الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 678/الأدب في سير أعلامه

مجلة الرسالة/العدد 678/الأدب في سير أعلامه

بتاريخ: 01 - 07 - 1946


ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 18 -

حربه على القساوسة:

وأردف ملتن هذا الكتيب بكتيب ثان في يوليو سنة 1641 رد به على (أشر) أحد كبار الأساقفة، وكان كتيبه الثاني صغيرا، وقد عد رده على هذا الأسقف جرأة عظيمة ومبالغة منه في الثقة بنفسه، وذلك أن أشر كان من أوسع الأساقفة أفقا في تاريخ الكنيسة ومسائلها؛ قضى نحو ثمانية عشر عاما من عمره في هذه الدراسة حتى أصبح من أفذاذ طائفته. وقد جادله ملتن جدالا عنيفا، ولجأ إلى المنطق في مجادلته. ومن أمثلة ذلك قوله (ترجع الأسقفية إما إلى اصل إنساني أو إلى اصل الهي، فإن كانت الأولى جاز القضاء أو الإبقاء عليها حسبما توحي المصلحة، وان كانت الثانية وجب أن يقوم الدليل على ذلك من الكتاب المقدس، فانه إن لم يقم هذا الدليل فلن يكون لأي تأكيد إنساني لها أية قيمة يعول عليها)، وبعد أن يعجز ملتن خصمه بمطالبته بهذا الدليل يستعرض ما اعتمد عليه من المراجع فيسفهها ويسخر منها في لغة هي أقرب إلى السباب منها إلى النقد، ولن يخشى ملتن أن يسجل في كتيبه احتقاره لآباء الكنيسة القدامى وزرايته عليهم وعلى كل من يخالفه سواهم فيما يذهب إليه مهما يكن من خطره أو سلطانه. . .

ولم يلبث أن أعقب في السنة نفسها كتيبه الثاني بثالث، وذلك أن (هول) رد على جماعة سمكتنسي بكتيب جديد يدافع به عن كتيبه الذي سماه الإعلان المتواضع. فانبرى له ملتن وراح يسخر منه ما وسعته السخرية، وجرى في ذلك على طريقة عجيبة، فهو يورد رأيا من آراء هول ويسوقه مساق التحدي في صيغة سؤال أو اعتراض ثم يجيب عليه متهك ساخرا حتى لا يتورع أن يرد على أحد الاعتراضات بضحكات يثبت صورتها هكذا. . ها! ها! ها! على نحو ما يفعل الطلاب إذ يتجادلون في أمر من الأمور.

ولم يستطع ملتن أن يملك زمام قلمه إذ كان يرد على أحد المتحمسين من الفئة التي يبغضها ويحاربها في عنف بالغ، لذلك جاء من عبارات الهجاء والفحش بما نعجب كيف يصدر مثله ممن كان له مثل ثقافته وأدبه ونفسه الشاعرة وحسه المرهف، وتلك في الحق عجيبة من عجائب عقله وخلقه. . .

وفي مستهل سنة 1642 نشر ملتن كتيبا رابعاً، وجمع في هذا الكتيب كل ما واتته به ثقافته ودراسته من المعرفة وكل ما جادت به قريحته من الآراء وساقها جميعا حربا على خصومه القساوسة، وكان في هذا الكتيب أكثر عناية بالشرح والإقناع منه بالسخرية والإقذاع، لذلك جاء خلوا من الحشو بريئا من هجر القول وان لم تكن لهجته فيه اقل حماسة منها في سالفيه، ولهذا الكتيب الرابع أهمية من ناحية أخرى، وذلك أن ملتن أبان فيه بعض آرائه في الدين والسياسة.

ففي الدين أعلن تمسكه بالبرسبيترية وأنها خير نظام لإدارة الكنيسة، فلا يصح أن يترك لهؤلاء القساوسة الإشراف على الكنيسة فيرتفع بعضهم فوق بعض درجات، ويتخذوا من مناصبهم الدينية سلاحا للعدوان والطغيان والجشع، وإنما يجب أن يكون المشرفون على إدارتها قوم يرضى عنهم الناس ويختارون بمشيئتهم ويكونون في مناصبهم سواء، وهو في ذلك إنما يشير باتباع نظام كلفن في حماسة وإخلاص.

