مجلة الرسالة/العدد 678/الشاعران المتشابهان
→ الأدب في سير أعلامه | مجلة الرسالة - العدد 678 الشاعران المتشابهان [[مؤلف:|]] |
ظرف الفقهاء ← |
بتاريخ: 01 - 07 - 1946 |
الشابي (التونسي) والتجاني (السوداني)
للأستاذ أبي القاسم محمد بدوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
تصوير الأحداث الوطنية:
الشاعران اشتركا في البواعث التي تستفز الإنسان إلى المنطق بشعر متفق في المعنى والغرض لما بينهما من التشابه في كثير من نواحي الحياة كما قدمنا، فكلاهما عاش حياة مليئة بالأهوال، زاخرة بالكفاح والنضال. وبرم كل منهما بما يجرى بين أهله وقومه، مستهجنا حياة شعب يعاني متاعب الاستعباد وآلام الاستبداد. ولقد بذل كل منهما جهده في تصوير أحوال شعبهما حفزا للشعور، واستفزازا للنفوس المكلومة لتصحو من غفوتها، وتهب من رقدتها، وتنهض وتركض حتى تلحق بركب الأمم المسرع العجلان الذي لا يعين العاجز ولا ينتظر المتخلف الكسلان، إنهما أجادا وأفادا، كأحسن ما يطلب ذلك من شاعرين عظيمين أديا رسالتيهما في البلاغ والبيان أداء كاملا واضحا في مبناه، قويا في معناه، مؤثرا بألفاظه وموسيقاه، قال الشابي مخاطبا شعبه.
ليت لي قوة العواطف يا شعبي فألقى إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن أنت حي يقضي بالحياة برمس
أنت روح غبية تكره النور وتقضي الدهور في ليل حدس
أنت لا تدرك الحقائق إن طافت حواليك دون حس وحس
إلى أن قال:
في صباح الحياة ضمخت أكوا ... بي وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك فأهرقت ... رحيقي ودست يا شعب كأسي
فتألمت ثم أسكت آلا ... مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهير قلبي ... باقة لم يمسها أي إنس
ثم قدمتها إليك فمزقت ... ورودي ودستها أي دوس ثم ألبستني من الحزن ثوبا ... وبشوك الصخور توجت رأسي
ثم قال لما يئس من الإصلاح وبرم بالحياة وحينما ذهبت صحته أدراج الرياح ولم يسمع قومه الأنين والنواح:
هأنا ذاهب إلى الغاب يا شع ... بي لأقضي الحياة وحدي بيأسي
هأنا ذاهب إلى الغاب علي ... في صميم الغابات أدفن نفسي
ثم أنساك ما استطعت فما أن ... ت بأهل لخمرتي ولكأسي
ولكن هيهات أن ينساه وهو قد ترعرع فوق أرضه ونشأ تحت سماه. إنه يحثه للنهوض ويدفعه للعمل السريع بعد سكب روح الأمل البديع فيه، وذلك يتضح في خطابه الطير الذي يدري معنى الحياة، ويعرف أن طيب عيشها لا يتاح لمن سلبت حريته، ومات حسه وبلد شعوره، وانطفأت جذوة آماله، وغاض معين أحلامه.
سوف أتلو على الطيور أناش ... يدي وأفضى لها بأحزان نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري ... أن مجد النفوس يقظة حس
ويتبين لك عند إنعام النظر أنه لم ييأس من الإصلاح بل كان يستعبد زمنه، لأن شعبه لم يبلغ سن النضج ولم يقف على سوقه ينافح ويكافح ليرد حريته المسلوبة فيحظى بكمال استغلاله، ويرغم غيره من الأمم على احترامه وإجلاله، وفي القول التالي يؤنب بني قومه لما استخفوا بقوله، وأشاحوا معرضين عن سماع صوته.
