى المدينة وأخبر بوضوح أن الغرب ارتدت من دبا إلى المدينة، والمدة التي تصل فيها أخبار الوفاة إلى عمان ليست قصيرة، كما إن السفر من عمان إلى المدينة أيضاً يتطلب عدة أيام، لأن المسافة بين عمان والمدينة 1250 ميلاً (أعني مسيرة أكثر من عشرين يوماً على الذلول)

ومن الواضح أن كبار الصحابة لم يرتأوا إبقاء جيش أسامة بمجرد رؤيتهم قبائل فزارة وغطفان يرتدون، والأمر الذي لاشك فيه أن خبر امتناع بعض القبائل العربية القريبة من المدينة عن تأدية الزكاة وردت إلى المدينة قبل حركة جيش أسامة.

وإذا صح ادعاء الرواة بأن خبر ارتداد العرب في أقصى البلاد ورد إلى أبي بكر فأطلعه على حرج الموقف قبل سفر جيش أسامة، فيكون الخليفة قد جازف مجازفة خطيرة، بإيفاده الجيش شمالاً بينما كان الخطر يهدد المسلمين في عقر دارهم.

ومن الرواة من يزعم أن أبا بكر شرع في قتال أهل الردة بعد عودة جيش أسامة، ومنهم من يدعي أن قتال ذي القصة والربذة جرى قبل عودة الجيش.

أما نحن فنميل إلى الاعتقاد أن القتال وقع قبل عودة الجيش، إذ لا يعقل أن تتواطأ غطفان على الهجوم على المدينة، وتعلم بأن جيش أسامة مرابط في شمالها. بينما الروايات التي يستند إليها الواقدي والبلاذري تدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة في ذلك القتال.

الشروع في العصيان:

أول من شرع في العصيان خارجة بن حصن الفزاري من رؤساء بني فزارة، إذ أنه أوقف جابي الزكاة في طريقه إلى المدينة وأخذ منه ما في يده على بني فزارة ورجع الجابي إلى أبي بكر.

أما القبائل التي ثارت وتظاهرت بالعداء فهي: بنو أسد وغطفان والبعض من بطون طئ، فاجتمع بنو أسد في سميراء، وعلى رأسهم طليحة بن خويلد، واجتمعت فزارة في جنوبي طيبة، واجتمعت عبس وذبيان في الربذة والتف حولهم جماعة من كنانة، ولما كثر عددهم لم تحملهم البلاد لأن المياه شحيحة والمرعى قليل فتفرقوا إلى فرقتين، فأقامت فرقه بالأبرق بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة، وأمد طليحة فرقة ذي القصة بقوة من بني الأسد. والداعي إلى تفرقهم هو أن الوقت كان صيفاً، لأن الرسول توفى في شهر ربيع الأول للسنة الحادية عشرة من الهجرة. وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران سنة 632 ميلادية. والمياه على ما نعلم تشح في الصيف، وكذلك المرعى تقل حينئذ. فبعثت غطفان وفداً إلى المدينة ليعرض على أبي بكر رغبتها في أن تقيم الصلاة وألا تأتي الزكاة، وكان عيينة بن حصن الفزاوي وأقرع بن حابس في الوفد.

فلم يلب أبو بكر طلبهم برغم إشارة بعض الصحابة عليه بالتساهل معهم إلى أن يعود جيش أسامة، إلا إنه في الوقت نفسه قدر خطورة الموقف لما عاد الوفد إلى أهله. وكان للوفد على ما يظهر مهمتان: عفو الزكاة، والإطلاع على قوة المسلمين في المدينة. وقد لاحظ أبو بكر ذلك، إذ لم يعد الوفد حتى جمع الصحابة وأطلعهم على حرج الموقف وكلفهم بحراسة المدينة ليلاً ونهاراً. فأقام رجالاً في الأبراج لمراقبة الطرق الممتدة إلى المدينة من جهة البادية ورتب قوة احتياطية في المسجد لتكون على استعداد للنجدة عند الحاجة، وحذر أهل المدينة بقوله (إنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً وأدناهم منكم على بريد) يشير بذلك إلى قرب المسافة بين المدينة والقبائل المتحفزة للهجوم.

وقد يعجب الإنسان بصلابة أبي بكر في رفضه طلب الوفد بعد اطلاعه على أخبار عماله لدى القبائل وسماعه حديث عمرو بن العاص. وكانت جميعها تنبئ بارتداد العرب عامة أو خاصة ولا يوجد في المدينة سوى نفر قليل وجيش أسامة بعيد عنها.

ونظراً إلى ما ذكره الواقدي في كتاب الردة أن أبا بكر لم يكتف بالتدابير التي اتخذها في المدينة، بل طلب من القبائل العربية كأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب أن تمده بالرجال فأسرعت إلى نجدته. فأخذ الناس يتوافدون إلى المدينة بسلاحهم، وأرسلت جهينة أربعمائة راكب.

وإذا صدقنا رواية سيف بن عمر التي نقلها الطبري، ظهر لنا أن ظن أبي بكر كان في محله، إذ لم تمض ثلاثة أيام على عودة الوفد حتى كان المرتدون قد غزوا المدينة ليلاً.