وذكر أحد القساوسة في هذه المعركة أن آدم هو أول قس، فكان مما رد به ملتن على ذلك قوله: إنه إزاء ما يراه من شدة ولوعهم بالقديم في الدفاع عن قضيتهم يوافقهم فيما يزعمونه، بل انه يذهب في القدم إلى ابعد مما ذهبوا؛ فإذا كان آدم في البشر هو أول قس، فقد كان إبليس من قبل آدم هو في الملائكة القس الأول. ويخرج ملتن من ذلك بنتيجة وهي أن القساوسة في أصلهم ينتمون إلى الشيطان، فحسبنا من بغض هذا النظام أنه من عمل الشيطان.

ويؤمن ملتن بعقيدة الثالوث على الرغم من فكرته السامية التي تجلت في إنكاره تصوير الله وتحديده ويصلي مستعيذا بهذا الثالوث ككل من يؤمن بهذه العقيدة في أصلها.

ويميل ملتن إلى الاعتدال والتسامح في معاملة أهل المذاهب الأخرى من غير البيوريتانز، فوجود هؤلاء المخالفين أمر طبيعي لان هؤلاء يعدون قبل الإصلاح الجديد كالآلام الشديدة التي تسبق كل وضع؛ وما من شيء يتغير من حال إلى حال في عالم المادة إلا بعراكه مع العناصر الأخرى المضادة له، وفي المصنوعات لا بد من ذهاب بعض المادة في التسوية والتهذيب، وما من تمثال من المرمر يقام أو من صرح يبنى إلا إذا أزيل كذلك شيء مما علق به.

ولا يسع ملتن إلا الموافقة على عقوبة الطرد من الكنيسة ولكن على إلا يستعمل هذا الحق إلا بمنتهى الحذر وبعد التحري الدقيق وطول الأناة والوثوق من أن المذنب يستحق تلك العقوبة.

ولا يزال ملتن في كتيبه هذا مواليا للملكية، وغاية ما يسعى إليه أن يتلخص الملك وأن تتخلص انجلترة من طغيان القساوسة. وفي رأيه أن القساوسة هم الذين يوحون إلى الملك الطغيان والاستبداد، لأنهم بتعصبهم وحرصهم على مناصبهم ومغانمهم يكرهون كل رأي حر، ومتى لمحوا رأيا حرا رأوا فيه نذر الفتنة وخوفوا الناس من عواقبه وأشفقوا على النظام والهدوء من الفوضى المزعومة، هذا إلى دسائسهم وسوء مكرهم وافترائهم الكذب على من يخشونه من الناس؛ وانه ليرى فيهم بذلك وبغيره أصلح أداة للطغيان. ولقد اعتادت الكنيسة أن تتخذ من الكتاب المقدس سلاحا تشهره في وجه الحرية، ووسيلة إلى الجشع الذي لا يشبع والطموح الذي لا يقف عند حد.

وجاء في كتيبه هذا فيما جاء من آرائه طعن شديد على الجامعات؛ فما إن يزال ملتن حانقا على الجامعة وأسلوب التعليم بها بعد أن تركها بعشر سنوات، وجاء رأيه عن الجامعات عرضا فهو يعجب كيف أن أناسا علم من أمرهم أنهم أهل ثقافة وعلم يدافعون عن الكنيسة بكتاباتهم؛ ويرد ذلك إلى أنهم اكتسبوا ما يسمونه علما في الجامعات، فقد قصدوا إليها يبتغون المعرفة الصحيحة، ولكنهم لم يجدوا هناك إلا ألوانا من السفسطة وضروبا من تعاليم القساوسة سدت بها حلوقهم فعاقت دخول الفلسفة الصحيحة، كما حنق أصواتهم إلى الأبد ما امتلأت به حناجرهم من لغو ميتافيزيقي. . .

وفي سنة 1642 نشر القس هول وابنه كتيبا عنيف اللهجة قاسي العبارات وجها فيه إلى ملتن مطاعن شديدة تناولت فيما تناولت شخصه ومسلكه إبان طلبه العلم بالجامعة، وكأنما أراد أن يحارباه بسلاح من أسلحته لكي يذيقاه مرارة المطاعن الشخصية. والحق أنهما أوجعاه وملأ قلبه بكتيبهما هذا غيظا شديدا وحنقا ولا سيما أنهما افتريا عليه ما ليس من خلقه ونسبا إليه ما هو نقيض ما عرف عنه من استقامة وطهر وعفة حرص عليها أشد الحرص سرا وعلانية حتى باتت من أبرز صفاته وأخصها. . .