أيها الشعب أنت طفل صغير ... لاعب بالتراب والليل ينسى
أنت في الكون قوة لم تسلبها ... فكرة عبقرية ذات بأس
أنت في الكون قوة كبلتها ... ظلمات العصور من أمس أمس
والشقي الشقي من كان مثلى ... في حساسيتي ورقة نفسي
هكذا قال شاعر ناول الشع ... ب رحيق الحياة في خير كأس
فأشاحوا عنها ومروا غضابا ... واستخفوا به وقالوا بيأس
(قد أضاع الحياة في ملعب الجن ... فيا بؤسه أصيب بمس)
(طالما حدث الشياطين في الوا ... دي وغنى مع الرياح بجرس)
ويشبه التجاني الشابي في رقة الإحساس ودقة المشاعر. فهو نفس مرهفة مضطرمة، وقلب خفاق بلواعج الحب لوطنه، والإخلاص لقومه، يثور لأحزانه ويتألم لآلامه وأشجانه. وقلب التجاني هو قلب الشاعر الصادق الذي يعد بمثابة أداة تصوير واعية تلتقط ما يتساقط عليها من ألوان الحوادث ومشاكل الوجود، ومسرات الحياة وحسراتها. عبرت نفس التجاني الثائرة عما يجيش في قرارتها بهذه الأبيات الشاكية الصارخة في قصيدة مطلعها (ثورة) فقال:
من لهذا الأنام يحميه عني ... قلمي صارمي وطرسي مجني
هو فني إذا اكتهلت وما زا ... ل على ريق الحداثة فني
نهلت من دمى الحوادث واستر ... وى يراعى مما يدفع دني
إلى أن يقول: -
وطني في الصبا الدمى والتماثي ... ل ونفسي ومن أحب وخدني
هذه يا أبي تصاوير ما تب ... رح دنياي أو تزايل كوني
يصنع الغاب مزهري، ويشيد الر ... مل عرشي، ويبعث اللهو أمني
تلك عرسي وإنها صنع نفسي ... بيدي صغتها وذيالك أبني
هي دنيا الصبيّ لا جنة الشي ... خ تفيض النعيم من كل لون
ثم يخاطب وطنه فيقول: -
قف بنا نملأ البلاد حماسا ... ونقوض من ركنها المرجحن
هي للنازحين مورد جود ... وهي للآهلين مبعث ضن
يستدر الأجانب الخير منها ... والثراء العريض في غير من
أبطرتهم بلادنا فتعالى ... ابن أثينا (واستكبر) الأرمني
ثم يختمها بهذا البيت الرائع الذي يدل على صدق الوطنية وقوة الشعور بكرامة القومية.
يا بلادي أخلصتك الخير واستص ... فيت ودي إليك من كل مين
ماذا ترى في هذا الشعر الرصين والنفثة القوية المنبعثة من فؤاد مجروح وصدر معذب بالحرقة والأنين؟ يتألم ويرسل صوته داويا كالريح، مجلجلا كالرعد، نافذا كالسهم في قلوب المواطنين ونفوس الشباب العاملين.
صور الحب والجمال: ليس في الوجود إنسان دقيق مرهف الإحساس لا يخفق قلبه للحب العذري الطاهر، ولا يفتتن بمنظر الجمال الساحر الجذاب، ويعلق بالحسن في جميع مظاهره المادية المعنوية.
وما دامت النفس البشرية تشعر بهذه العاطفة الجامحة فأنها تجد في الشعر خير معبر ناطق لما يلابسها من متباين الحس ومختلف الشعور؛ وأصدق محدث ينطق بما توحي به بيئة كل شاعر ومحيطه الذي نشأ فيه، وبما يؤثر عليه في حياته من متنوع الحوادث ومتعدد الخطوب.
لقد خفق قلب الشابي بالحب حينما خاطب محبوبه بهذه الأبيات في قصيدة عنوانها (أيتها الحالمة بين العواطف).
أنت كالزهرة الجميلة في الغا ... ب ولكن ما بين شوك ودود
فافهمي الناس إنما الناس خلق ... مفسد في الوجود غير رشيد
والسعيد السعيد من عاش كاللي ... ل غريباً في أهل هذا الوجود
ودعيهم يحيون في ظلمة الاث ... م وعيشي في طهرك المحمود
كالملاك البرئ، كالوردة البي ... ضاء، كالموج في الخضم البعيد
كأغاني الطيور، كالشفق السا ... حر، كالكوكب البعيد السعيد
أودع الشابي في الأبيات المتقدمة فنه وروحه وفكره. فهو حسن في الصياغة والتخييل، وبارع في التشبيه والتمثيل، ومن أكثر الشعراء وقوعاً على المعنى الطريف والفكرة العميقة.
فهل لنظيره التجاني شعر يشبهه في روعة المعنى ودقة المبنى. إن التجاني وايم الحق وحيد عصره ونسيج دهره في الإبداع في شعر الحب والجمال. واليك قصيدة تمثل أصدق تمثيل فنه الرائع، وفكره البارع، وخياله العميق، وتعبيره الدقيق. اسمعه يقول: وهو المحب الواله المفتون:
جمال وقلوب
وعبدناك يا جمال وصغنا ... لك أنفاسنا هياماً وحبا
ووهبنا لك الحياة وفجر ... نا ينابيعها لعينيك قربى وسمونا بكل ما فيك من ضع ... ف جميل حتى استفاض وأربى
وحبوناك ما يزيدك يا لف ... ظ وضوحاً، وأنت تفتأ صعبا
إلى أن قال:
من ترى وزع المفاتن يا حس ... ن ' ومن ذا أوحى لنا أن نحبا
من ترى علم القلوب هوى الحس ... ن وقال اعبدي من السحر ربا
من ترى الهم الجمال وقد أعط ... اه من جبرة الحوادث عضبا
أن يبث الهوى مفاتن في جف ... ن بليغ وأن يجود ويأبى
من ترى وثق العرى بين مسحو ... رين اسماهما جمالا وقلبا
إنه صانع القلوب التي تن ... صب في قالب المحاسن صبا
تصوير الحالات النفسية:
إذا عرفنا أن في مكنة الشاعر العبقري أن ينطق الشخوص عن نفثات صدورهم، وسيحات قلوبهم، وحسرات نفوسهم في تعبير قوى ونغم سحري، ومعنى علوي، ينتقل به التأثير إلى نفوس السامعين فتتحرك عواطف القارئين بوحي الصورة المحسة في الوصف الشعري، فإن في استطاعته من غير ما مشقة أو نصب أن يصور خلجات نفسه، ونبضات قلبه، وإحساس روحه، صوراً شعرية، هي فيض العاطفة المنفعلة، ووحي الوجدان الصادق الذي عرف حقائق الوجود في نفسه معرفة الواقع الملموس، لا المتخيل المحسوس.