لابد أن الوفد بعد عودته أخبر القبائل المتحفزة للهجوم عن ضعف قوة المسلمين بالمدينة وشجعها على الهجوم وكانت من غطفان، وهي عبس وذبيان وفزارة على ما نعلم.

المواقع التي جرى القتال فيها:

وردت أسماء السميراء والربذة وطيبة والأبرق وذي القصة عند البحث في تجمع القبائل. ولا يوجد الآن من هذه الأسماء في الخرائط الحالية إلا السميراء. ولنا من الأخبار التي نستقيها من رواة العرب الأقدمين أن القبائل الساكنة في شرقي المدينة وعلى طرفي الطرق الذاهبة إلى العراق وخليج فارس هي بنو سليم وهي أقربها إلى المدينة في الشمال الشرقي، ثم يليها بنو كلاب إلى شمال بني سليم، ثم عبس وذبيان في شرقي حرة خيبر إلى الشمال.

أما قبائل طي فتسكن في جبليها أجأ وسلمى، وفي شرقي بني عبس وذبيان وفزارة من غطفان في وسط وادي الرمة وعلى جانبيه.

وتأتي بعدها قبائل بني أسد. وموقع سميراء على ما يظهر من الخريطة واقع إلى شمالي وادي الرمة، ويبدأ منه وادي السميراء الذي يصب في الوادي في جوار الحاجر.

الربذة:

يذكر ياقوت الحموي أن موقع الربذة على الطريق التي تصل موقع فيد بالمدينة. وفيد في حي طئ وهي قرية من قرى جبل شمر واقعة إلى شرقي جبل سلمى على الطريق التي تصل الكوفة بالمدينة ويمر بها طريق الحج، وهي بعيدة عن المدينة مسافة ست مراحل.

وتلتقي فيها عدة طرق من الجوف والعراق والمدينة وبريدة والرس.

والربذة على هذه الطريق، وهي تبعد عن المدينة أربعة وعشرين فرسخاً، وواقعة إلى شمالي شرقها، ولعل موقع حناكية الحالي هو موقع الربذة القديم أو قريب منه، لأن بعده عن المدينة زهاء ثمانين ميلاً. والفرسخ العربي طوله أربعة كيلومترات ونصف كيلومتر أو أربعة كيلومترات. والذي يجعلنا نميل إلى ذلك إن القوة لم تجتمع في الربذة بل في الأبارق، وكلمة أبارق إسم خاص لبعض المحلات تدل على أرض حجرية ورملية مختلطة.

وموقع الحناكية بالقرب من حدود حرة خيبر، والحرة على ما نعلم أرض بركانية خامدة وفيها محلات يتراكم الماء فيها. ومادامت القبائل مجتمعة فيها فلابد حينئذ من وجود الماء فيها. والحناكية واقعة في بطن وادي الحمض.

ذو القصة أو البقعاء:

والظاهر إن كلتيهما تدلان على موقع واحد في شرقي المدينة وقريب منها، وهو بلا شك على الطريق التي تمتد إلى المدينة في غربي الربذة أو في جنوبها، وهو أما الشقرة أو السابية.

والأخبار تدل على أن أبا بكر بعد أن هزم المرتدين في البقعاء طاردهم بخيله إلى ثنايا العوسجة بالقرب من الركبة، وهذا الموقع الأخير واد يصب في الرمة، ولعله وادي الركب الذي ينبع من حرة خيبر ويجري شمالا في شرق وثنايا العوسجة في المحل الضيق الذي يتسلق فيه الطريق صاعداً إلى رأس الوادي أو ينزل منحدراً منه.

أما موقع طيبة الذي اجتمع فيه غطفان وفزارة فلم نعثر عليه في معجم البلدان ولعله في شرقي الربذة أو في شماليه. أو إنه موقع طابة في سفح جبل سلمى الجنوبي في شمالي السميراء وهو من ديار غوث من طئ.

مباغتة المدينة:

لم يهجم المرتدون بكل قوتهم لأنهم أرادوا أن يكونوا خفافاً فتركوا قسماً منهم في يدي حسى بين ذي القصة والمدينة ليكون ردءاً لهم، واقتربوا ليلاً من المدينة ولم يباغتوها لأن العيون أخبرت المسلمين بدنوهم، فقاتلتهم الربايا الخارجية، وأسرع أبو بكر بمن في المسجد فأنجد الربيئات وهزم الهاجمين، ولم يكتف بذلك بل هاجمهم على الجمال التي تسقى الماء من الآبار لاسقاء مزارع المدينة، إلى أن نفرت الإبل من الجلود المنفوخة التي دهدهها الفارون من أعلى الروابي، فرجعت على أعقابها نافرة حتى دخلت المدينة.

والظاهر أن الهاجمين لم يكونوا في قوة كبيرة، ولا سيما بعد أن تركوا قسماً منهم في الخلف. ويظهر أنهم من بني عبس وذبيان. أما فزارة فبقيت في ذي القصة. وهكذا انقسمت القوة التي أرادت أن تهاجم المدينة إلى ثلاثة أقسام: قسم في ذي القصة وقسم في ذي حسى، والقسم الثالث أغار على المدينة. أما قوة المسلمين فلا شك في أنها كانت ضعيفة، ولعلها لم تزد على المائتين.

وتشجع المرتدون من فرار جمال المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة بالخبر فلحقوا بهم.

يتبع

طه الهاشمي