اتهمه هول وابنه أنه لسوء مسلكه في الجامعة قد لفظته كما تلفظ الحلوق القيء، فذهب إلى منعزل على مقربة من لندن حيث كان يقضي نهاره في الفسوق والفجور وليله في أماكن ومواخير الفساد، وحيث راح يغازل أرملة غنية بغية الزواج بها.

ورد ملتن بكتيب كان خامس هاتيك الكتيبات فذكر أنه ما كان ليعبأ بما يقولان لولا أنه لصلته بجماعة سمكتمنسي ولإخلاصه لواجبه في القضية التي هو بصددها يحرص على أن يطهر اسمه مما حاولا أن يلصقاه به، ومهد بهذا الحديث طويل عن نفسه يعد تاريخا لحياته حتى ذلك الوقت. . .

نفى عن نفسه أن الجامعة لفظته، فها هو ذا يجمل شهادة من أكبر شهاداتها، ولقد كان هناك كما يعرف أهلها جميعا موضع التوقير والمحبة، وكان يقضي أصباحه في قراءة أعظم المؤلفين وفي تقوية بدنه بالرياضة، أما أمساؤه فلم يعرف فيها فجورا ولا لهوا اللهم إلا ما كان يشاهده من تمثيل مسرحيات الكلية في كمبردج إن كان يعد هذا من الفجور.

ويشير ملتن إلى عزلته بعد أن ترك الكلية والى دراساته التي أخذ نفسه بها في غير رفق، هنالك حيث قرأ فيمن قرأ أفلاطون ونده زينوفون قراءة درس وتمحيص و (حيث أعني إذا تكلمت عما علمته من الحكمة والحب الجانب الحق منهما، ذلك الجانب الذي ليس غير الفضيلة كأسه الساحرة التي يطاف بها على من يستحقونها فحسب. أما الذين لا يستحقونها فتطوف عليهم شيطانه نزلت باسم الحب وأهانته بكأس مزاجها شراب مسكر ثقيل؛ وتعلمت كيف تبدأ في النفس وكيف تنتهي فيها أولى غايات الحب وأهمها فتلد توأميها السعيدين: العلم والفضيلة.

ويعد ملتن قارئيه أنه سوف يتكلم عن الحب الصحيح أكثر مما تكلم وذلك (في وقت هادئ لا شتائم فيه، لا في هذه الجلبة القاتمة إذ ينبح الخصوم بالباب كما يتعلمون).

ويعود إلى حيث العفة فيقول: (أن من يحب إلا يغلق دونه الأمل في أن يكتب ما يعظم وقعه في النفس فعليه أن يكون هو نفسه قصيدة صحيحة، أعنى مزيجا من أجمل الأشياء وأشرفها بهذه الفكرة يصحبها جمال في طبيعتي وكبرياء شريفة في نفسي ونظرة منى سامية إلى ذاتي سواء فيما سلف من حياتي وفيما استقبل منها؛ بهذا كله لا أزال أعلو على ذلك التدهور العقلي الذي لا بد أن ينحط إلى اسفل منه من تقر نفسه الفسوق والفحشاء).

ويقول إنه قد تعلم كمسيحي أن فقدان العفة في الرجل وهو أكمل الزوجين جنسا وهو صورة الله ومجده، أكثر عيبا منه في المرأة التي هي مجد الرجل فحسب؛ وأن في الجنة ألحانا قدسية لن يفهمها إلا من لم يدنس بالنساء بدنه. وتطرق من هذا إلى قوله انه ككل عاقل يفضل أن يتزوج بعذراء فقيرة على أن يتزوج بأرملة غنية.

وينتقل ملتن بعد الدفاع إلى الهجوم، فيعود إلى التنديد بالأساقفة وجمود عواطفهم وتعصبهم وجهلهم وحماقاتهم على نحو لا يسهل معه أن نقول أيهما كان أقذع لفظا وأفحش هجوا: ملتن أم خصمه هول.

بهذا الكتيب الخامس تنتهي الحرب بين ملتن والقساوسة، وهي جانب من جوانب دفاعه عن الحرية، وهو هنا إنما يدافع عنها أمام التعصب الفكري الذي هو من أشد أعدائها خطرا عليها.