للشابي قصائد كثيرة يصور فيها مطالب حسه، وشجون نفسه، تصويرا عذباً صادقاً تحس فيه حرارة الأيمان، وصدق العواطف الباكية الناحبة. قال أبياتا في قصيدته (في ظل وادي الموت):
نحن نمشي وحولنا هاتة الأك ... وان تمشي؛ لكن لأية غاية؟
نحن نشدو مع العصافير للشم ... س، وهذا الربيع ينفخ نايه
نحن نتلو آية الكون للمو ... ت، ولكن ماذا ختام الرواية؟
إلى أن قال:
قد رتعنا مع الحياة طويلا ... وشدونا مع الشباب سنينا
وعدونا مع الليالي حفاة ... في شعاب الزمان حتى وعينا وأكلنا التراب حتى مللنا ... وشربنا الدموع حتى روينا
وفي قصيدة أخرى عنوانها (الأبد الصغير) يقول:
يا قلب إنك كون مدهش عجب ... إن تسأل الناس عن آفاته وجموا
كأنك الأبد المجهول قد عجزت ... عنك النهى واكفهرت حولك الظلم
يا قلب كم من مسرات وأخيلة ... ولذة يتحامى ظلها الألم
غنت بفجرك صوتاً حالماً مرحاً ... نشوان ثم توارت وانقضى النغم
ثم يعدد ما انتابه من آلام وأحزان عقبت ما كان فيه من مسرات ولذائذ فيقول:
كم قد رأى ليلك الأشباح هائمة ... مذعورة تتهاوى حولها الرجم
ورفرف الألم الدامي بأجنحة ... من اللهيب وأنّ الحزن والندم
تمضي الحياة بماضيها وحاضرها ... وتذهب الشمس والشطآن والقسم
وأنت أنت الخضم الرحب لا فرح ... يبقى على سطحك الطاغي ولا ألم
ثم يصور أحلامه التي نسجها فتلاشت، وأكاليل فخاره وزينته التي أفنتها العواصف، وأمانيه النضرة بمباهج الفردوس ومتع الجنان، حيث اختفت وزالت. كل ذلك يعطيك فكرة عن نفسه التي برمت بالحياة ما فيها من نعيم أو جحيم، لأنها تستقر بعد الحياة الفانية في دنيا الخلود شابة نضرة مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم. كأنها لم تعرف السار البهيج والقاتم الحزين من صور الحدثان وظروف الزمان. إنه يقول هذا المعنى في هاته الأبيات:
يا قلب كم ذا تمليت الحياة وكم ... راقصتها فرحا ما مسك السأم
وكم توشحت من ليل ومن شفق ... ومن صباح توشى ذيله السدم
وكم نسجت من الأحلام أردية ... قد مزقتها الليالي وهي تبتسم
وكم ضفرت أكاليلا موردة ... طارت بها زعزع تدوي وتحتدم
وكم رسمت رسوما لا تشابهها ... هذى العوالم والأحلام والنظم
كأنها ظلل الفردوس حافلة ... بالحور ثم تلاشت واختفى الحلم
تبلو الحياة فتبليها وتخلعها ... وتستجد حياة ما لها قدم
وأنت أنت شباب خالد نضر ... مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم
إن التجاني لا يقل عن الشابي مقدرة في صوغ الانفعالات الوجدانية والحالات النفسية في صورة تخيل لقارئها أنه يناجي نفسه ويحاور ضميره، لا أنه يقرا قطعة ممتازة لشاعر ممتاز.
نقدم لك منها هذه القصيدة العصماء في روحها ومعناها، وفيما تحمل من أسى وشجى ومن دموع وآلام. هي قطعة تفجرت من نفس ممزقة ونفثة من صدر مصدور عانى تنكر الصديق، وجفاء الناس، وقسوة المرض، وتكالب المصاعب والمصائب. يقول هذا الشاعر وهو على فراش الموت مخاطبا صديقه (أنيس):
أرأيت الصديق يأكله الدا ... ء ويشوي عظامه المخراق
ماردُ هذه السقام ولكن ... صبره الجم للضنى دفاق
جف من عدوه الندى فتعرى ... وتنفت من حوله الأوراق
وذوى قلبه النضير وقد كا ... ن له في زمانه تخفاق
وأنا اليوم لا حراك كأن قد شد ... في مكمن القوى أوثاق
بت أستنشق الهواء اقتسارا ... نفس ضيق وصدر نطاق
وحنايا معروفة وعيون ... عائرات ورجفة ومحاق
لي رجاء في رحمة الله لما ... وسعت في الحياة ما لا يطاق
أبو القاسم محمد بدري
مدرس بالمدرسة الثانوية بأم درمان (السودان)