ولا بد من نظرة إجمالية في هذه الكتيبات الخمسة بعد أن بينا موضوع كل كتيب منها والدافع الذي حمل ملتن على كتابته.

يخطئ من ينظر إلى هذه الكتيبات على أنها عمل أدبي، فما كانت في الواقع إلا حربا قوامها الحماسة والعنف، لا يعني صاحبها إلا أن يصيب فيصمى فيهزم، وشتان بين هذا وبين العمل الأدبي الذي يقيمه صاحبه على أساس من الفن وتكون قوامه فكرة إيجابية فيبنى كما يهدم ويتبين ما يأخذ مما يدع، ويتفنن في إبداع الصورة وفي اختيار اللفظ وإحكام النسج لكي يجمع بين وضوح الفكرة وجمال الأداء.

لهذا كان يجمع ملتن في كتيباته هذه بين السمو والإسفاف والبلاغة والركاكة والجودة والغثاثة، والحجة الناصعة والشتائم المقذعة، والفسلفة الرصينة والتفاهة المشينة، والغرض النبيل والطعن الشخصي الوبيل، لا يعنيه إلا أن يؤلم ويوجع ويشفى سخيمة صدره، وأن يكون من وراء كتيباته أثر عميق في أهان الناس ونفوسهم وضجيج شديد يتجاوب العصر صداه. ولقد نجح فيما أراد نجاحا كبيرا فهز نفوس قومه هزا قويا وزلزل القساوسة زلزالا شديدا.

وكان الأسلوب ملتن في الجملة أسلوب الشاعر العظيم إذا كتب على غير أصالة منه في النثر، لذلك كان يأتي بكثير من الصور والآيلة الشعرية في مجازاته وتشبيهاته واستعاراته ويستغرق في المحسنات اللفظية ما وسعه الاستغراق، كما كان يعمد إلى الميثولوجيا أحيانا فيخيل إليك من بعض فقراته أنك تلقاء شعر لا ينقصه إلا الوزن والقافية، على أنك تقع بين الفينة والفينة على صفحات له يشرف بها على الغاية من بلاغة العبارة وإشراق اللفظ ومتانة السياق وبراعة الاتزان بين الجمل والاتساق.

أما آراؤه التي أوردها فيها وإن لم يقصد إلى ذلك فترينا أنه كان حتى ذلك الوقت مؤمنا بعقيدة الثالوث في أصالتها وإن كان برسبتيريا من حيث دارة الكنيسة، بيوريتانياً من حيث المذهب مع شيء غير قليل من الاعتدال، ملكيا من حيث السياسة، كما ترينا أن أقوى عواطفه يومئذ كانت عاطفة الدفاع عن الحرية وشدة محبته إياها. . .

على أن حبه الشديد للحرية سينتهي به فيما سنرى من تطور فكره إلى انطلاقه من تلك الآراء جميعا، فينفر من عقيدة الثالوث ومن مثيلاتها من العقائد لأنها تستند إلى العقل ولا تتفق مع ما يحب من حرية الفكر، وينفر من البرسبتيرية لأنها نظام جامد لا تسلم له أن يعيش ويفكر كما يرى، وينفر من الملكية لأنها سوف تقيم الدليل في السنوات المقبلة على تمسكها بالاستبداد وكراهتها روح الحرية.

ولقد كانت هذه الكتيبات آخر ما كتب وقلبه عامر بالأمن ونفسه متطلعة إلى النصر، فلسوف تنهار الآمال واحدا بعد واحد، فيتزوج بعذراء فيجد الصدمة الأولى لآرائه وكبريائه في هذا الزواج ويكون من أشد ما يعكر عليه مستقبل حياته؛ وتظهر له البرسبتيرية وليست أقل تعصبا وحماقة من الأسقفية؛ ويلتفت باحثا عن الحرية فلا تنزل من السماء كما أمل واستبشر لتجعل من انجلترة مدينة الله على الارض، ويقلب الشاعر كفيه في حسرة ويبتئس قلبه الكبير وتنكدر روحه العظيمة فيفقد الثقة في الأرض ومن عليها ويتجه ببصره صوب السماء، ويلتمس في التغني بألحان فردوسه العزاء.

(يتبع)

الخفيف